من مدينةِ بئرِ السبعِ إلى شارع "ديزنغوف" في عمقِ دولةِ الاحتلال، مرورًا ببلدة الخضيرة وحي "بني براك".. تتوالى ضرباتُ الفدائيّين الأشاوس، معلنةً التحوّلَ النوعيّ في وسائل الصراع وأدواته، مبشّرةً بفتح ثغرةٍ في بوّابات الحواجز والمعابر وجدران المنظومة الأمنيّة الصهيونيّة الهشّة.
فلسطين اليوم ملتهبة، إذ بدأت معالمُ مقاومةٍ جديدة بالتشكّل، وهي معالمُ تبدو كأنّها خارج السيطرة الفصائليّة وانقسامها الذي تسبّب بإرباك البوصلة الوطنيّة.
السؤالُ الفلسطينيُّ اليوم، هو سؤالٌ عن أفقِ المشروع الوطنيّ ومصيره الذي تداعى على يد أصحاب منطق أوسلو المستند لافتراض إقامة "دولة فلسطينيّة مستقلّة" عبر المفاوضات، فهذا المنطق بدأ بالتداعي عندما تحوّل سفّاح مجزرة الحرم الابراهيمي في شباط 1994 باروخ غولدشتاين إلى "بطلٍ قوميٍّ صهيوني"! ووصل التداعي إلى ذروته مع اغتيال الرئيس عرفات في تشرين الثاني 2004، واليوم تدقّ حكومة الثنائي "بينيت – لابيد" المسمار الأخير في نعش التسوية عبر إعلانها الواضح: "لا لقاء مع سلطةٍ فلسطينيّةٍ لا سلطة لها"، وأن أقصى ما يمكن تقديمه هو قوْننة الفصل العنصري "الأبارتهايد"، وتحويل "الدولة الموعودة" إلى أحد مفرداته المستعارة.
تأتي العملياتُ الفدائيّةُ البطوليّةُ الأخيرةُ في سياق البحث عن أفقٍ نضاليٍّ – سياسيٍّ جديدٍ، وهو بحثٌ لم يبدأ في الأمس القريب، إذ نجد جذوره في تحرّكاتٍ جماهيريّةٍ ونضاليّة بدأت قبل وبعد الشهيدين: باسل الأعرج وأحمد جرار، وتواصلت في انتفاضة السكاكين المستمرّة، والدلالة الأبرز لهذه العمليّات هي وقوفُ الشعب الفلسطيني اليوم وحيدًا بمواجهة أعتى قوّةٍ وحشيّةٍ في المنطقة، "فإسرائيل" العنصرية بجميع تلاوين طيفها الصهيوني، تتوهم أن الانهيار الرسمي العربي ولهاث الأنظمة العربية للتطبيع معها هو فرصتها "لفرض الحل النهائي" للقضية الفلسطينية، بمعنى إبادة الفلسطينيين سياسيًّا وإخضاعهم للتمييز العنصري وإذلالهم كي يرتضوا بالعبوديّة، فالحلُّ النهائيّ الصهيونيّ يعني الضمّ الفعلي للضفة و القدس وإبقاء غزة في الحصار والجوع، وشطب حقّ عودة اللاجئين إلى ديارهم وممتلكاتهم التي هجّروا منها عام 1948.
الجمعُ بين النضال الجماهيريّ والعمل المسلّح
قدّمت لنا العمليّاتُ الاستشهاديّةُ الأخيرةُ توجّهًا اسمُهُ "المواءمة" بين المقاومة الشعبيّة والمقاومة المسلّحة، وهو توجّهٌ يحتاج لإجماعٍ وتوافقٍ وطنيين واسعين، ليصبح برنامجًا سياسيًّا وطنيًّا شاملًا يتم تبنيه في الضفة وغزة والقدس، تمهيدًا لتحويله إلى إطارٍ جامعٍ عبرَ انضمامِ الشتات إليه، وهو يعني أنّ كل النقاشات السابقة بشأن المحاصصة الفصائلية قد سقطت، وأن كل اللقاءات والحوارات التي جرت كانت مجرّد صراعٍ على السلطة في مؤسّسات أهل أوسلو، فهذا الصراع لم يعد له ما يسوّغه بعد أن فقدت السلطة سلطتها، والمطلوب اليوم بناءٌ جبهويٌّ عريضٌ ينطلق من أرض النضال الجماهيري والمسلّح، ويؤسّس لمعركةٍ مفتوحةٍ طويلةِ النفس عنوانها: البقاء في الأرض والدفاع عنها، وتحمل شعارين سياسيين:
- الانسحاب الإسرائيلي بلا قيدٍ ولا شرطٍ من الأراضي المحتلّة وتفكيك جميع المستعمرات.
- إنجاز حق تقرير المصير وعودة اللاجئين.
الشعاران ليسا متعارضين بل يكملان بعضهما البعض، فالعودة وتقرير المصير هو شعار كلّ الشعب الفلسطيني، ويجب أن يبقى في صدارة المشهد السياسي، أما الانسحاب وتفكيك المستعمرات فهو حقٌّ تأسيسيٌّ مشروعٌ حتى في حال تبني شعار "الدولة الديمقراطية العلمانية الواحدة"، وهذا الهدف الأخير لا معنى له إلا إذا تم الإقرار بحقوق الشعب الفلسطيني كاملةً، وفي المقدّمة منها تقريرُ المصير فوق ترابه الوطني، كما أن النضال الجماهيري لا يعني التخلّي عن السلاح، بل يقتضي اختيار الأسلوب الأكثر نجاعة وديناميّة كفاحيّة، وسط هذه الصحراء السياسيّة العربيّة التي تطوّق فلسطين وشعبها!
عندما رثى العنصريّ الصهيونيّ "نفتالي بينت" قتلاه في "حي بني براك وشارع ديزنغوف" فهو كان يرثي "الحلم الصهيوني" الذي لم ولن يكون سوى كابوس، فهذا المتطرف المأفون كشف عن المأزق الأخلاقي الإنساني "لإسرائيل" أمام بوابات القدس وغزة وجنين وطولكرم ونابلس، وفي كل فلسطين.
مهما يكن، لم يتوقف الشعب الفلسطيني منذ 74 عامًا عن قرع بوابات القدس والمدن الفلسطينية الأخرى المقفلة بالعنصريّة والكراهية، وسيواصل هذا القرع إلى أن تنكسر الأقفال وتفتح فلسطين ذراعيها لأبنائها العائدين إليها المجبولين بماء الأرض وطينها، حيث صنعوا من تضحياتهم أبوابًا جديدةً للحياة والتنمية والتطوّر.
تحت مظلّة الانقسام والاحتلال
لعلّ أخطر نتائج الانقسام أن كلا البرنامجين، برنامج الحياة مفاوضات، وبرنامج المقاومة بالطريقة المختزلة الموسميّة، اصطدما بجدارٍ ووصلا إلى طريقٍ مسدود؛ الأمرُ الذي يعني أن الشعب الفلسطيني بات أعزلًا، فلا مفاوضات ولا مقاومة، إنّما زجّ به تحت مظلّة الانقسام في فضاءٍ فارغٍ فقد فيه بوصلته، واضطرب سلّم أولوياته، وأدخل في حالةٍ من التيه والضياع، وينبغي عدم إغفال تداعيات الانقسام الأخرى من حيث تصدّع منظومة القيم التي شكّلت ناظمًا لعلاقات الفصائل والمؤسّسات الوطنيّة وأبناء الشعب بعضهم ببعض.
وقد وفّر هذا الوضع المرير فرصةً لدولة الاحتلال تحديدًا التيّارات العنصريّة المتطرّفة الحاكمة، كي تنفذ فصولًا إضافيّةً من مشروعها الاستيطانيَ الكولونيالي الإحلالي، ويمكن قراءة ذلك بكل وضوحٍ من خلال التشريعات والميزانيات التي خصصتها حكومات الاحتلال المتعاقبة لإطباق السيطرة على الضفة والقدس وتهويدهما، وتعزيز الاستيطان في كلّ فلسطين لخلق واقعٍ جديدٍ علاوةً على حرب الاستنزاف التي تشنها على شعبنا متمثّلةً بعمليّات المداهمة والقهر والقتل والاعتقال، الهادفة لاستنزاف طاقته وضخّ مشاعر الإحباط واليأس بقدرته على انتزاع حريّته وحقّه بتقرير مصيره واستقلاله الناجز فوق ترابه الوطني.
إنّ حركة التحرّر الوطني التي استمدّت شرعيّتها الشعبيّة من وعدها للشعب بقيادة نضاله وصولًا لإنجاز حقوقه الوطنيّة كافةً - وكان هذا مبرّر وجودها – مدعوّةٌ اليوم لعملية تقويمٍ شاملةٍ لتجربتها، والوصول إلى خلاصاتٍ وتوجّهاتٍ حاسمةٍ تستند إلى رؤيا وتشخيصٍ واقعيين للحالة التي وصلنا إليها، ومن أجل بناء مشروعٍ وبرنامجٍ وطني سياسي كفاحي تلتئم في إطاره القوى الفاعلة والوازنة كافة، وأن ينطلق التوافق الوطني من حقيقة المبرر الرئيسي لوجود جميع الفصائل والقوى والأحزاب؛ الأمرُ الذي يستدعي الإجماع على الوسائل والأدوات الأمثل للتصدي للاحتلال ومشاريعه التصفوية، وهي وسائلُ وأدواتٌ تمكّنُ من تعديل ميزان القوى بيننا وبين الاحتلال وصولًا لانتزاع زمام المبادرة وفرض برنامج التحرر والاستقلال الناجز على واقع الصراع مع هذا الاحتلال الأطول في التاريخ المعاصر.
إنّ تحقيق ما تقدّم يعتمدُ على:
- إعادة بناء منظّمة التحرير الفلسطينيّة بشكلٍ يضمنُ مشاركة جميع القوى الفاعلة والمؤثّرة، على أسسٍ ديمقراطيّةٍ تعزّز حالة التنوّع في المجتمع الفلسطيني وتكريس مفهوم الشراكة الوطنيّة في العمل والنضال والقرار السياسي والكفاحي، وكذلك إعادة بناء المنظّمات والاتّحادات والمؤسّسات المنضوية في إطار "م. ت. ف" وتحديدًا اتّحادات "العمّال، الطلّاب، المرأة، المعلّمين، الأطباء، المهندسين، الصيادلة، والكتّاب".
- التوافق على مشروعٍ وطنيٍّ وبرنامجٍ سياسيٍّ واحدٍ يحدّد وبشكلٍ واضحٍ أهداف نضال الشعب الفلسطيني والدخول في معركة الحسم مع الاحتلال وقطعان مستوطنيه عبر انتفاضةٍ شعبيّةٍ شاملة، تبدأ ولا تتوقّف إلا بتحقيق الأهداف الوطنيّة كاملة، وتستند هذه الانتفاضة إلى مشاركةٍ شعبيّةٍ واسعةٍ تستقطب جميع مكوّنات الشعب الفلسطيني في مختلف أماكن وجوده، وإلى ما تراكم من تجربته الكفاحيّة والسياسيّة؛ فسياسيًّا أغلقت دولة الاحتلال الأبواب كلّها وقوّضت الأمل بإنجاز الحريّة والاستقلال عبر التفاوض، أما كفاحيًّا فبات ضروريًّا اعتماد الوسائط والأساليب النضاليّة التي تمكّن من تحويل كلّ فلسطيني قادر إلى فدائي في معركة التحرّر والخلاص الوطني، وتوفير الفضاء الملائم لإبداعات الشباب الذين يساهمون بفتح أفاقٍ واسعةٍ وجديدةٍ للعمل مستفيدين من ثورة الاتّصالات وتقنيات التواصل.
- التحضير الجيد والمتكامل لبناء الهياكل والأطر الميدانيّة، وتوظيف المنابر على تنوّعها لشرح وتعميم برنامج الانتفاضة وآلياتها وأهدافها وضوابطها ومرجعياتها، ومن ثَمَّ تنفيذ البرنامج الكفاحي الميداني ضمن خططٍ وتكتيكاتٍ شهريّةٍ وأسبوعيّة ويوميّة، بحيث يصبح للهيئات واللجان الميدانية صلاحيات شبه مطلقة ضمن روح البرنامج والخطة ومضمونهما، مع تأكيد مرجعة الإطار القيادي الموحد المكلف من "م. ت. ف".
يمتلك الشعب الفلسطيني مخزونًا هائلًا من التجربة الكفاحيّة والإرادة والوعي والاستعداد للتضحيّة، فإنّ ما يبدو اليوم "تفاؤلًا وتوجّهًا طوباويًّا"، يمكن أن يتحوّل غدًا إلى رافعةٍ أساسيّةٍ تنقلنا إلى واقعٍ جديدٍ يضعنا على سكّة التحرّر والعودة وتقرير المصير وإقامة الدولة الديمقراطيّة العلمانيّة الواحدة.