Menu

عن الثقافة والمثقف وتطور الابداع الروائي الفلسطيني وصولاً إلى مفاهيم الديمقراطية والعقلانية في الثقافة العربية الراهنة...

غازي الصوراني

عندما تهترئ الأطر الثقافية والسياسية التي تتصدر قيادة الجماهير، يصبح رصد آفاق النضال الوطني التحرري والمجتمعي والجماهيري، وتلمس مشاكله ضرباً من الجهد الفردي القلق، ومهمة شائكة وصعبة، وخاصة في مرحلة مضطربة وصاخبة ومعقدة كالتي نعيشها اليوم في ظل تجديد وإعادة إنتاج التبعية والتخلف وفق أدوات الليبرالية الرثة أو أدوات اليمين بكل أطيافه ومنطلقاته، وهنا أرى من المفيد التطرق بإيجاز مكثف حول مفهوم الثقافة وأزمة الثقافة في فلسطين.

 الحديث عن مفهوم محدد للثقافة، أمر يفتقر للسهولة، خاصة في عصرنا هذا الذي تتهاوى فيه كثير من النظم والأفكار والقواعد المعرفية، فهي ليست موضوعا علميا واحدا، بل هي مجموعة من العلوم الاجتماعية والتاريخية والفلسفية تتشابك معا في نسيج كلي مع ما توصلت إليه ثورة المعلومات والاتصالات والإنترنت والتكنولوجيا والعلوم المتقدمة، مضافا إليها الانسان صانع هذه الثقافة ومبدعها ومتلقيها، فالثقافة جملة ما يبدعه المجتمع على صعيد العلم والفن ومجالات الحياة الروحية الأخرى من أجل استخدامها في حل مشكلات التقدم العلمي، أو هي "مجمل ألوان النشاط العملي والعلمي للإنسان والمجتمع وكذلك نتائج هذا النشاط، بارتباطه بأشكال الوعي الاجتماعي: الفلسفة، العلم، الأيديولوجيا، الأخلاق، الدين، الفن التي سيصيبها –فيما نعتقد- تغيرا عميقا بسبب هذه التطورات والمتغيرات النوعية الهائلة.

على أي حال، الثقافة كانت وستظل عنوان الوجود المجتمعي في مرحلة محددة –أو أكثر- من مراحل التطور، تعكس طريقة أو أسلوب النشاط الإنساني الاجتماعي، وعاداته وتقاليده وأعرافه وقيمه ومعتقداته وتصوراته تجاه الخير أو الشر أو باتجاه عالم الغيب وعالم الواقع، فالثقافة ثمرة هذا النشاط المادي والروحي للمجتمع الذي يتحدد مستوى تطوره بطبيعية النمط (أو الأنماط) الاجتماعي السائد فيه.

وفي عصرنا الراهن فإن الثقافة كلمة تطلق على قيم المجتمع، وسلوكياته وأهدافه ونظمه الاجتماعية وقواعده الاقتصادية ، وعلاقاته الإنتاجية السائدة بين أفراده ، وما تفرزه هذه العلاقات من علاقات اجتماعية متباينة، وإلى جانب كل ذلك، فإن الثقافة تطلق أيضاً على جميع الأفعال والمتغيرات التي تعطي المجتمع طابعاً خاصاً بما في ذلك طريقته في النظر إلى الحياة أو التعامل معها.

بهذا المفهوم "الثقافي" يمكن التأكيد على أن العلاقات الاقتصادية جزء من النمط الثقافي العام، ولعل نمط الاستهلاك السائد في ظروف العولمة الرأسمالية الراهنة، خير مثال على بشاعة رأس المال المعولم، الذي يتعاطى مع المجتمع البشري كله، كوجود "مسلوب الإرادة" محكوم لقوة رأس المال التي تسعى الى التحكم في مصائر الشعوب والأفراد دون أي اعتبار لجوع الملايين من البشر، ودون أي اعتبار لاغتصاب الحقوق والعدوان -كما هو الحال مع قضيتنا وحقوق شعبنا- واضطهاد الشعوب والاستيلاء على مقدراتها من أجل تحقيق هدفها الوحيد: تسهيل سير عملية التوسع والتراكم الرأسمالي ضمانا لمقومات القوة لدى الطغمة الحاكمة في بلدان المركز الرأسمالي، وحليفتها إسرائيل والحركة الصهيونية في بلادنا.

ولئن نجحت هذه القوة الرأسمالية المعولمة، وحليفتها وركيزتها اسرائيل والحركة الصهيونية في بلادنا، فمعنى ذلك نهاية أو موت النقيض الوطني التحرري المناضل من اجل حريته واسترداد حقوقه في العودة وتقرير المصير والاستقلال والسيادة.

وهنا بالضبط تكمن مهمة المثقف الملتزم في فلسطين أو في سائر أقطار الوطن العربي، التي لا تقوم على تبرير الوضع القائم واضفاء الشرعية السياسية أو الفكرية عليه، بل ممارسة النقد الجذري لما هو كائن التزاما بما ينبغي أن يكون وفق قواعد ومنهجية تحديث العلم والوعي التنويري الاجتماعي عبر تغيير العلاقات الاجتماعية السائدة، فالمثقف هو الشخصية المفكرة على نحو نقدي مرتبط بعملية التغيير التي تنقل السياسة بوضوح وجرأة الى العلن لتصبح فعلا اجتماعيا ينقض ويجابه العدوان والظلم بكل أشكاله الوطنية والطبقية.

وإذا كان الصعود الوطني الفلسطيني، بعد سنة 1965، حرض على الكتابة الروائية، فإن الإحباط الذي وقع على الفلسطينيين، في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، وما زال ممتداً حتى اللحظة، اختصر تلك الرواية في أعمال قليلة. فعلى خلاف الشعر الفلسطيني، لم تظهر الرواية، في شكلها الحديث، إلاّ مع رواية جبرا إبراهيم جبرا "صراخ في ليل طويل"، التي كتبها في القدس سنة 1946. فقد واظب جبرا ابراهيم جبرا (1920- 1994) على الكتابة الروائية في منفاه العراقي جاعلاً من القدس - أجمل مدن الدنيا كما كان يقول - محوراً لأعماله، بدءاً من روايته "صيادون في شارع ضيق"، إلى عمله الأكثر طموحاً "البحث عن وليد مسعود".

قبل جبرا وضع نجيب نصار (1873- 1948)، مؤسس جريدة "الكرمل" سنة 1908، روايتين تعليميتين هما "في ذمة العرب" و"وفاء العرب".

وهناك رواية اسحاق موسى الحسيني (1904- 1991) "مذكرات دجاجة" (1943) التي قدّم لها طه حسين وظهرت في مصر، أكثر من مرة. أما رواية الحسيني، فهي عمل أدبي يثير التساؤلات وكثيراً من الفضول، أراد الحسيني منها "أمثولة أدبية"، ليست بعيدة عن "كليلة ودمنة"، مؤكداً قيمة التسامح الإنساني، وواضعاً "تآزر البشر" فوق الأمور الدنيوية "العارضة".

وإذا كان جبرا قد قيد نفسه إلى فلسطيني فائق الصفات، ينتظر انتصاراً أكيداً، وإلى منظور رومانسي قوامه فرد متفوق لا يشبه غيره، فإن الشهيد غسان كنفاني (1936- 1972)، الذي مارس بدوره المقالة والمسرحية والقصة القصيرة، ذهب إلى طريق مغاير.

أراد الرفيق غسان رواية "واقعية مئة في المئة"، كما كان يقول، فوصف مآسي الخروج وعثار اللاجئين في مخيماتهم، ومسارهم السائر، بالضرورة، من "الكمون إلى اليقظة.

تظل روايته "رجال في الشمس" (1963) هي العمل الأكمل، والوحيد، الذي قبض على عمق المأساة الفلسطينية، متخذاً من مقولة "العار" مجازاً، قرأ به أحوال الفلسطينيين الذين رضوا بالرحيل عن وطنهم.

ثم أنتج الكفاح المسلح الفلسطيني رواية تحتفي به وتعد بنصر قريب، بدءاً من غسان كنفاني وصولاً إلى جيل لاحق تمثّل بمحمود شقير ويحيى يخلف ووليد سيف وإبراهيم نصرالله وسحر خليفه وفيصل حوراني وعارف الحسيني وغريب عسقلاني وربعي المدهون وزكي العيلة وزكريا محمد وزياد عبد الفتاح ومحمد نصار وصولا إلى مروان عبد العال واحمد رفيق عوض وعبد الكريم السبعاوي وعبدالله تايه وطلال أبو شاويش وشفيق التلولي وخلوصي عويضة ومحمد جبر الريفي أبو نزار ونعيم الخطيب ويسري الغول وحبيب هنا وسماح حسنين وميرفت جمعه وأحلام بشارات ونور السبوع وغيرهم الكثير ممن لا تستحضره الذاكرة.

غير أن المنظور المتفائل، لم يعمر طويلاً، بعد خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت، فظهر منظور روائي نقدي متشائم، تجلى في عملين لسحر خليفة هما "باب الساحة"، التي تأملت انتفاضة 1987، قبل أن تسخر من القيادة السياسية الفلسطينية في رواية "الميراث".

أفضى الخروج من بيروت، كما اتفاق أوسلو، إلى "تحرر الرواية الفلسطينية"، فجاءت سامية عيسى بنقد أقرب إلى الهجاء في عمليها "حليب التين" و"خلسة في كوبنهاجن"، وكذلك مايا أبو الحيات في "لا أحد يعرف زمرة دمه".

ووصل حسين البرغوثي (1954- 2002) المبدع المتعدد الصفات، الذي عايش ما بعد أوسلو إلى رواية رثائية تبكي فلسطين التي لن تعود، وذلك في عملين أقرب إلى الفرادة هما: "الضوء الأزرق"، و"سأكون بين اللوز".

في هذا الجانب أشير إلى أنه لا يمكن قراءة الرواية الفلسطينية اليوم، من دون التوقف أمام أمرين: الشتات الواسع الذي يعيشه الفلسطينيين، وغياب المؤسسة التعليمية- الثقافية الجامعة.

فقد اغتال العدو الصهيوني أديبنا غسان كنفاني في بداية مساره الروائي، ولم يتح لجبرا إبراهيم جبرا أن ينشئ مع غيره تصوراً روائياً للعالم، ذلك إن غياب المؤسسة الثقافية الفلسطينية "الموحِّدة"، حاصر تكامل الجهود، ووزع الرواية على جهود مفردة، أكانت داخل "فلسطين المحتلة" أو خارجها، في حين تميّز غسان بتناول عالم المخيّم، واستطاع التقاط ابرز ملامح ومعالم هذا المخيم، وعوالمه الخفية، ليشتغل عليها ويعيد صياغتها على نحو نادر في خلق شخصيات باقية، تميّز بالمقابل عالم جبرا بتناول عالم البورجوازية الفلسطينية، في الوطن السليب وفي المهجر، وتميز إميل حبيبي عن كنفاني وجبرا، بتناول الداخل الفلسطيني والعلاقة مع الاحتلال، وجاء تميّزه على غير صعيد، فابتداء من "بوابة مندلباوم" (1954)، مرورًا بروايته "سداسية الأيام الستة" (1969)، ثم "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل" (1974)، وبأسلوبه الساخر الممتع استطاع التعبير عن معاناة شعبنا حيال الاستعمار الصهيوني، مع تضمين البعد الأيديولوجي في نصوصه.

وفي هذا الجانب لا يمكننا إغفال الصدى الواسع لرواية الطنطورية لرضوى عاشور والتي نجحت في سرد حكاية النكبة بتفاصيل إنسانية وببعد مختلف عما اعتدناه في الرواية الفلسطينية، عدا عن المشروع الذي قد يكون الأهم في التأريخ للرواية الفلسطينية وهو ملهاة إبراهيم نصر الله، "الملهاة الفلسطينية"، والتي تشكل تأريخاً انسانياً مكثفا للغة وحياة وتفاصيل الفلسطيني المغيبة عن الآخر.

وهنا أعتقد أننا جميعاً نتفق على أن الأدب بكل ألوانه -في كثير من الأحيان- لا يخلو من الأيديولوجيا، ذلك ليس عيباً -كما يقول عمر شبانة- بل إن العيب كله يكمن في بروز الإيديولوجيا ونفورها بشكل طاغٍ ومهيمن، لكن الأيدولوجيا لا تقول ذاتها بوضوح. فكلما كانت هامسة أكثر، كان صوتها مسموعاً بشكلٍ أفضل، ومُقنعاً أكثر.

في هذا السياق نتفق أيضا على أن العديد من المفكّرين الماركسيين يرون أنّ الأدب العظيم هو القادر على التعبير عن حقيقة المجتمع وعن أنظمة الأيديولوجيا المشكّلة له.

وكان الروائيّ الفرنسيّ بلزاك في التصوّر الماركسيّ معبّرا عن المجتمع البرجوازيّ الفرنسيّ في القرن التاسع عشر وعن تناقضاته وصراعاته على الرغم من أنّه ابن الطبقة البرجوازيّة نفسها في ذلك المجتمع.

من ناحية ثانية يذكر الفيلسوف الماركسيّ الفرنسيّ لوي ألتوسير (1918-1990) أنّ الأدب العظيم هو وحده القادر على التعبير عن أيديولوجيا المجتمع دون أن يقدّم لنا معرفة بها بالمعنى العلميّ، فالفنّ، بكلمات ألتوسير، "أعني الفنّ الأصيل لا الأعمال ذات القيمة المتوسّطة والعاديّة" يجعلنا، من خلال سماته المكوّنة له، نرى، "يجعلنا نحسّ، بشيء ما يلمّح ويشير مداورة إلى الواقع... إنّ ما يجعلنا الفنّ نراه... هو الأيديولوجيّة التي ولد الفن منها، ويستحمّ في مياهها.

أما الفيلسوف جورج لوكاتش (1885-1971) يرى أن ظهور الرواية في أوروبا ارتبط بنشأة الطبقة البورجوازية باعتبارها الفن الممثل لطبيعة هذه الطبقة ومصالحها، لكن على الرغم من أن لوكاتش يؤكّد أنّ الرواية هي فنّ المجتمع البرجوازيّ المعبّر عن طبيعته وعن تناقضاته، إلّا أنّه يبيّن أنّ البرجوازيّة لم تتبنَ الرواية للتعبير عنها بشكل قصديّ مخطط له، فقد كانت الرواية تتطوّر بشكل مستقل عن المستوى النظريّ الذي كان يعتمد على الأشكال الفنيّة القديمة ومفاهيمها، وبالتالي يتجلى هنا دور المثقف النقدي المبدع في صياغة الرواية أو أي شكل من أشكال الأدب بصورة تعبر عن المستقبل النقيض لمصالح الطبقة البورجوازية، وتلك هي رؤيتي انطلاقا من تجارب بعض الروائيين العرب من ذوي الانتماء البورجوازي، لكنهم عبروا في رواياتهم عن طموحات الجماهير الشعبية من العمال والفلاحين ، عبر رفضهم لكل اشكال ومظاهر الاستغلال الطبقي، وهنا أؤكد على أن قوة انتشار الرواية عبر مضامينها الحاملة لتطلعات الجماهير في فلسطين أو أي بلد عربي آخر يكمن في ترجمتها لمشاعر الجماهير عبر متابعتهم للنص الروائي مكتوباً أو مرئياً.

هنا بالضبط أعود إلى الثقافة، من خلال تعريفي لمهمة المثقف النقدية التغييرية والثورية في بعض الأحيان، هي مهمة قد تكون قاصرة على عدد قليل من المثقفين العرب، دون أن اتجاوز دور الانتهازيين الذين اختاروا الطريق السهل في خدمة الحاكم أو الأجنبي إلى جانب تسويغهم لعملية التطبيع والتراجع عن اعتبار القضية الفلسطينية قضية مركزية، رغم إدراكهم بأن مواقفهم هذه هي أبشع سمات الخيانة بالمعنيين الوطني والثقافي، ويدركون أيضا أن مواقفهم تلك تنطلق من أكاذيبهم الوقحة، فلا يقومون بالدفاع عن القضايا الوطنية، ولا ينتقدون، ولا يتحدثون عن القضايا العميقة، القضايا الحقيقية للحياة، ولا يتحدثون عن الأزمات الحقيقية في بلدانهم التابعة المتخلفة المستبدة، فلم يعد يهمهم أبدا الاقتراب من قضايا تحرر شعوبهم، ولم يعودوا معنيين بطرح الأسئلة، والكشف عن مصدر الاستبداد والقمع ومصادرة الرأي والرأي الآخر.

لكن تلك الممارسات الانتهازية مرتبطة بالتأكيد بالمصالح الأنانية الطبقية لهذا المثقف أو ذاك في تبريره لسياسات النظام العربي في وضع الانحطاط الراهن، الذي تتجلى فيه عدداً من المظاهر الاقتصادية التي تجسد تلك الممارسات والسياسات.

في مثل هذه الأوضاع، أعتقد أن أدونيس على حق بقوله ”إن الثقافة العربية السائدة لا تعلّم إلا الكذب والنفاق والرياء”، “فإذا كانت الرقابة في المجتمع العربي جزء عضوي من الثقافة العربية وليست فقط رقابة أهل السلطة، فرقابة أهل السلطة جزء من الرقابة الاجتماعية والسياسية”، وبالتالي كما يضيف أدونيس بحق، فإن تاريخنا أصبح مزيفاً لأن الأنظمة الحاكمة المستبدة هي التي كتبته.

أنا لا أستطيع أن أقول كل ما أفكر فيه وإذا قلته في قاعة كهذه لا أستطيع أن أقوله كله، وهذا يؤكد أن الثقافة العربية لا معنى لها فهي ثقافة وظيفية لا ثقافة بحث واكتشاف كلنا موظفون في ثقافة سائدة.

في كل الأحوال يعد علم التاريخ من العلوم المهمة إن لم يكن أهمها، ويجب قراءة التاريخ وفهمه لتوظيف الماضي والحاضر والاستفادة منه في بناء مستقبل.

فالتاريخ بالنسبة لنا يظل مصدراً للتعلم، فهو ذاكرة شعوبنا ومستودع تجاربها، ومخططاتها للمستقبل بشرط وجود أدوات / أو أحزاب وحركات وطنية تمتلك الرؤية الواضحة والقدرة والإرادة لتحقيق تطلعات شعوبنا.

لكن رغم كل الإنجازات التي حققها الكتاب والمبدعون العرب في كل الميادين، فإن الحداثة العربية ليست حاضرة معنا وليست أمامنا وإنما الحداثة هي خلف ظهورنا.

لذلك لا استغراب أو دهشة إذاً إذا لم نجد مفكرًا أو شاعرًا أو نجد فيلسوفًا عربيا معاصرًا يستطيع أن يجاري بفكره وأرائه فلاسفة الغرب في حين أن تعداد المسلمين في العالم قد تخطى المليار ونصف المليار مسلم. لكننا على الطرف الآخر نجد مئات بل آلاف الفقهاء، الذين ليس لديهم أي تجديد أو ابتكار، فهم فقط يقلّدون أسلافهم تقليداً أعمى من ابن تيمية والشافعي الى ابن باز دون وعي أو فكر.

العلاقة غائبة بين المثقف الممأسس وبين السلطة أو النظام العربي، وبالتالي لا دور للمثقف في بلداننا كما هو الحال في دولة العدو، السؤال هنا كيف يمكن لاتحاد الكتاب الفلسطيني استعادة دوره التنويري العقلاني الوطني عبر مأسسة الثقافة الوطنية الفلسطينية ورسم السياسات المستقبلية بالنسبة لإنهاء الانقسام ولحرية شعبنا واستقلاله وصراعنا مع العدو؟

فالمستقبل يقترب منا -عبر مقومات القوة والعولمة والاختراعات ودور العدو الصهيوني- بشكل أسرع مما نتخيل، فهل يبدأ الاتحاد بنشر مفاهيم الحداثة (الديمقراطية والمواطنة والعلمانية والعدالة والوطنية والتقدم) قبل فوات الأوان.. بمعنى قبل ان نتحول عبيداً أذلاء في بلادنا؟

قد نتفق على أن الديمقراطية بالمعنى العقلاني جزء من الحداثة، ولكن ليس من الممكن وجود حداثة بلا ديمقراطية، وعندما تقول حداثة وديمقراطية، فإنك تتحدث عن مجتمع مُسيّس – كما يقول د. فيصل دراج - أي أنك تمر على السياسة بالضرورة.

إذاً، فلا إمكانية لوجود ديمقراطية بدون حياة مجتمعية سياسية، ولا إمكانية لوجود حداثة بدون دولة تعبر عن مصالح قوى اجتماعية فاعلة، تنظر إلى المستقبل ولا ترى في الماضي مثالًا.

أنا مع المفكر العربي أدونيس في بلورة مشروع للإصلاح يقوم على عدد من النقاط “النقطة الأولى تتمحور حول قطيعة كاملة مع القراءات السائدة للدين والتي تحول النص الديني من كونه نص رحمة ومحبة وسعادة للبشرية إلى نص عنف وإلى جلّاد، أما النقطة الثانية فتربط تغيير السلطة والمجتمع بإنشاء جبهة علمانية ديمقراطية على مستوى الوطن العربي تعمل على إعادة قراءة الموروث وتؤسس لمجتمع جديد قائم على المعرفة والفكر المتجدد.

النقطة الثالثة: تحرير الثقافة من القيود المفروضة عليها من الأنظمة وذلك انطلاقا من أن الثقافة هي من أجل الحرية وفتح الآفاق والتقدم الديمقراطي.

النقطة الأخيرة: الديمقراطية التي لا مفر منها، فبدون الديموقراطية لا حرية ولا حقوق ولا مساواة، فالديمقراطية والمواطنة القائمة على علمنة المؤسسات هي ما تستحق أن نناضل من أجله”.