Menu

سؤالُ فلسطينَ العربيُّ وسؤالُ العربِ الفلسطينيّ.. ملاحظاتٌ على تحوّلاتِ الحالةِ العربيّة

أحمد مصطفى جابر

نشر هذا المقال في العدد 37 من مجلة الهدف الإلكترونية

تمثّلُ السنواتُ الأخيرةُ في تاريخِ الشعبِ الفلسطينيّ التي يقفُ فيها وحدَهُ أمامَ جبروتِ آلةِ الاستعمارِ الصهيونيّة، مناسبةً للتأمّل ومحاولةً للفهم، والإجابةُ على السؤال الذي ما يزال يشغل الكثيرين حولَ تحوّلات الحالة الرسميّة العربيّة من مساندةٍ شبهِ مطلقةٍ للحقّ الفلسطينيّ، ولكفاح الشعب الفلسطيني، وإن شكليّةً وصوتيّة، إلى تواطؤٍ مطلق، سمتُهُ الصمتُ أحيانًا، والتآمرُ العلنيّ أحيانًا أخرى في تحالفٍ مكشوفٍ مع العدوّ، هذا السؤالُ ربّما يكونُ "شعبيًّا" أكثر منه "نخبويًّا"، لأنّ التفكير المنهجيّ في تاريخ تشكّل الأنظمة العربيّة يقود إلى تحديد موضعها السياسيّ وسياق تحوّلاتها هذه، وهي وإن لم تكن تحوّلاتٍ بالمطلق بقدر ما هي انكشافٌ لهذه الأنظمة وبيان وجهها الحقيقيّ الذي تشكّل في فترة ما بعد الاستعمار المباشر عبرَ أنظمةٍ قطر يّةٍ اتّخذت من فلسطين أسبابًا للبقاء ومن قضيّة شعبها سبيلًا لقمع "شعوبها"، ورغم أنّه سؤالٌ "شعبيٌّ" إلّا أنّه ما يزال يعمل مبضعه في جرحنا المفتوح على اتّساع. ينفتح السؤال على آفاقٍ متعدّدة، أجوبتها تتسع للجغرافيا والسياسة والأيدلوجيّة، والثقافة، ولا يعدم العسكر مكانًا فيها.

من الثابت أنّ فلسطين احتلّت مكان الصدارة في الفكرة العربيّة، بل يذهب البعض إلى أنّها كانت سببًا، للفكرة العربيّة وجوهرها، يعود ذلك ربّما إلى أن فلسطين نفسها كانت مبرّرًا بشكلٍ من الأشكال لتآلف العرب وتوحّدهم بقدر ما كان احتلالها، مأزقًا حقيقيًّا وجد العرب أنفسهم فيه وفرض نفسه على أولويات جداول أعمالهم ولعلّهم في حالاتٍ محدّدةٍ استخدموا اسم فلسطين لفرض جدول أعمالٍ بديل، عن متطلّبات التحضّر والحريّة والتنمية الوطنيّة، فكانت بهذا ضربةً معاكسةً ومخاتلةً لفكرة فلسطين والتفافًا عليها، بل لا أظنّني أبتعد عن الموضوع إنْ قلت إنّ فلسطين كانت مبرّرًا لاستمرار أنظمةٍ وسقوط أخرى، انهيار أحزابٍ وسقوط أحزاب، لم يكن غريبًا أبدًا، أن يهتف المتظاهرون من أجل الخبز في بلدٍ عربي لفلسطين و القدس ، وأن يقدم متظاهرون من أجل الديمقراطيّة في بلدٍ آخرَ فلسطين على حريتهم وحقوقهم، كانت فلسطين الاسم السري في الحقيقة للخبز والديمقراطيّة. نالت التيارات الفكريّة أمجادها في خنادق فلسطين، وعندما أعلن عن سقوطها (حقًّا أو زورًا) كان من أبرز الأسباب فشلها في الامتحان الفلسطيني.

ربّما يكونُ السببَ المباشرَ، وهو ما أرجّحه هنا، ترافقُ بدايةِ التفكيرِ القوميّ العربي، وصعود الفكرة القوميّة، مع بداية المشروع الصهيوني، وتحسّس الخطر المباشر على فلسطين. لذلك نستطيع القول إنّ المشروع القومي العربي، واجه منذ البداية المعضلة الفلسطينيّة، وأدرك أصحاب المشروع في المقدّمة أنّ فكرتهم لا يمكن أن تتحقّق ولن يكتب لها النجاح طالما نجح المشروع الصهيوني وتحقّق على الأرض الفلسطينيّة.

ربّما يفسّر ذلك السباق المحموم رغم عدم التكافؤ بين أصحاب المشروعين من أجل التقدّم نحو فلسطين، هذا السباق الذي انتهى بمأساويةٍ في الخامس عشر من أيار، بعد هذا التاريخ نسجّل استمرار الصراع، ولكن بأشكالٍ أخرى، ففي الوقت الذي تجسّد فيه المشروعُ الصهيوني كدولة إسرائيل. لم يستطع المشروعُ العربيّ أن يحقّق دولته، فاكتفى بأقطاره المتحرّرة حديثًا من الاستعمار القديم، وهنا لا بدّ من ملاحظة: أنّه بقدر ما كان استقلال الأقطار العربيّة معبّرًا عن انتصار حركات التحرّر الوطنيّ على الاستعمار القديم، بقدر ما كانت نشأة هذه الأقطار تعبيرًا عن نجاح الاستعمار في إعادة اختراع نفسه في أشكالٍ جديدةٍ من جهة، وعن فشل المشروع القوميّ من جهةٍ أخرى، وبقدر ما كانت النكبة تتويجًا للحالتين: إعادة تكييف الاستعمار وفشل المشروع القوميّ. عبّر السياق عن نفسه بأشكالٍ متنوّعة، فالدولُ العربيّةُ المستقلّة آنذاك - التي صنّفت بأنّها رجعيّةٌ أو استمرارٌ للاستعمار، باستثناءاتٍ محدّدةٍ ضمنَ شروطٍ خاصّة، لم تستطع – ولو رغبت في ذلك - الانسحاب من القضيّة الفلسطينيّة، لذلك، قاتلوا جميعًا، ولو شكليًّا، بسلاحٍ فاسدٍ أو أوامر كسولة، تهرّبوا من القتال الفعلي، لكنّهم لم يستطيعوا التهرّب من ضرورةِ ادّعاء القتال؛ لأنَّ مشروعيّتهم كانت على المحكّ، ففلسطين كانت – ومازالت رغمَ ضبابيّة المشهد- تعطي المشروعيّة وتسحبها، تبارك هذا النظام وتلعن ذاك، وهنا المفارقة المأساوية، ففي الوقت نفسه الذي كانت فيه فلسطين على رأس جدول الأعمال، احتلّت فكرة التخلّص منها بأيّ شكلٍ من الأشكال مكانًا رئيسيًّا أيضًا على الجدول نفسه.

ويمكننا في هذهِ العجالةِ أن نصنّف – إن صحّ التصنيف - اتّجاهات الأنظمة العربيّة نحو القضيّة المركزيّة ضمن نمطين رئيسين، الأنظمة التي كانت استمرارًا لأوضاع الحالة الاستعماريّة، أو ما سأسمّيه هنا بالأنظمة التقليديّة التي استمرّت محافظةً على أشكالها وتقاليدها، فما بعد النكبة هو ما قبلها، ومن ثَمَّ بقي تعاطيها مع القضيّة الفلسطينيّة، على أساس أنّها عبءٌ لا بدَّ منه، شرٌّ لا بدَّ منه، وسببٌ وجيهٌ جدًّا لاستمرار تردي الأوضاع الداخليّة بحجّة تحرير فلسطين.

النمطُ الثاني هو تلك الأنظمة التي جاءت بنشأتها لتمثّل ردًّا أريد له أن يكون جذريًّا على النكبة وما أدّى إليها، وبقدر ما أصدرت خطابًا خارجيًّا سياسيًّا تقدميًّا مناقضًا للمشروع الاستعماريّ، في فلسطين، بقدر ما ولدت خطابًا داخليًّا اتّسم بالقمع والديكتاتوريّة بحجّة أولويّة تحرير فلسطين.

كان الوهم والإيهام كبيرين، بأنّ من الممكن تحرير فلسطين دون أن يحصل الناس على خبزهم اليومي، دون حريّة ودون ديمقراطيّة، وذلك كان مؤامرةً حقيقيّةً على فلسطين بقدر ما كان مؤامرة على الشعوب التي قدّر لها أن تُحكم بفوّهات المدافع والأحذية العسكريّة، وكلّه كان باسم فلسطين.

إنّ أوّل ما يمكن أن يقال عن هذه الحالة إنّها تعكس سلوكًا لا سياسيًّا بالكامل، فالسياسةُ الخارجيّةُ وخطابها هي انعكاسٌ لعناصر السياسة الداخليّة، التي تعكس بدورها نمط العلاقات القائمة داخليًّا بين الناس وحاكميهم، وإذا كان فعلُ التحرير هو فعلٌ ديمقراطيٌّ يحقّقُ مصالح الجماهير بالنتيجة، ومحكومٌ لطموحاتها ويقومُ بدوره في تأمين خبزها، فإنّه لا يمكن أن ينتج بحالٍ من الأحوال عن شكلٍ لا ديمقراطي من العلاقات الداخليّة، وفعل الحريّة لا يمكن أن يصدر عن غياب الحريّة وعن الديكتاتوريّة. وترافق خطاب سياسي من هذا النوع مع سلوك داخلي من النوع المذكور إن دلّ على شيء فإنما يدل على غياب السياسة أصلًا في التعامل مع الداخل والخارج، والتحرير بأحد أشكاله فعل سياسة لا يمكن أن ينتج عن ممارسة تغيب عنها السياسة.

لذلك، وبقدر ما كان الصعود سريعًا، كان السقوط مروّعًا أيضًا، سقط الجميع في امتحانهم الأوّل عام 1967، بنكبة فلسطين الثانية، التي سميّت على سبيل التنويع بـ النكسة.

وقد مهّدت النكسة لأشياء كثيرة: قرارات صمود ومواجهة، وقرارات انهزام واستسلام وتسويات، ولأنّ قرار الردّ لم يكن استراتيجيًّا جاء قرار الحرب تحريكيًّا. وبقدر ما كانت الحربُ استجابةً رسميّةً إجباريّةً لحالة الجيشين الشعبي العارم، التوّاق للردّ على الهزيمة، كان وسيلةً للبعض للخروج من وضع المهزوم إلى وضع الجاهز للتسوية مستخدمًا الحرب جسرًا نحوها. وكان أن تمزّقت الجبهاتُ العربيّةُ ما بين جرحٍ مفتوحٍ على مواجهةٍ مجمّدة، وما بين مصالحةٍ مخزية، بقدر ما مثّلت انسحابًا من القضيّة الفلسطينيّة، مثّلت في الوقتِ نفسه اعترافًا بانتصار المشروع الصهيونيّ وهزيمة المشروع العربي، ومن سخرية القدر أنّ تعبيرات هزيمة المشروع القومي العربي، أعني الكيانات الناشئة، أعطت نفسَها حقَّ الاعتراف بانتصار المشروع الصهيوني، بينما هي نفسها كانت جزءًا من هذا الانتصار.

فشلُ النظامِ السياسيّ العربيّ في امتحاناتِهِ المتعدّدة، وفي الفرص جميعها التي أعطيت له؛ لأنّ الخللَ أساسًا في البِنية والتركيبة التي تنتج الإرادة وليس في الإرادة معزولة عن حواملها، وفي هذا الإطار يصبح مفهومًا السلوك الكارثي لهذا النظام، وعجزه الدائم واستعداده للاستسلام والتطبيع.

انهيارُ النظامِ السياسيّ العربيّ يبدو حالةً لازمةً لهشاشة هذه الكيانات وتأزّمها، هذه التي حاولت الصعود على جثة المشروع القوميّ العربيّ متقمّصةً دوره وصورته، متجاهلةً أن هذا المشروع لا يمكن أن يقوم إلا على صورةٍ واحدةٍ قوامها الحريّة والكرامة والديمقراطيّة وفلسطين.

وبالمفارقةِ مع هذا السلوك كان المواطن العربيّ قد حسم خياراته مبكّرًا جدًّا، فكانت فلسطين عنوانه ورغيفه ومعنى كرامته. فالجماهيرُ العربيّةُ لم تفقد البوصلة، ولم يغب عن وعيها أهميّة فلسطين ودورها ومكانتها، ولم تنتظر الجماهيرُ العربيّةُ قرارات حكوماتها لتلتحق بالقتال ضدّ المشروع الصهيونيّ، لأنّ هذه الجماهير أدركت بوعيها ومنذ وقتٍ مبكرٍ أن هذه الأنظمة لا تستطيع أن تحرّر أرضًا ولا أن تعيد لاجئًا، فكان الاشتراك الفعلي في الدفاع عن فلسطين من خيرة شباب العرب، وكان احتضان الفلسطينيين المقتلعين من أرضهم ثمّ احتضان الثورة وحمايتها، كل ذلك كان فعلًا شعبيًّا خالصًا، ارتهن لوعي الناس ومشاعرهم وإحساسهم بالارتباط الجدليّ بين أن يكونوا أحرارًا في مدنهم وقراهم، وبين أن تكون فلسطين حرّة.

لقد أثبتت الوقائع أن ما حدث في سياقه الخاص وضمن ظروفه الموضوعيّة، كان لا بدَّ أن يحدث، والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو أنّه وبعد كل هذا الانهزام والمهانة بل الخيانة، هل هناك أيّ فرصةٍ لإنتاج ردٍّ استراتيجيٍّ شاملٍ يرتقي لمستوى الندّيّة مع المشروع الصهيونيّ؟

الجوابُ يرتبطُ بأسسٍ وحوامل هذا الردّ، لذلك نعتصم بالتفاؤل الثوريّ والثقة في الشعوب وإرادة الأحرار فيها، لنجيب بـ(نعم) ولكنّها (نعم) مشروطة وليست إرادويّة، لأنّ مشروعًا من هذا النوع لا يمكن أن يكون إلا نابعًا من إرادات الناس وحريّتهم، وهذا يتطلّب استنهاضًا يرتقي بطاقات الناس ويعمل على تفجيرها، وهذا يعيدنا إلى نقطةٍ مهمّةٍ هي ارتباطُ تحرير فلسطين بحلٍّ عربيٍّ شامل، وبقدر ما أنّ فلسطين هي عنوان العرب الإجباري والضروري لنهضتهم في آنٍ معًا، فإنّ العرب هم الإطار الطبيعي والموضوعي الذي لا يمكن أن تتحقّق فلسطين خارجه، وهذا كلّه يتطلّب عودةً فلسطينيّةً محمودةً إلى العرب أمةً وشعوبًا وليس أنظمة، وتحرّكًا عربيًّا حقيقيًّا تجاهَ فلسطين، يستندُ إلى الوعي بجدليّة العلاقة، تحرّك قائم على تجاوز العرب لحالتهم الكيانية الهشّة والاتجاه نحو العمل الموحّد، وهذا يقتضي أوّل ما يقتضي تحقيق الديمقراطيّة بأشكالها الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة، بما يضمن تحرير طاقات الناس وتفجيرها وصولًا إلى تحقيق الردّ الاستراتيجي المنشود.

  • هذا ليس حلمًا رومانسيًّا، ولا أمنيةً في الخيال، إنّما هو أمرٌ قابلٌ للتحقيق، لكنّه يحتاج لعملٍ وكفاح، فالمشروعُ المعادي ليس قدرًا لا يرد، والمقاومةُ ممكنة.