في تشرين الأول من العام الماضي أصدرت محكمة الصلح (الإسرائيلية) قراراً تسمح فيه لليهود بإقامة صلواتهم وشعائرهم التلمودية في باحات الحرم القدس يّ، ولكن بصمت ودون أصوات مرتفعة وقد مرّ هذا القرار مروراً سريعاً ولم يدرك كثير منا أنه كان مقدّمة لما صدر من قرار يوم الأحد الماضي إذ قضت المحكمة ذاتها بالسماح لهم ولكن بصوت مرتفع ومع القيام بالحركات الجسدية الخاصة بالصلوات، هذا قبل أسبوع من مسيرة الأعلام (الإسرائيلية) التي تتسم بالفظاظة والاستفزاز للمشاعر الفلسطينية، إذ إنها تهدف لتذكيرنا بأنّ هزيمتنا مستمرة وأنّ نكبتنا متواصلة، وذلك بالطواف الصاخب داخل القدس العتيقة.
جاء الردّ سريعاً من غرفة العمليات المشتركة لفصائل المقاومة في غزة على هذا القرار القضائيّ، مؤكداً بلغة حاسمة بأنّ فصائل المقاومة لن تسمح لا بتدنيس الحرم القدسي ولا بمسيرة الأعلام في القدس العتيقة، مؤكدة بأنّ «سيف القدس» لم يُغمد بعد، وأنّ الساحات في غزة والضفة الغربية متوحّدة مع الساحة المقدسية، وأنّ المقاومة ستقوم بواجبها في الدفاع عن المدينة المقدسة ومقدساتها وما لبثت أن تتالت تصريحات منفردة من قادة في المقاومة.
الحكومة (الإسرائيلية) من جانبها قالت إن لا تغيير على الواقع القائم في المسجد الأقصى دون أن توضح ما هو الوضع القائم الذي تريده أن يبقى قائماً، لذلك ستتقدّم باستئناف طاعن لقرار محكمة الصلح المذكورة، لكن اليمين القوي والعدواني لا يعترف أصلاً بوجود مكان إسلامي مقدس وإنما جبل الهيكل اليهودي الخالص، الذي أقيم عليه هيكلهم في السابق وما يجب عليهم إعادة بنائه. وجاء قرار المحكمة ليتناغم مع ذلك الاعتقاد، ومن المعروف أنّ القضاء في (إسرائيل)على قدر من الاستقلال، في حال كان التقاضي بين اليهود، وليس عندما يكون أحد أطراف التقاضي فلسطينياً أو عندما تكون الدعوى لها علاقة بالأرض او الحقوق الفلسطينية .
أمام تهديدات غزة بدا أنّ رأياً عاماً واسع الطيف قد أخذ بالتشكل في تل أبيب يذهب باتجاه أنّ إطلاق مسيرة الأعلام قد أصبحت مسألة ضروريّة حتى لو كانت أكلافها عالية وقد تصل إلى حدود اشتباك غير مأمون العواقب، هذا ما صرّح به وزير الدفاع بيني غانتس الثلاثاء الماضي بأن حظر مسيرة الأعلام أمر يهدّد وحدة الحكومة وسلامة الائتلاف الحاكم، كما أنه يضع (إسرائيل) في صورة الضعيف أمام تهديدات غزة التي تريد أن تبدو بمظهر من يفرض علينا ما هو مسموح من قبلها وما هو محظور، لذلك لا محيد عن إطلاق المسيرة وبمسارها المعتاد التي سيرتفع بها تسعه آلاف علم (إسرائيلي) على امتداد اثنين وستين كيلومتراً، ولكن مع انتشار واسع للشرطة لتحول دون أيّ تخريب أو اشتباك أو اقتحام للمسجد الأقصى، وللسيطرة على الهتافات والشعارات التي سترافق المسيرة كي لا تكون مستفزة للفلسطينيين (حسب القول الإسرائيلي)؛ وهو أمر قد لا تستطيع الشرطة السيطرة عليه بوجود هذه الجموع اليمينية الغفيرة والنفوس المشبعة بالعنف والحقد والتوحش .
غزة التي أعلنت بصراحة أنها لن تسمح بذلك وستردّ عليه، ولكنها استحوطت ليوم الحسم بعدم إعلان شكل الردّ ومصدره، فهل سيكون على طريقه رمضان ما قبل الماضي في «سيف القدس» غير المُغمَد، حسب التصريحات، إذ تنهال الصواريخ وتحلق المسيّرات على منطقة تل أبيب، وبالطبع سيكون الردّ (الإسرائيلي) بقصف غزة وباللجوء إلى القوة التدميرية
التي لا تزال غزة لم تعالج آثارها منذ عام 2014، أم أنها ستفعل أدواتها التعبوية والعسكرية في الضفة والقدس. وعند هذه النقطة نستذكر تصريحات الشيخ صالح العاروري في رمضان الماضي عندما طالب المرابطون بالأقصى غزة بأن تقصف غزة فكان ردّ الشيخ العاروري انّ على أهل القدس والضفة الغربية أن يعتمدوا على أنفسهم، وأنّ غزة هي العمق الاستراتيجيّ لهم لكن الردّ على العدوان ا(لإسرائيلي) لا يفترض إطلاق الصواريخ فلكلّ منطقة فلسطينية أسلوبها في المقاومة.
تحوّلت معركة القدس والمسجد الأقصى لأن تصبح معركة إقليمية بامتياز وإنْ كانت أدواتها مقدسية ـ فلسطينية، أطراف إقليمية ترى في القدس مكاناً لا يمكن التفريط به وتراه محركاً لاستمرار المقاومة ثم انّ الدفاع عن مقدسات بوزن القدس ومسجدها يضاعف من شرعيه المدافع الدينية والقومية وترى أن المواجهة على هذه الساحة هي مسألة لا يمكن نقدها، فيما ترى أطراف إقليمية أخرى ضرورة التهدئة إنْ بسبب علاقاتها وتطبيعها المعلن أو شبه المعلن مع (إسرائيل) كقطر صاحبة المنحة الشهرية وتركيا التي يزور وزير خارجيتها تل أبيب حالياً، أو بسبب القلق من ارتدادات التوتر في القدس على أمنهم الداخلي، كما هي حال مصر والأردن
يوم الأحد المقبل سيكون يوماً حابساً للأنفاس، قد ينقضي بهدوء ولكن في طياته رياح وعواصف، منها ما قاله قائد الحرس الثوري الإيراني من صيحات ثار لأحبة لم ينسهم ومنها ما علّق عليه (الإسرائيلي) بأنّ عليه أخذ هذه التهديدات بجدية. هكذا ترتسم خطوط معركة موعدها المفترض يوم الأحد المقبل، وكلّ طرف فيها يستعدّ لها بالتصريحات والتهديدات التي تحتاج لإثبات وجدية إذا وقعت المعركة التي سيشارك ويتأثر بها حكماً غير المبادرين لها، فهل ستبقى في إطارها الفلسطيني (الإسرائيلي) أم ستتحوّل إلى دينية أو إقليمية دينية.
*سياسيّ فلسطينيّ مقيم في الكفير ـ جنين ـ فلسطين المحتلة