Menu

شاهد 136 وبضع رصاصات: نقطة تحول

بوابة الهدف الإخبارية

خاص_بوابة الهدف الإخبارية

في أي سردية سائدة لا يوجد علاقة بين الطائرة الانتحارية الإيرانية "شاهد ١٣٦" وبضعة رصاصات أطلقها فدائي فلسطيني من تنظيم يساري فلسطيني لتقتل وزيرًا صهيونيًا. صحيح أن ايران داعمًا رئيسيًا للمقاومة الفلسطينية، ولكن لهذه العلاقة بين الرصاصة والطائرة المسيرة قصة أخرى أطول نسبيًا.

تشكل عالمنا المعاصر تحت وطأة الهيمنة الاستعمارية شبه المطلقة، وإذ حد الاتحاد السوفياتي هذه الهيمنة ومنح مساحة مناورة لشعوب وقوى حاولت التحرر منها، فإن انهيار الاتحاد والكتلة الشرقية كان إشارة لمرحلة جديدة من توحش الإمبراطورية الأمريكية في فرض هيمنتها؛ فالحصار والقتل بات مصير كل من يناوئ السياسة الأمريكية، وتباعا حطمت الولايات المتحدة أي مظاهر أو معاني للسيادة والاستقلال، واجتاحت دول بأكملها ودمرتها لترسلها عدة قرون للوراء، فيما كان مصير بقية المناوئين هي الحصار والتجويع والتهديد، هذا البطش طال الفلسطينيين، حيث حصل الكيان الصهيوني على الغطاء والتسليح والدعم لإنهاء كل معنى لوجودهم وتصفية حقوقهم، بل واضطلعت الولايات المتحدة عن كثب في عمليات الحصار والضغط والتهديد لأجل تركيعهم.

لفهم معنى الهيمنة الأمريكية علينا أن نتخيل عملية صناعة سلاح في بلد ثري بالموارد مثل إيران في سبعينيات القرن الماضي، أو تمكن مجموعات الجبهة الشعبية من اختطاف طائرة أو وزير أو مجلس وزاري بأكمله متى ما اتخذت القرار بذلك، والنظر لحجم الصعوبات التي تواجهها قوة عسكرية كبرى مثل روسيا في تحديث جيشها وتأمين جوارها المباشر.

إن تتناول شربة ماء دون أن ترصدك اجهزة الرقابة في عالمنا اليوم أمر دونه صعوبات كثيرة، وأن تصل كاميرا مناسبة لطائرة استطلاع لإيران أمر تضافرت عشرات القرارات ولوائح العقوبات التفصيلية لمنعه؛ ناهيك عن بقية التقنيات اللازمة لمثل هذه الطائرة من أنظمة توجيه وملاحة جوية و تذخير، هذه بلاد تمنع عنها أطواق الحصار والعقوبات الدواء وقطع الغيار للطائرات المدنية والمال، وسلسلة طويلة جدًا من السلع، ولكن يبدو أن هناك من صنع المستحيل وسماه "شاهد ١٣٦" وهي الأخت الصغرى واللطيفة في عائلة كبيرة من المسيرات الفتاكة التي أنتجتها الصناعات العسكرية الإيرانية في ظروف الحصار، وجميعها تمتلك نقطة تفوق في عالم اليوم، إنها ليست أسلحة للتفوق العسكري، بل لتعطيل التفوق العسكري للمنظومات العسكرية الكبرى، لهزيمة عدو مثل الإمبراطورية الأمريكية في ساحات قتال صغرى أو متوسطة.

الانتحاري المعدني الإيراني شاهد ١٣٦، هو مرحلة في تطور موارد انفاذ قرار الانتحار لمن تمردوا على الهيمنة الأمريكية؛ البداية كانت بالفدائيين الذين نفذوا عمليات استشهادية بأجسادهم، من طال المعسكر الصهيوني والحاجز المحصن، ومن نال من مقر المارينز في بيروت وحصون الاحتلال في جنوب لبنان، والمجموعة التي اغتالت الوزير الصهيوني العنصري والتي كانت تدرك أن هذه محض عملية انتحارية، وإن نجحت في إنفاذ خطة الانسحاب، فتلك قصة اخرى عن خرق المستحيل. ما تغير في عالم اليوم أن الفدائي صار بوسعه توجيه عشرات من الضربات بصاروخ وقذيفة وطائرة مسيرة، بدلًا من تفجير جسده، وأن المقاومة لم تعد أفرادًا قلائل محاصرين، أو شعب يجاهد يوميًا لكي لا يتعرض للإبادة.

تغير هذا العالم لأن هناك من امتلك الإرادة لتغييره والاستعداد للتضحية ودفع الثمن لأجل ذلك، سيل من الدم وأرواح أبية قاتلت الغزاة المعتدين بالأظافر والأسنان والحجارة واللحم والعظم المتفجر، بكاتم الصوت، لتفتح الباب لهذا الأفق.

لم تنته الإمبراطورية الأمريكية، ولم تتحرر فلسطين بعد من الغزو الصهيوني، ولكن ما صنع امكانية لهذا كله، هو من صمدوا في خندق المواجهة الأول في فلسطين في أحلك السنوات التي ختمت مائة عام من الغزو والعدوان والنضال، ومن اختار دعمهم ورفض الاستسلام لعدوه وعدوهم.