Menu

في الطريقِ إلى عدن

علي سيف

نشر في العدد (45) من مجلة الهدف الرقمية

إنّ الاحتفالَ، هذا العام، بالذكرى الخامسةِ والخمسين لانطلاقةِ الجبهة الشعبيّةِ لتحرير فلسطين (11 كانون الأوّل 1967) هو مناسبةٌ لطالما انتظرها الأوفياءُ من رجال فلسطين ونسائها، ممن نشأوا في كنفِ الجبهةِ وقاتلوا في صفوفِها، في الداخل والخارج، واستشهدوا تحتَ رايتِها؛ مسطّرين بدمائِهم أروع الملاحم والبطولات التي اعتزّ ويعتزّ بها شعبُنا في فلسطين وجوار فلسطين. والاحتفالُ هذا العام، كما كلّ عام، مناسبةٌ لا تقتصرُ على الفلسطينيّين، وحدَهم، بل تضمّ إليهم كلَّ أحرار العالم، ممن خاضوا حروبَ تحريرٍ قوميّة في بلدانهم ونشأوا، كلّهم أو بعضهم، في حمى الجبهة الشعبيّة، وتدرّبوا في معسكراتها، وتثقّفوا ثوريًّا على قائدها وكوادرها، وأسهموا في عمليّاتها ضدَّ العدوّ الصهيوني ومعسكره الرأسمالي المتوحّش. فكلّ مناضلٍ من هؤلاءِ المناضلين الأمميين يحتفظ، في عقله وقلبه ووجدانه، بحيّزٍ خاصٍ للجبهة الشعبيّة ولفلسطين التي أحبّ، متأثّرًا، دون شك، بمقولة شارل فرلو، عالم الآثار الفرنسي، الذي قال يومًا: "لكلِّ إنسانٍ متحضّرٍ في العالم وطنان: وطنه الأم، وسورية الوطن الحضاريّ والثقافي". بهذا المعنى، أيضًا، فإنّ لكلِّ مناضلٍ أمميٍّ وطنان: وطنه الأم وفلسطين التي علمته، عبر جبهتها، كيف ينتفض لحرية بلاده وكرامة شعبه. ففلسطين الجبهة الشعبيّة كانت، لفترة طويلة، بوصلةَ الأحرار في العالم، من "الهنود الحمر" في أميركا الشماليّة إلى "هنود" أوستراليا في المحيط الهادي، ومن مجموعة سكند جون "2 حزيران" الهولندية إلى "ثوار الباسك" في شبه القارة الإيبيرية، ومن ثوار "الجيش الأحمر" الياباني إلى جماعة "بادر ماينهوف" الألمانيّة، ومن "الألوية الحمراء" الإيطاليّة إلى ثوار "ظفار وأريتريا" عند بحر العرب وباب المندب: كلُّ ثائرٍ من هؤلاء، بل كلُّ حاملِ بندقيّة، كان ينتمي لجبهتين، في وقتٍ واحد: منظّمته الثوريّة الخاصة، والجبهة الشعبيّة التي تعدّه، فكريًّا ونضاليًّا، في عدن وسائر أخواتها العربيات الرافضة للهيمنة الخارجية: إما لصراعٍ داخليٍّ ضدّ محتكريه، ناهبي ثروات بلاده، وإمّا لحربٍ خارجيّةٍ ضدّ مستعمريه وجلاديه!

                                                   -2-    

منذ سنتين وفي الثامن من أيلول/ سبتمبر 2020، فوجئت، وأنا أتصفّحُ جريدةَ الأخبار، بخبرٍ عن وفاة هاني حدّاد، نجل الطيب الذكر الشهيد الدكتور وديع حدّاد، ومبعث مفاجأتي- فضلًا عن عواملَ كثيرةٍ ربّما تسمح الذاكرة بسرد تفاصيلها- أنّ هاني يصغرني بنحو اثنتي عشرة سنة، فصعبٌ عليّ تقبل الخبر واستعصىت عليّ إشكالية أن الموت لا يُفرق بين صغير وكبير.. كم هو الموت ظالم وجبان!

التقيت هاني حدّاد كما التقيت والده ووالدته الكريمة في "يمن" سالم ربيع علي، وعبد الفتاح إسماعيل، وعلي سالم البيض... واللائحة تطول! "يمن"الاتحاد السوفياتي وصين ماوتسي تونغ وفيتنام هوشي منه، وجاءت وفاته- وإن كانت أليمةً- لترجع بي القهقرى إلى سبعيناتِ القرن الماضي: العصر الجميل، بالنسبة لي ولأمثالي من جمهور المقاومة الفلسطينيّة التي أملنا، بانضمامِ منظّمةِ "نسور الزوبعة" إليها، أن ترتقي إلى مصاف المقاومة القوميّة التي نفتقد، اليوم.   

في هذه المناسبةِ العزيزةِ على كلّ فلسطينيٍّ، بل على كلِّ مشرقي وكلّ عربيّ وكلّ عاشقٍ للحرية، نتطلّع إلى العلاقة التي نشأت في أواسط السبعينات من القرن الماضي بين الجبهة الشعبيّة (بمسمّياتها الثلاث) ومنظّمة "نسور الزوبعة"، الجهاز العسكري للحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ.

                                                         -3-

من نافل القول: إنّ منظّمةَ الزوبعة ظهر اسمُها في التداول إبان ثورة 1936-1939 في فلسطين، حيث استشهد في صفوفها سعيد العاص من اللاذقيّة، وكان أحد قادة تلك الثورة الكبرى، وحسين البنّا من لبنان، وآخرون كثر من فلسطين والشام، وبرزت منظّمة الزوبعة في حرب 1948 ضدّ العدوّ الصهيونيّ ووقع لها أسرى عند العصابات الصهيونيّة، وعادت منظّمة الزوبعة إلى الظهور عشيّةَ الاحتلال الإسرائيلي للشريط الحدودي بين لبنان وفلسطين، وهنا بدأ التنسيقُ بينها وبين الجبهةِ الشعبيّةِ لتحرير فلسطين. ففي "عمليّة مسكفعام" عام 1975 قبالة بلدة العديسة الجنوبيّة، شارك أحد كوادر الجبهة الشعبيّة في العمليّة التي استهدفت آليتين مجنزرتين للعدو، وأعلن في إثرها عن ولادةِ منظّمةِ الزوبعة في بيانٍ صدر في بيروت، ونشرته جريدةُ "البناء" في صدر صفحتها الأولى. وكان التنسيق بين "الزوبعة" والجبهة الشعبيّة يشمل، إلى التزود بالسلاح والخبراء والاستطلاع والاسناد، التسهيلات اللوجستية والتنقلات، فقد كان أفراد الزوبعة يتجوّلون في جنوب لبنان بتصاريح، أو بطاقات خاصّة بالجبهة الشعبيّة، لاستخدامها عند المرور على بعض الحواجز الصديقة. وفي عام 1985 جرت عمليّة تبادل أسرى فيما سُمّيَ "بـعمليّة الجليل"، حيث أطلقت "إسرائيل" 1180 أسيرًا فلسطينيًّا، من بينهم كوزو أوكاموتو أحد قياديي "الجيش الأحمر الياباني" وأحمد ياسين الذي أصبح الزعيم الروحي ل حركة حماس ، وعزمي منصور قائد عملية "جبهة الفداء القومي" التي جرت في الأغوار في فلسطين عام 1968، ويندرج إطلاق سراح الدكتور عزمي في إطار التنسيق بين الجبهة الشعبية (القيادة العامة) ومنظمة الزوبعة.

                                                        -4-

في مطلع حزيران 1976 وكانت القوات الشامية قد دخلت لبنان لإيقاف شلال الدم، فيما عُرف يومها بـ "الحرب الأهليّة"، وبناءً على موعدٍ محدّد، اجتمعنا مجموعةً من الطلبة القوميين الاجتماعيين (خمسة وعشرون رفيقًا ورفيقة، وكلنا أعضاء في منظمة نسور الزوبعة، الناشئة حديثًا) في إحدى بلدات غربي بعلبك المعروفة بتأييدها للحزب القومي. وبعد أيامٍ من الإعداد والتجهيز، انتقلت المجموعة في سيارات تاكسي إلى دمشق عن طريق المصنع- جديدة يابوس. كانت المعابر الحدودية المشتركة بين الشام ولبنان تعجّ، ليلًا ونهارًا، ذهابًا وإيابًا، بالحركة، حركة المسافرين بين البلدين الشقيقين، وكنا، كمجموعة، نتحاشى أن نلتقي بأحد المارين: يعرفنا أو نعرفه؛ لأنّنا كنّا حريصين على ألا يعرف أحد من العابرين وجهتنا وقد نجحنا في ذلك؛ لأنّنا كنا نخفي كثيرًا من ملامحنا الشخصيّة التي قد تكشفنا. بعد وصولنا إلى دمشق، انتقلنا مباشرةً إلى موقف السيارات المتّجهة إلى عمّان وتوزّعنا، أيضًا، في خمس سياراتٍ وبلغناها بعد الظهر: كان النهار طويلًا في تلك الأيام، ما منحنا وقتًا أطول للحركة والتنقل والتجوال. في عمان، كان أحد الرفقاء من أصلٍ فلسطينيٍّ (مقدسي) في انتظارنا، وبقينا في عمان أربعًا وعشرين ساعةً استحصلنا خلالها على تصاريح مرور من السفارة اللبنانية.

في اليوم التالي لوصولنا إلى عمان، اتجهنا على متن خمس سيارات أجرة إلى بغداد عن طريق "التنف". هناك، كان ينتظرُنا أحدُ الأمنيين العراقيين وقادنا من بوابةٍ خاصّةٍ إلى الجهة العراقيّة من المركز الحدودي الشامي – العراقي، حيث كانت تنتظرنا سياراتٌ خاصةٌ تابعةٌ للحرس الرئاسي، وكانت وجهتنا بغداد، طبعًا، فوصلناها عند الغروب، وإذ بنا في باحة فيلا كبيرة في جنوبي بغداد مؤلفة من ثلاث طبقات عرفنا فورًا أنها ستكون مقرّ إقامتنا للفترة المقرر أن نبقاها في بغداد. توزعنا على الطبقتين العليتين، الأولى والثانية، وكانت كلُّ طبقةٍ تضمُّ عددًا من الغرف، فضلًا عن الطبقة السفلى التي هي عبارةٌ عن دارٍ كبيرةٍ واسعة.

في بغداد، استمرّت إقامتنا نحو الشهر، وكنا قد انقسمنا إلى مجموعتين: مجموعة تقنية تتدرّبُ على كيفية صناعة جوازات السفر، وأشكال "التزوير" كافةً، وكان أفرادُها عشرةَ رفقاء، معظمهم من النساء ممن يمتهنّ في حياتهنّ أعمالًا إداريّةً سواءً في مؤسساتٍ خاصةٍ أو عامة. أما المجموعة الثانية، وكنت أحد أفرادها، فكانت وجهتها عدن، ... وإن طال السفر!

في بغداد، حلَّ علينا الثامن من تموز، وهو يومُ اغتيال سعادة عام 1949، فأحيينا المناسبةَ في حفلٍ صغيرٍ دعونا إليه عددًا من مسؤولي الجبهة الشعبيّة وبعض الأصدقاء الأجانب العاملين في إطار الجبهة. وفي الذكرى الرابعة لعمليّة اللدّ (1972) قمنا بتزيين شوارع بغداد بصور المناضل الياباني كوزو أو كاموتو ورفقائه الذين استشهدوا في العملية، وفاجأتنا، ليلًا، ونحن في غمرة عملنا، دورية للأمن العراقي ولما عرف أفرادها حقيقة ما نفعل تمنوا لنا النجاح وأكملوا طريقهم.

قبل السفر إلى عدن بيومٍ واحد، اشتريت دفترًا للرسم وأقلامًا ملوّنةً؛ لأنّني كنت قد عزمت على أن أرسم وجه غادة السمان، الروائية السورية الكبيرة، وكنت قد احتفظت بكتابها "رحيل المرافئ القديمة" وحملته معي من بيروت إلى بغداد.

                                                   -4-

في ظهيرة يوم تموزي حار، ركبنا طائرةَ الخطوط الجوية العراقية إلى عدن، عاصمة جمهوريّة اليمن الديمقراطيّة الشعبيّة، وهبطت بنا الطائرةُ في القسم الأوّل من الرحلة في الكويت، حيث أمضينا فيها يومًا كاملًا. وفي الليل أخذنا الطائرة العراقيّة ووجهتنا عدن: السماء صافيّة والقمر رفيقنا الوحيد، في تلك الرحلة، يباغتنا من نافذة الطائرة المطلّة على جناحها الأيمن، يسترقُ النظر مدغدغًا أحلامنا! فجأةً وجدت نفسي أرسم وجه غادة وشعرها الأسود المسترسل على كتفها، نقلًا عن غلاف الكتاب الذي حملته معي من بيروت، استنفدت الورق وأقلام التلوين... واستسلمتُ لنومٍ عميقٍ لم أصحُ منه إلا في مطار عدن.

هناك، استقبلتنا مجموعةٌ أمنيّةٌ ورافقتنا في حافلةٍ كبيرةٍ إلى منطقة تدعى "الحلمة" في المحافظة الثالثة، جنوب شرق اليمن، وهي عبارةٌ عن تلٍّ مرتفعٍ يقوم عليه معسكرُ الجبهة الشعبية (الجناح الخارجي).

دخلنا المعسكر وكان الجناح المعدّ لنا جاهزًا. استقبلنا مسؤولُ المعسكر وهو شابٌ أربعيني، أسمر الوجه، يرافقه مسؤول منظمة الزوبعة، شاب في الخامسة والعشرين من عمره، وكنت أعرفه من أيام الجامعة في بيروت. رحّب بنا الرجلان وشرحا لنا طبيعة المهمة الموكلة إلينا وأعطيا توجيهاتهما وتمنيا لنا إقامةً لائقةً ومريحة.

في إحدى المرات، جاءتنا مجموعةٌ هولنديّةٌ تدعى سكند جون (2حزيران) واجتمعنا بها، وكنا مكلفين- منظمة الزوبعة- باستقبال القادمين الجدد وإعطائهم أسماء حركية، وكان من أفراد تلك المجموعة امرأةٌ جميلة، سمراء اللون، شعرها أسود وعيناها خضروان، فأعطيناها اسم "ليلى" تيمنًا بـ"ليلى" العامرية التي استفزّت بجمالها شعراء عصرها فراحوا يكتبون القصائد فيها وتركتهم يتيّمون بها. ولكن ليلى هذه فاجأتنا، بعد انتهاء مهمتها في عدن، أن نشرت رسمًا يشبه وجه "الوديع" وعرفنا، بعدها، أنه لم يكن للدكتور وديع حدّاد رسمًا أو صورة يُعرف بها فأخذت "ليلى" مهمة رسم وجهه وإشهاره على الملأ، كما قيل لنا.

في تلك الأثناء كانت "أم هاني" زوجة الدكتور و"هاني" ابنه يتفقدان مجموعتنا من حينٍ إلى آخر، وكان هاني ابن الثانية عشرة ربيعًا يحب أن يمضي وقته بيننا، فلا أدري ما سرّ هذا الاستئناس بنا مجموعةً من بين عشرات المجموعات التي مرّت بمعسكر "الحلمة" في المحافظة الثالثة من اليمن الجنوبي. الأمرُ نفسه تكرّر مع مناضلةٍ ربما كانت هي ليلى الأنصاري التي شاع اسمها، فيما بعد. لم نكن نعرف اسمها الحقيقي، وربما كانت هي التي قادت عملية خطف طائرة مقديشو، سنة 1977 واستشهد معها ثلاثة من منفذي العملية. فقد كانت ليلى، أو أية امرأة أخرى قادت العملية إذا لم تكن هي نفسها، ترتاح عندنا ومعنا، كمنظمة زوبعة، بل كانت تهرب من رفيقها في الجبهة المدعو "جمال" وكان يلحق بها إلى جناحنا، غاضبًا متوتّرًا. كان "جمال" محاميًّا، وكان غزاويًّا، وكان متيّمًا بـ"ليلى" الجبهة الشعبيّة، واستشهد في العمليّة إلى جانب "يوسف" ذي القامة القصيرة والروح المرحة، يوسف الذي كان يشرفُ على تدريبنا، كلَّ صباح، على الحركات السويدية وكان يطلب مني، دائمًا، أن أتصدّر أوّلَ الصف، ودفعني لأن أطرب لسماع وردة الجزائرية التي كان يعشق صوتها.

في "اليمن الديمقراطي" كنت أسأل أيّ يمنيٍّ يمرّ بنا أو نلتقي به: "كيف الحال؟" ويجيبني "يمني!" ويا ما استذكرت كل الذين التقيت بهم وسألتهم هذا السؤال، وأنا أتابع جرائم الحرب الظالمة التي تقوها السعودية على اليمن.

أثناءَ إقامتنا في اليمن، هدّدت "إسرائيل" بمهاجمة المعسكر الذي نقيمُ فيه، وثمّ استنفارنا وبقينا خمسة عشر يومًا مستنفرين في الحقول، بعيدًا من المعسكر، ننتظر غارةً إسرائيليّة، ولكن شيئًا لم يحصل فقد هدّدت الصين والاتحاد السوفياتي بأشد العواقب إن أقدمت "إسرائيل" على مثل هذا العمل الجبان.

                                                    -5-

بعدَ انتهاءِ الدورةِ التي استمرّت، على غير عادتها، أشهرًا أُذِنَ لنا بالعودة، وفي الطريق من "الحلمة" إلى عدن كان معظمنا حزينًا كأنّه يغادرُ أهلًا وأحبّةً وصحبةً أوفياء! في مطار عدن، صعدنا، لأوّل مرّة، طائرةَ "اليمدا" اليمنية الديمقراطيّة المتوجّهة إلى بغداد، وكم كانت مفاجأتي كبيرةً عندما شاهدت أحدَ الرفقاء يشتري "كروز" دخان "دانهيل عريض" ويبدأ في التدخين بشراهة هو الذي، عندما مرّ بنا أحدُ المسؤولين عن المخيّم ليعرف من يدخّن من المتدربين، وقد حدّد سقف التدخين بـ ست سجائر للشخص الواحد، أجاب هذا الرفيق بأنه لا يدخّن وبالفعل لم يدخّن طيلة الدورة.