Menu

في احتفالية ميلاد الشاعر العظيم

وليد عبد الرحيم: درويش أيقونة ذاكرة روحية ومعرفية وحرف راسخ

دمشق _ حاورته لبنى حسن

س: كيف ينظر شاعر أو كاتب ما إلى شاعر أو كاتب آخر؟

ج: المسألة هنا متباينة بين فرد وآخر، سواء أكان منتجاً لنص شعري أو لأدبي من نوع آخر، أو حتى إن كان قارئاً عادياً وحسب، فالمسالة هنا تتعلق بأمرين، طبيعة وسوية وفحوى المعنى الشعري ووجهة العين التقييمية، هذا من ناحية، ومن أخرى بالمقابل هناك مشهدية الطرف الآخر عامةً، أعني منتج النص ذاته، وبحسب عنوان هذا السؤال فإنك تقصدين درويش بالتأكيد

. فيما يخص هذا الشاعر، سأعترف بأنني لا أراه شاعرا بقدر ما يمكن أن أصنفه نقدياً على أنه مدينة متكاملة من الشعر، تحتوي القلاع والأزقة والمشافي والمطارات وزهور الشرفات الموصدة، رائحة الطفولة والوطن المفتقد وحقائب الفوضى اليومية.

س: أيعني هذا استقلالية مملكة محمود درويش الشعرية عن غيرها مثلاً، أو بمعنى آخر تميزها المطلق؟

ج: لا مطلق في هذه المسألة، ومن الممكن أن يحتل هذا المطلق حيزاً أو مربعا ما ضمن رقعة شطرنج القصيدة العالمية ومنها العربية، أو بتعبير آخر أنه يلتحف بالمطلقية، وهنا اسمحي لي بالتحديد وبالتدقيق أكثر لأقول بأن مدينة درويش مدينة مستقلة بكُليتها، بمفرداتها ودلالاتها ومعانيها، برمزيتها ومجازاتها وعمق أُسها الرؤيوي.

س: لنقل أن لكل مدينة مفاتيحها، ما هي مفاتيح مدينة درويش؟

ج لا أبواب محددة للمدينة الدرويشية، سوى الباب الحسي ربما، وبإمكاني وصف أبواب البناء الشعري لدرويش بعبارات قد تبدو سطحية أو مكررة لأول وهلة، فالحسي لا يُغني أو ينفصل عن المكتسب الثقافي والذائقة والشكل أعني البناء الشكلاني، وسأكون أكثر شجاعة للقول بأن بنيانه الشعري بنيان خبيث بالمعنى الإيجابي لما يعرف بالتوريط الفني للقارئ، وهذا الأمر يتعلق بالقدرة والخبرة والبراعة، فهو يجعل القارئ سائراً بين تفاصيل تراكيبه وصوره ومفرداته بإرادته كأسير للحالة ناظراً إلى الأعالي الروحية والمعرفية ومفعماً بالحس الفردي النوعي الذي يتكرس من خلال أسلوبية وتراكيب مفردات باهظة المعنى والمبنى.

س: كيف يكون هذا التركيب المعقد فنياً ؟

ج: أستذكر فور سؤالك الآن بدايات قراءته من قبلي وكانت من خلال مطولة رائعة له بعنوان: "تلك صورتها وهذا انتحار العاشق" وعندما أعدت قراءتها بعد نضج معرفي وشعري نسبي اقتنعت بأنه خطَّ من خلالها حدود مدينته أو مملكته كما سميتها أنت، حيث شيد فيها نثرات طفولته وتجربته ونضجه وأشاد طواحينه الدرامية فيها، في تلك القصيدة على ما أعتقد كان اكتمال حلم القصيدة عند درويش وقبلها كان شعره مجرد بوح جميل ومقاوم ومتألم وساخط.

ويجدر بي القول بأن تلك كانت التجربة الثانية في القصيدة الدرامية العربية، لقد سبقه زمنياً سميح القاسم بقصيدة " اسكندرونة في رحلة الداخل والخارج" التي أقيّمها شخصياً بأنها أجمل وأنضج ما كتب سميح، كما وأنها أول قصيدة عربية حققت شروط وعوالم قصيدة الدراما كما اصطلح نقدياً على تسميتها.

درويش بعد " تلك صورتها" استمر في خوض الغمار، فأنجز بعد سنوات" أحمد الزعتر" التي برأيي رسمت نهائياً ورسخت أسس قصيدته إن لم أقل مدرسته الشعرية، عقبها صار درويش مختلفاً حقيقياً ومميزاً بوضوح ومتفرد، بعد أن بنى مخططا شعرياً لذاته ورسمه على صفحات مخيلته وحلمه، ففي أحمد الزعتر غنى المأساة بطريقة غير معهودة عالميا تمتزج فيها بكل عناية الرمزية بالتراجيديا بالبنيوية بالدرامية والرومانس والصعلكة كل ذلك مع فخامة الجهد اللغوي المبذول. وعلى صعيد الشكل فإن أهم ما ثبته درويش الشاعرهو دفق التفعيلة السلس، إلى أن توصل قبيل غيابه جسدياً إلى جعل المنظوم ،أي المبني موسيقياً على التفعيلة، وكأنه في ذات البوتقة نثرُ دفقٌ هادئ وسلس.

س: سوف أنتقل إلى السؤال الآن عن سبب هذا الاحتفال العالمي الواسع هذا العام تحديداً بميلاد محمود درويش ، من صحف وفضائيات ووسائل الكترونية مختلفة؟ بخاصة وأنك شاركت شخصياً في العديد منها؟.

ج: في الواقع، لطالما أعتقدتُ بأنه كلما مرت السنون فإن العالم سوف يكتشف درويش بعمق أكثر، وهو ما سيُنتج ارتفاع التقدير لجهده وتجلياته، ويسحق محاولات اللوبيات الصهيونية الفاشلة بتحجيم صوته واسمه، أظن العام القادم سيكون الاحتفال به أكثر اتساعاً وتنوعاً، وكان هذا العام فاتحة جديدة باعتقادي لمرحلة قادمة بالنسبة للنظر إلى قيمة ومجهود هذا الشاعر العالمي، وهنا أود الإشارة –لأهميتها- إلى التنوع الكبير في طبيعة وخلفيات ومواقف الجهات التي احتفت بذكراه هذا العام، والأجمل أنها في ذكرى ميلاده لا وفاته فالمعنى مختلف هنا ، إن العالم يشعر بذاك اليوم المهم الذي ولد فيه محمود درويش ولا يحتفل بوفاته كما جرت عادة الاحتفال بالمبدعين وهذا حدثٌ جلل وذو دلالات عميقة!.

س: أشعر ربما بمديح له من قبلك!، لقد صرح محمود  درويش ذات يوم في إحدى مقابلاته إن أغلب نقاده هم إما مدَّاحون او هجّاؤون او يسعون  لقراء سيرة شخصية، هل تغيرت النظرة النقدية لشعره الآن، أي بات التعامل معه كشخصية عالمية ادبية تُدرس؟ ولماذا يُعد محمود أحد شعراء قصيدة الشعر المعاصر منذ بدايته، مثلاً، ما الذي ميز شعره في تلك الحقبة عن اقرانه من جيل الخمسينيات؟

ج: هذا سؤالان في بوتقة واحدة، ولا أظنها مصادفة منك، فيما يخص الشق الأول كان المدح والهجاء سابقاً مبنياً على اعتبارات سياسية تخص الفلسطينيين والعرب، أعني وجهة النظر المبنية على الموقف الإيديولوجي والسياسي لا النص الشعري، وسادت مثلاً قصيدة " سجل أنا عربي" ، في حين كانت له قصائد بل ودواوين أعلى سوية وأرق جمالية، لكن مرحلة الخمسينات والستينات والسبعينات كانت لحظات حداثة وسخونة المأساة الفلسطينية زمنياً، ثم جذوة المقاومة الفلسطينية التي صنعت من المأساة مشروعاً تحررياً اخترق الآفاق، هنا تميز درويش من خلال شعر المقاومة لا من حيث المضمون والحداثوية أو من حيث الشكل والجمالية العالية، الأمر الذي جعله قابلاً للانتشار بل والريادة، ولا أنكر هنا استباقاً لما قد تسألينه عن " خدمة القضية له"، نعم فقضية درويش خدمت انتشاره وقصيدته خدمت قضية شعبه، تلك كانت علاقة جدلية.

س: إذن، عُدّ شعر محمود درويش نموذجاً مثاليا للشاعر العربي المعاصر ومن الأمور التي ساهمت في نمو واتساع انتشار شعره قضية وطنه وما يواجهه العصر من اختلال واختلافات في القيم والانظمة بالإضافة الى حالة الانسان الجديد، برايك لو كان درويش حاضراً في ظل هذه التطورات الفلسطينية ماذا سيكون رأيه في الواقع الآن؟

ج: هذا سؤال صعب وخطير، أفهم بواطنه، لكنْ أحب التذكير بأن محمود استقال من عضوية اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير احتجاجاً على اتفاق أوسلو، أعتقد بأن هذه الإجابة كافية!.

س: بحكم معرفتك الشخصية بمحمود درويش هل من الممكن أن تحدثنا عن درويش الإنسان وليس الشاعر، أعني من خلال شخصيته لا شعره؟

ج: أولاً أحب الإشارة إلى أن درويش بالنسبة لي يحتل صفة معلم، وأنا أفتخر بذلك، وأعلم بأن العديدين يعتقدون بأن صداقة شخصية كانت بيننا، ربما بسبب الصور المنشورة والحوارات، إن صفة صداقة بالمعنى العميق غير صحيحة تماماً وهي صحيحة نسبياً، فلقاءاتي به لم تكن دائمة أو يومية أو متواصلة، لكن كان هناك العديد من اللقاءات المهمة بالنسبة لي على الأقل، وأجريت معه حوارين مهمين على ما أرى، الأول كان على ما أذكر في 2005 وقد نشر في ملحق المستقبل الثقافي اللبنانية، بصحبة الراحل صالح موسى، والثاني لم ينشر أبداً، فقد ذهب أدراج الحرب، كنتُ قد سجلته على كاسيت صوتي وضاع مع مكتبتي المحترقة وبيتي المهدم في مخيم اليرموك، وأظنه كان حواراً مهماً غاية في العمق والمهنية، باح فيه محمود بما لم يبح به من قبل، وأنا متحسر لإهمالي ذاك، فقد كان من الممكن أن أضع هذا الكاسيت في جيبي مثلاً، لكن لأسباب تلقائية تتعلق بالظروف العامة فإن ذلك لم يحدث.

س: أخيراً كيف يمكن أن تصف المعلم كما سميته؟

ج: محمود درويش هو وهج فلسطين الشعرية، فلسطين بمعناها الإنساني الواسع التي أراها تخص كل إنسان حالم حقيقي في هذا العالم، هو أيقونة ذاكرة روحية ومعرفية، وحرف راسخ وبعض صراخ أنتج وعياً مختلفاً، وكفى!.