دأبت الحكومات الصهيونية المتعاقبة على العمل لأجل إحداث خروقات في جدار المقاطعة العربية لها، ولعقود عدة لم يكن القادة الصهاينة؛ يدخرون جهدًا لالتقاط صورة مع مراهق مختل، أو مثقف لا يعرفه أهل مدينته، أو رياضي فاشل، من العالم العربي، فقط ليثبت الصهاينة لأنفسهم أنّ وجودهم قد يكون مقبولًا ذات يوم في هذه المنطقة من العالم، أو أنّ علاقتهم بمحيطهم قد تكون طبيعية في يوم من الأيام.
مع الخروقات التي حققها الصهاينة في الموقف العربي الرسمي ووصولهم لتوقيع اتفاقيات مثل كامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة والاتفاقات الإبراهيمية، من المؤكد أنّ الصهاينة تطلعوا لما هو أكثر بكثير، ولكنهم أيضًا تلمسوا الحدود التي قد يصل لها التطبيع، ومن المعقول التفكير أنّ تحالف عدد من النظم العربية بشكل معلن مع الكيان الصهيوني، ربما كان يفوق حتى أحلام الصهاينة أنفسهم في ذلك الوقت.
ما نشهده منذ سنوات من اتجاه للشراكة المعلنة بين مجموعة من النظم العربية والكيان الصهيوني، بالتأكيد يلبي أهداف الصهاينة بشأن تطويع هذه النظم واخضاع الأمن القومي العربي للهيمنة الصهيونية، بل وتسخير جغرافية هذه الدول للعدوان على شعوب المنطقة، لكن أيضًا يبدو أن مسار التطبيع؛ يسير فقط ضمن الحدود التي يرسمها الصهاينة، حيث يدرك قادة العدو أنّ بإمكانهم دفع عبد الفتاح البرهان ومن هم على شاكلته للرقص على يديه إرضاءً لهم متى شاءوا طالما أنّ ذلك يحفظ كرسيه، ولكنهم أيضًا يدركون أنّ اتفاقهم مع البرهان يماثل قدرة أي قوة استعمارية على تسخير وكيل محلي يعمل لحسابها ضد مصالح شعبه، لن يصل أبدًا لتطويع الشعب السودان ي لخدمة المصالح الصهيونية، أو نبذ عروبتهم وهويتهم الرافضة للاستعمار.
إن الصهاينة يضبطون مسار التطبيع ضمن نطاق معين، ليس بإمكان حكام العرب المطبعين أنّ يرسلوا رجال أمنهم لبيع خدمات الحراسة والرقابة والتجسس الأمني على بيوت المستوطنين لمصلحة رؤساء الحكومة الصهيونية، ولن تتجاوز أي شراكة أمنية بين الطرفين الإطار المتبع، حيث يفتح الحكام العرب أبواب قصورهم وبيوت مواطنيهم، بل وثكنات جيوشهم أمام برامج وأنظمة الرقابة التقنية الأمنية الصهيونية، وتستباح مياهنا الإقليمية من قبل سفن العدو الحربية، لتمارس دور الحراسة المتقدمة للكيان الصهيوني، والاعتداء على شعوب المنطقة وتهديد حريتها في الملاحة والتحرك.
لم يذهب الصهاينة لعبد الفتاح البرهان وعساكر السودان؛ طمعًا في مواهبهم العسكرية وحكمتهم الاستراتيجية في إدارة معارك تقسيم بلادهم وقمع شعوبهم، ولكن في إطار جهود الكيان لتقويض مقاومة شعوب المنطقة ضد الغزاة والمستعمِرين، ومسعاه للهيمنة على البحر الأحمر عسكريًا وتجاريًا. فلن تتدفق التكنولوجيا إلى السودان بفعل اتفاق التطبيع مع الكيان الصهيوني، ولن تبنى السدود لحساب السودانيين، لوقف التأثير الفتّاك للفيضانات والجفاف الذي يلتهم بالسودانيين كل عام، فقط مزيد من النهب والتجهيل والفقر هو ما سيغزو السودان على أيدي الصهاينة وشريكهم البرهان وبقية عصابته. أما الأمن المائي والاقتصادي والوطني للسودان، فلا يمكن لأحد أن يستبعد تسليمه بأكمله للصهاينة؛ فنهر النيل طالما كان مطمعًا للصهاينة في تحركاتهم الإفريقية، أو حتى في اتفاقيات تطبيعهم مع النظم العربية والإفريقية.
إن نيل مصر والسودان؛ نيل الشعوب المحرومة، وموانئ العرب والأفارقة على البحر الأحمر، ومناجم الذهب، وطريق إمداد فلسطين بالسلاح، كل هذه أهداف للصهاينة، وتطويع إرادة شعب السودان الأبي كهدف مشترك بين العدو الصهيوني ونظام البرهان، ولكن جواب العروبة سيأتي في السودان كما في كل بقعة ظن الصهاينة أنّها أصبحت موطئًا لهم، وليتذكر الصهاينة مصير اتفاقهم مع بشير الجميل، أو رصاصات سليمان خاطر، وغيره وغيره من أبطال العرب.