Menu

غسّان.. في ذكراه!

د. حسن حميد

نشر في العدد 52 من مجلة الهدف الإلكترونية

أجل، ما كان أحدٌ يعي ما الذي سيكون عليه بوشكين (1799-1937) من أهميّةٍ ومكانةٍ وحضورٍ في الأدب الروسي، حين رحل وهو في عمر ثمانٍ وثلاثين سنةً فقط؛ لا أحد، آنذاك، وعى أهميّة ما كتبه من قصص، وروايات، وأشعار ومسرحيّات؛ وما قاله من مقولاتٍ نقديّة إلا على نحو من يمشي فتماشيه هالةٌ من نورٍ مفارقة، وما ميزة له عن الآخرين. لقد طارد بوشكين الوقت، وطارد طرائدَهُ الجميلة (قصصًا، وقصائد، وروايات، ومسرحيات، وآراء نقديّة شفهيّة ومكتوبة)، مثلما طارد الإبداع؛ لكي يكون غنيًّا مثل نهرٍ يمرّ بالأمكنة فتجاوره الأشجار، والحقول، وقطعان الماشية، والأزهار، والقرى، والطيور!

مثل هذه الحال البوشكينيّة المحتشدة بالخصوبة والمطاردة عاش غسّان كنفاني حالًا مشابهةً لها أيضًا، فالهاجسُ أنّ زمنه قصيرٌ ومحدود، وامتلاكه جنسًا أدبيًّا واحدًا لا يكفي لكي يضيء ما في روحه من إبداعٍ وجمال، وما في عقله من رؤى، كلّ هذا كان من شواغل الاثنين: بوشكين، وغسّان كنفاني؛ لأنّ الخوف من فقد كلّ شيءٍ في لحظةٍ طائشةٍ كان متشابهًا عندهما أيضًا؛ فبوشكين خاف من أن يأخذ به المتربصون غيلةً وفجاءةً غير محسوبة، وفي كلّ الأمكنة التي عاش فيها منفيًّا، في بطرسبورغ، وموسكو، والجنوب الروسي، والمقاهي، وأمكنة الحفلات!

وغسّان كنفاني خاف هو الآخر من أن يُؤخذَ أيضًا، وعلى نحوٍ فجائيّ غير محسوب، منذ أن كان طفلًا موزّعًا (خلال اثنتي عشرة سنة من طفولته) بين مدن فلسطينية ثلاث: عكا، حيفا، يافا، وبسبب الخوف ووجود أهل الخوف وصانعيه: الإنجليز وعصابات اليهود، راح يمشي في درب المدرسة متلفّتًا يمينًا وشمالًا؛ لأنّ الأخبار التي سمعها أمسِ عن المجازر، والقتل، والدمار، والخراب، والمطاردة في الأرياف والمدن الفلسطينيّة باتت تجولُ في رأسه الصغير، ولهذا كان قرينه اليومي، في طفولته المبكّرة، هو الخوفُ من المحتلين، ثم سيكبر الخوف حين يغادر المدن الفلسطينيّة الثلاث قسرًا في نفي أليمٍ موجع، وسوف يصير الخوف أكبر فأكبر حين يتحوّل إلى أسئلة قلقٍ إجاباتُها عصيّة!

غسّان كنفاني (1936-1972)، وقبل رحيله المباغت، ما كان أحدٌ يعي ما الذي سيكون عليه هذا الرجل الذي تناهبته الآداب، والفنون، ووسائل الإعلام، والأخبار، والتواريخ والأمكنة، واللغات (لقد أتقن الإنجليزيّة والفرنسيّة قبل أن يعرف طعوم المنفى)، مثلما تناهبته الصداقات، والأسئلة، وشواغل الحياة، لهذا لم يعش، شأنه شأن بوشكين الروسي؛ حياته الخاصّة إلا على شكل محاورةٍ يوميّةٍ مع الأسئلة الرجيمة التي تبحث عن خلاصٍ لها من الأشراك والأفخاخ. لقد ظنّ بوشكين أنّ قربه من السياسة، والشعراء، وقصر الإمبراطور، سيوفّر له الحياة المرتجاة والمأمولة، ولكنّ ظنّه ظلّ ظنًّا، وأنّ مبارزة عاشق زوجته، قولة ستبعثرها يد الهواء، وأنّ جمال كتاباته سيحول بين جسده والأذى، لكن الظنّ ظلّ ظنًّا أيضًا! وغسّان كنفاني، هو الآخر، ظنّ أنّ استغراقه في الآداب والفنون والإعلام والسياسة، سيوفر له النجاة المحلومة من قلق الأسئلة وضجيجها المخيف، لكن الظنّ ظلّ ظنًّا أيضًا!

لقد رحل بوشكين وبقيت جسارته، ورحل غسّان كنفاني وبقيت أحلامه، وقد تذوّق كلاهما طعوم الإبداع، فأرادا بناء مملكةٍ للإبداع هناك في روسيا، وهنا في المنفى الفلسطيني، ومع ذلك لم يجهر أحدهما بمعاني الأبوة، أو يشير إلى طيوفها؛ بسبب طراوة عمريهما، الزمنُ وقرينُهُ الجمالُ جهرا بأن بوشكين روسيا هو أب الأدب الروسي، وبأن غسان كنفاني هو أب الأدب الفلسطيني، وذلك لفذاذة رابخة في مدونتيهما الخالدتين.

ما كتبه بوشكين من أدب، على اختلاف أجناسه، هو، ومنذ قرابة مئتي سنة، غيرُ قابلٍ للنفاد؛ لأنّ روح هذا الأدب هي روح الشعب الروسي؛ أيّ روح الأجداد المتجددة والمتعددة والخصبة، وما كتبه غسان كنفاني من أدب، على اختلاف أجناسه، هو، ومنذ خمسين سنة وأزيد، غير قابل للنفاد، لأنّ روح هذا الأدب هي روح الشعب الفلسطيني، أيّ روح الأجداد المتجددة والمتعددة والخصبة!

أجل، أطاحت المبارزة الدموية الظالمة بـ بوشكين، وأطاح اللغم المتفجّر بـ غسان كنفاني، لكنّهما ما زالا قمرين من نورٍ بهّار، وحضورٍ باذخ، شأنهما شأن الآباء الذين يدوّم ذكرهم في البيوت؛ لأنّهم بُناتها وأعمدتها أيضًا، وكلاهما عرف القاتل الذي لم يكن سوى الظلموت غامق السواد هنا، وغامق السواد..هناك!