لعبت وسائل الإعلام العربية - خاصة الفضائيات - دورًا كبيرًا في التأثير على مختلف المجالات السياسية والثقافية والاقتصادية في الشارع العربي. وكانت قناة «الجزيرة» في مقدمة هذه الوسائل لأسباب كثيرة. ورغم نجاحها إلا أنّ ذلك لم يخل من إثارة الجدل عن هويتها وهدفها وتوجهاتها، ولعل سياستها في استضافة شخصيات إسرائيلية عبر شاشتها كانت إحدى أهم النقاط التي لفتت الأنظار، باعتبارها أول قناة تفتح للصهاينة مجالًا للتحدث إلى الجمهور العربي مباشرة من دولة الاحتلال، وكلهم ممن يعملون في المؤسسات العسكرية والأمنية، بمسمى كاتب وباحث ومختص. ورغم أنّ قضية استضافة المحللين الإسرائيليين ليدافعوا عن أساطيرهم قديمة، إلا أنها طُرحت من جديد في نقاش جرى في القاهرة، أعده محمود القيعي لصحيفة «رأي اليوم»، حيث أكد المشاركون في الحوار أنّ ذلك الأمر يدخل في التطبيع المرفوض شعبيًا، مؤكدين أنّ استضافة هؤلاء الإسرائيليين أكبر خدمة لهم. وفي الواقع فإنّ الآراء الواردة في الحوار لا تختلف عن توجهات الشعب المصري، الذي رفض أشكال التطبيع كافة، رغم مرور أكثر من 4 عقود من التطبيع الحكومي؛ فيقول د. إسماعيل صبري مقلد أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية إنّ «هؤلاء، يدافعون عن السياسات التي تنتهجها إسرائيل ضد الفلسطينيين، ويبررون انتهاكاتها لحقوقهم الإنسانية في أراضيهم المحتلة، ويصورونها على غير حقيقتها، وعلى أنها حق إسرائيل في دفاعها الشرعي عن أمنها». وإذا كانت الفضائيات العربية - ومنها الجزيرة - تطرح شعار «الرأي والرأي الآخر» فإنّ د. مقلد يطرح سؤالًا مُهمّا وهو: هل يسمح التليفزيون الإسرائيلي لمعلقين سياسيين عرب يتحدثون العبرية بطلاقة كبيرة أن يطلوا على مشاهديه بآرائهم التي يدافعون فيها عن حقوق الفلسطينيين في أن تكون لهم دولتهم المستقلة، ويدينون مخططات الاستيطان التي تهوّد لهم معالم مجتمعهم العربي وتلتهم أراضيهم وغير ذلك من الممارسات اللاإنسانية للاحتلال الإسرائيلي لوطنهم؟
وموضوع استضافة المحللين الإسرائيليين عبر القنوات العربية - خاصة قناة الجزيرة - شغل بال الكثيرين، ومن ضمن ذلك مثلا اهتمام جامعة النجاح الوطنية في فلسطين بمسألة الاستضافة هذه، فقد أعدّت الباحثتان ميساء أبو زهيدة وتسنيم أحمد، دراسة بعنوان «دور استضافة قناة الجزيرة الإخبارية لشخصيات إسرائيلية في كسر عزلة إسرائيل» بهدف معرفة الدور الذي لعبته سياسة استضافة القناة لشخصيات إسرائيلية في كسر عزلة إسرائيل، ومدى تأثير ذلك على نشر الدعاية الإسرائيلية، وتسريب الأفكار والرؤية الإسرائيلية في الوطن العربي، واقتصر البحث على أقسام الإعلام في كلية الاقتصاد والعلوم الاجتماعية في الجامعة، حيث بلغ عدد المنتمين إليها 1097 طالبًا وطالبة. وتشير نتائج البحث إلى أنّ 58% من عناصر العينة يرون أنّ استضافة شخصيات إسرائيلية على قناة الجزيرة الإخبارية أسهم في كسر عزلة إسرائيل في الوطن العربي، فيما رأى 61% من العناصر أنّ الاستضافة أسهمت في تسريب الأفكار والرؤية الإسرائيلية في الوطن العربي. وطبقًا للنتائج فإنّ عناصر العينة لا يقبلون سياسة استضافة شخصيات إسرائيلية، ويرون أنّ تلك الاستضافة تساعد في نشر الدعاية الإسرائيلية. وأوصت الباحثتان بضرورة إعادة قناة الجزيرة النظر بسياسة استضافة شخصيات إسرائيلية عبر شاشتها. كما أنه سبق أن أطلق نشطاء فلسطينيون حملة لمطالبة القناة ال قطر ية، بوقف استضافة قادة في جيش أو حكومة الاحتلال ومحللين إسرائيليين، بعد استشهاد شيرين أبو عاقلة مراسلة القناة في فلسطين المحتلة، برصاص قناصة الاحتلال في جنين. وقال النشطاء في نص العريضة: «قتل شيرين أبو عاقلة دليلٌ ماديّ على أنّ الاحتلال لا يحترم لا الصحافة ولا الرأي الآخر، ولا فتح المنابر والشاشات للاستماع للرأي الآخر».
وأعتقدُ أنّ الحديث عن استضافة القنوات العربية لمتحدثين إسرائيليين، كان مهمًا في وقت من الأوقات أكثر من الآن - رغم أهميته طبعًا - لأنّ الأمر تطوّر إلى أبعد من مجرد استضافة على الهواء، وهو التواصل المباشر بين المواطنين العرب وشخصيات إعلامية وسياسية وأمنية إسرائيلية عبر مواقع التواصل الاجتماعي، فذلك يشكّل أحد أخطر أنواع التطبيع، ويمكن جدًا أن يتسمى كوهين وموردخاي باسم عربي ويستشهد ببعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة ليبث سمومه، وهذا مشاهد في مواقع التواصل الاجتماعي، بالإضافة إلى من ينشر سمومه باسمه الحقيقي؛ فلا توجد قوانين تنظم عملية التواصل المباشر مع الشخصيات الإسرائيلية عبر هذه المواقع، وتحصين الشباب العربي ضد أخطار هذا التواصل غير موجود، ممّا يشكّل خطورة على الجيل الجديد.
إذا كان القائمون على الفضائيات العربية يرون في تلك الاستضافات نقلا لوجهات النظر المختلفة، فإنّ ذلك لا ينفي أنه شكلٌ قويّ من أشكال التطبيع، فلا يكاد بيت يخلو من التلفزيون، وهل نقل وجهات النظر المختلفة تعني أن يبرر الصهاينة جرائمهم السياسية والعسكرية في فلسطين، ويقدموا رؤى تاريخية ودينية خرافية تزعم أحقيتهم بالأرض؟ فكلّ من شاهدناهم على الشاشات العربية من متحدثين إسرائيليين كانوا من تلك الشاكلة التي تبرّر الاعتداء على الفلسطينيين، ولم تكن الاستضافات من باب «اعرف عدوك» التي حاول البعض أن يبرّر بها خطأه من الاستضافة، وكما لا يخفى على أحد فإنّ «اعرف عدوك» تأتي من متابعة أوضاع الكيان الإسرائيلي من الداخل، ومن خلال متابعة ما تنتجه مراكز الأبحاث من الكتب والدراسات، وما يُطرح عبر مختلف وسائل الإعلام، وهي متاحة عبر مراكز البحث الفلسطينية، وكذلك عبر الصحافة الفلسطينية التي تترجم توجهات الصحافة الإسرائيلية. ولكن للأسف لا أحد يهتم بذلك، وكأنّ التبريرات الصهيونية عبر القنوات الفضائية العربية هي كلّ شيء في معرفة العدو وتوجهاته. وخطورةُ ذلك أنّ الجيل الجديد يألف الأمر وكأنه شيء عادي، فهو يرى عبر الفضائيات عسكريين إسرائيليين يخاطبونهم بلغتهم ويقرؤون آيات قرآنية مع بعض الأحاديث، ويهنئونهم برمضان والأعياد والمناسبات الدينية؛ في وقت اختفت فيه كثيرٌ من الكلمات والمصطلحات التي نشأنا عليها، فحلَّت محلّها كلمات جديدة تبشر بعالم جديد تصوغه إسرائيل على نار هادئة.
إنّ أصعب معركة هي معركة تغيير العقول والمفاهيم - وهي المعركة التي يخوضها الكيان الصهيوني بجدارة هذه الأيام، بغياب استراتيجية عربية -وأستطيعُ أن أزعم أنّ تلك المصطلحات والكلمات التي اختفت الآن من القاموس العربي كانت سببًا رئيسيًا في الرفض الشعبي العربي للتطبيع مع الكيان الصهيوني، لأنها ارتبطت بالوجدان العربي، ولنا أن نتخيل مستقبل الأجيال القادمة كيف سيكون، بعد غياب تلك اللغة، وبعد تعوّد هذه الأجيال على مشاهدة ضيوف على الفضائيات العربية يتحدثون عن أساطير الكيان الصهيوني وبلغة عربية.
