Menu

من يحمي السلم الأهلي في مجتمعنا من جرائم القتل المتصاعدة ؟

راسم عبيدات

واضح بأن كل الخطوات والإجراءات لتقليل نسبة العنف والجرائم في مجتمعنا الفلسطيني على طول مساحة فلسطين التاريخية، لم تعط أية نتائج إيجابية، بل نرى ونلمس بأن هذه الموجه ذاهبة بنا نحو التدمير الذاتي من خلال هتك وتدمير وتفكيك نسيجنا المجتمعي، وخلق ثارات وندوب وجروح عميقة في المجتمع، قد يصبح من الصعب دملها إذا ما استمر الحال على ما هو عليه، وبقي سقف الحلول "فنجان القهوة" ذي الفعالية السحرية و"طبطبة" الأمور وإبقاء النار مشتعلة تحت الرماد، عبر حلول ترقيعية، عنوانها التسامح والمحبة والوحدة والأخوة والكرم العربي الأصيل وغيرها من العبارات والأسطوانات المشروخة، التي لا تصمد على أرض الواقع، حيث نرى ان تلك الحلول والعبارات التمجيدية تسقط في اول اختبار، وان النيران تشتعل على نحو أوسع وأشمل، مع أي خلاف جديد يطفو على السطح، حتى ولو كان لأتفه الأسباب، وفي معاركنا وخلافاتنا العائلية والعشائرية والطائفية،لا نحتكم الى القيم والأخلاق وروابط الدم والدين والوطن،فجميعها تسقط تحت سلوك وطقوس بوهيمية.

في كل مرة ترتكب فيها جريمة قتل أو اكثر في مجتمعنا الفلسطيني يتجدد الحديث عن السلم المجتمعي والأهلي، وبأن القتل والعنف والجرائم غريبة عن مجتمعنا العربي وعاداتنا وتقاليدنا وديننا الذي يدعو للمحبة والتسامح،وتعقد اللقاءات والإجتماعات والندوات وتتشكل اللجان المختلفة عشائرية ووطنية ومجتمعية ومؤسساتية،للتنديد والإستنكار وعقد راية الصلح والتسامح، ويتم استخدام نفس العبارات والإنشاء للوصول الى الحل، حيث يتبارى ويتبارز "وجوه" الخير والإصلاح ورجال العشائر وممثلو القوى الوطنية في إستحضار كل قوة وبلاغة اللغة وإستذكار الآيات القرانية والأحاديث النبوية وسيرة الأنبياء والرسل والصحابة والشهداء والقادة والأسرى والمناضلين من اجل التأثير والتطويع لعقد راية الصلح والحل.

وعند الوصول الى الحل، بعد معارك إنشائية طاحنة ومسرحية هزيلة ، أصبحت لازمة من لوازم الحل، تبدأ بالمطالبة بدفع مئة ألف دينار على سبيل المثال، وبعد خصم ثلث المبلغ ولله وللرسول والشهداء ووجوه الخير تنتهي الأمور الى خمسة ألآف دينار، أو لربما الى فنجان قهوة، ومن ثم تطرح "المناسف" العربية الأصيلة على روح المرحوم. وطبعاً تلك الحلول لا تشتمل على وجود أية آليات تنفيذية، مما يجعل تلك الحلول من الصعب اختراقها او تجاوزها.

العنف المتولد والمتزايد في مجتمعنا العربي والفلسطيني، له بيئة حاضنة تغذيه وتساعد على إنتشاره، وعلينا مغادرة عقلية ومربع التبرير والذرائع بأن الإحتلال هو المسؤول عن كل ما يحدث من عنف وجرائم في مجتمعنا، متجاهلين غياب الوعي والتثقيف والتربية، وإنهيار وتراجع القيم، وسيادة أنماط غريبة من ثقافة الدروشة والشعوذة والحجر على العقول، وتعويد وتربية الناس على مقولات بائسة "من لا يحميه شره لا يحميه خيره".

العنف المنتشر في مجتمعنا ينمو ويتصاعد، كما هي النار في الهشيم، يجد حاضنته فيما يحدث من حولنا في الوطن العربي، حيث الحروب المذهبية والطائفية تفعل فعلها بشكل ينذر بمخاطر جدية وحقيقية، فالعنف المتولد والمتصاعد، أصبح يشكل خطراً جدياً ووجودياً على النسيج المجتمعي والوطني، وكذلك تداعياته تخلق ندوباً وثارات مستديمة يصعب محوها، ويشرد وعائلات بأكملها، ويفكك اللحمة والنسيج الإجتماعي، ويفتك بالشباب، عماد المجتمع ومستقبله، ويعمق من العشائرية والقبلية والجهوية ويعلي شانها فوق أي إنتماء وطني او حزبي.

لم تعد تجدي المعالجات السابقة من "طبطبة" و"لملمة " للطابق، فالكثير من تلك المعالجات تولد حالة من الظلم الإجتماعي، وغالبا ما تكون مرتبطة بضرورة تقديم الطرف الضعيف تنازلات تمس حقوقه للطرف المعتدي، الذي في الغالب يجد من يناصره ومن يقف معه .

نحن الآن بحاجة الى عمل ممأسس لمواجهة هذه الظاهرة الخطيرة، من خلال جهد جماعي يتكامل وتتشارك فيه كل من القوى والأحزاب والسلطة الفلسطينية أينما وجدت، ورجال الإصلاح والعشائر ومؤسسات المجتمع المدني، بحيث تتم التوعية والتثقيف بثقافة التسامح والمحبة والإخاء واعتماد الحوار كأسلوب حضاري في التعاطي ومعالجة المشاكل، مع عزل ومحاصرة كل العناوين والرموز بمختلف مسمياتها التي تستغل المنابر أو دور العبادة للتحريض ونشر الفتن، بدل حض الناس على التكاتف والتضامن وتعزيز الوحدة والتلاحم بين كل مكونات المجتمع.

إن الحل لهذا العنف المتصاعد لا يتاتى من خلال العمل الإستعراضي والإعلامي فقط، بل نحن بحاجة الى جهد جدي وحقيقي،لكي يتم محاصرة هذه الظاهرة والتقليل من مخاطرها، وهنا يجب العمل على تأسيس مجالس أو لجان ذات اختصاص للسلم الأهلي والمجتمعي كذراع رسمي في الداخل الفلسطيني – 48 – لجنة المتابعة العربية العليا، وفي القدس القوى والمؤسسات الوطنية، وفي الضفة الغربية القوى الوطنية واجهزة السلطة، وما ينطبق على الضفة ينطبق على القطاع.

المجالس المشكلة تأخذ على عاتقها القيام بوضع لوائح وأنظمة ورؤى لكيفية معالجة ظاهرة العنف، وحيثما أمكن الإستعانة بتطبيق القانون يكون له الأولية على الحلول العشائرية والقبلية، والشعار الناظم لهذه المجالس "لا حماية ولا حضانة ولا تستر على من يمارسون العنف والبلطجة في مجتمعاتنا"، وبالضرورة أن تتم المعالجة من خلال الوحدات الإجتماعية القاعدية، فالمنهاج التعليمي في المدارس، ضمن مادة التربية الوطنية، يخصص دروساً لنشر قيم التسامح والمحبة وإحترام الآخر وحل الخلافات من خلال الحوار كأسلوب حضاري، وكذلك على رجال الدين مسلمين ومسيحيين، أن يؤكدوا في خطبهم الدينية والوعظية في المساجد والكنائس على قيم التسامح والمحبة وإحترام الآخر فرداً وعقيدة، وتبصير الناس بأن المستفيد الأول من أي خلافات أو صراعات داخل مجتمعاتنا، هو العدو الذي يبني وجوده على أساس صراعاتنا وخلافتنا وفرقتنا، وبالضرورة تعرية وفضح ولجم كل القوى المغرقة في التطرف والعصبوية، واعتبارها مجموعات دخيلة وليست حجة على هذه الديانة أو تلك، في ظل ما نشهده من انتشار أفكار وظواهر دخيلة مثل "داعش" وغيرها.

وهناك ضرورة للعمل على رعاية والقيام بسلسلة من الفعاليات الإجتماعية والثقافية ذات الطابع التوعوي حول مخاطر هذه الظاهرة وتداعياتها.

ويجب على المجالس العليا للسلم الأهلي والمجتمعي أن تقيم لها لجاناً محلية وفرعية، وهذه اللجان تتم دعوتها الى مؤتمر عام يجري فيه نقاش كافة القضايا المجتمعية التي تحتاج الى معالجات جدية، مثل الخلافات العشائرية، والقبلية، الإحتراب القبلي والعشائري، "الطوش" والمشاكل ذات البعد الإجتماعي، دراسة العديد من الظواهر والعادات وتحديثها وتطويرها أو الإستغتاء عنها بما يتلاءم مع المتغيرات وروح العصر، وبما يخدم مجتمعنا العربي ونسيجه الإجتماعي.

حماية النسيج الإجتماعي والتصدي لظاهرة العنف المتفشية والمتصاعدة في مجتمعنا، يجب ان يشكلا أولوية قصوى عند صناع القرار، فالمخاطر والتداعيات كبيرة جدا وتصل حد الخطر الوجودي.