Menu

راهنية غسان كنفاني في المسألة التنظيميّة

د. وسام الفقعاوي

نشر في العدد الأخير من مجلة الهدف الرقمية

تعدُّ الركيزتان التنظيميّة والفكريّة أساسًا في بنية أي حزب، فما بالنا إذا كان الحزب يطرح ذاته، باعتباره حزبًا ثوريًّا طليعيًّا، يطمحُ لأن يقود الجماهير نحو تحقيق أهدافها الوطنيّة والطبقيّة؟ ففي هذه الحالة، ودون أدنى شكّ، فإنّ المسألة التنظيميّة، المرتبطة جدليًّا بمرجعيّتها/بنيتها الفكريّة، في ملاءمتها مع الأهداف السياسيّة للحزب، تغدو مسألةً أساسيّةً وحيويّة في آن.

فإذا كان التنظيم/الحزب هو، كما يقول لوكاتش، شكل التوسّط بين النظريّة والممارسة، بين الهدف والعمل في سبيل الوصول إليه وتحقيقه، ندرك أهميّة بل حيويّة المسألة التنظيميّة ومركزيّتها، خاصّةً أنّ الفكرة الأساسيّة وراء تأسيس الأحزاب الثورية وقيامها هي تجاوز - ما أمكن – قيود الشروط الموضوعيّة، والبناء وفق ما يُخطط له لا ما يمليه الواقع. هنا يكمن جوهر فكرة الحزب في شقّه التنظيمي تحديدًا، لناحية تلازم ضرورتين: معرفة الواقع ومحدّداته، وصياغة تجربة تتجاوز هذا الواقع وتتمرّد عليه؛ كون ترك الواقع وحده يصيغ التجارب، يعني قتل فكرة الحزب الثوري.

لقد كان غسان كنفاني من القلائل الذين أدركوا محوريّة المسألة التنظيميّة وأولويّتها، ليس فلسطينيًّا فحسب، بل عربيًّا أيضًا، وهو الذي لم يفصل في كتاباته السياسيّة بين تلازم البعدين الوطني والقومي تجاه القضيّة الفلسطينيّة خصوصًا، والقضايا العربيّة عمومًا. وعليه؛ نجده يسجّل ذلك من خلال مقالتين متلازمتين، الأولى تحت عنوان: التركيب التحتي للثورة: وثيقة عن السلاح التنظيمي. والثانية تحت عنوان: المقاومة ومعضلاتها كما تراها الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين، سنحاول من خلال هذه المقالة إلقاء الضوء عليهما، ما أمكن.

التجربة التنظيميّة.. العفويّة القاتلة:

ظلّت المسألة التنظيميّة في نظرية الثورة العربيّة – ومنها الفلسطينية بالطبع - وممارستها، دون أن تأخذ المكانة التي تستحقّها أو يجب أن تحتلّها، بحيث تعرّضت هذه المسألة الاستراتيجيّة إلى إهمالٍ شبه تام، تعود إلى أنّ قيادات هذه الأحزاب "لم تفهم أو لم تحاول أن تفهم أن الشكل التنظيميّ المتلائم يشكّل هو الآخر شرطًا أساسيًّا من شروط الاستراتيجيّة المتلائمة"[1]، حيث خضعت في معظمها للعفوية في تشكيلها، ولم تقم بناءً على قراءةٍ موضوعيّة – علميّة، لواقعها، ولهذا فقدت أحد أهم شروط تشكّلها، وهي ضرورة امتلاكها لنظرية ثورية تُمكّنها من امتلاك رؤيةٍ واضحةٍ ووعي كامل لهذا الواقع، وكيفية التعامل مع أحداثه/معضلاته؛ فوعي المسألة التنظيمية وما يرافقها من معضلاتٍ على أنّها عمليّةٌ وطنيّةٌ واجتماعيّةٌ موضوعيّةٌ وتاريخيّة، يعكس بقدرٍ كبير، ولكنّه ليس مطلقًا، معضلات الواقع وتعقيداته، مع الاحتفاظ دائمًا بالمساحة المناسبة للعامل الذاتي ودوره في حلّ هذه المعضلات أو تسعيرها، بما يحقّق أهداف الحزب، لكن تجربة العمل التنظيمي العربي والفلسطيني عمومًا وخضوعه للعفويّة والتجريبيّة، وضعنا أمام نتائج خطيرة، لجهة أنّها جعلت الحزب الذي من المفروض أن يكون ثوريًّا، ومن ثَمَّ أن يكون ردًّا واعيًا وشاملًا، سواء بسياسته الوطنيّة والاجتماعيّة أم بحياته الداخليّة، على الواقع الفاسد/الثائر ضدّه؛ يتلوّث به، وينقل أمراض هذه الواقع إلى صفوفه[2]، وإخضاعه لعمليّة تآكلٍ ذاتي على طريق عدم التأثير في الواقع من جهة، والتلاشي والاندثار من جهةٍ أخرى، في حين أنّ الحزب يفترض أن يكون صورةً أوليّةً عن "ملكوت الحرية" بالمعنى الذي تناوله كارل ماركس؛ فالنظريّة التنظيميّة في ارتكازها على الرؤية الأيديولوجيّة هي شرط وجود الحزب الثوري، لكن هذه النظرية وتعبيراتها العمليّة خضعت "في تاريخ المسيرة العربيّة، وخصوصًا في الأحزاب والتجمّعات السياسيّة، لميوعةٍ لا حدَّ لها، وشهدت أشكالًا لا حصرَ لها من الانتهازيّة، فقد تجلّت حينًا بصورة الانضباط الفاشي، وغالبًا بهيمنة البيروقراطيّة المستفيدة من "شكل" التنظيم والمتحكّمة فيه، كما أنّها شهدت إمكان التحوّل إلى "الشلليّة" وإلى العسكريّة، وانتهى الأمر بكثيرٍ من التنظيمات نتيجةَ الجمود إلى التشرذم، لكن في مراتٍ قليلةٍ تكاد تحصى استطاعت سلامة الواقع التنظيمي لحزب من الأحزاب – نسبيًّا – أن تؤدي إلى تعبير حقيقي عن واقع احتدام الجدل داخله، وتطوّر هذا الاحتدام نحو صيغٍ أرقى على صعيد المخطّط السياسي، أو في طريق الالتزام الأيديولوجي"[3].

وهذا بدوره ما أوصل غسان كنفاني للقول: أنه في "المسيرة النضاليّة العربيّة كانت المسألة التنظيمية على الدوام نقطة الضعف القاتلة، فبالنسبة للتنظيمات التي جاهرت بأيديولوجيا تقدّميّة، وكذلك بالنسبة للتجمّعات التي وصلت في مسيرتها أحيانًا إلى حمل السلاح ضدّ العدو الإمبريالي، كانت رخاوة البنية التنظيميّة تتيح دائمًا للقيادات أن تنحرف بالثورة أو تجهضها أو تساوم عليها"[4]، وما وصلت إليه التجربة التنظيمية الفلسطينية، منذ بداية التسعينيات يؤكد ذلك.

وعليه؛ فإنّ وجود حزبٍ أو أحزابٍ ثوريّة فلسطينيّة وعربيّة تناضل من أجل انتزاع حريتها واستقلالها وتحقيق أهدافها في العدالة والوحدة، يكتسب أهميته وراهنيته من سوء، بل كارثية الأوضاع العربيّة الداخليّة - ومنها الفلسطينيّة - على صعيد كل قُطْر، وعلى الصعيد القومي العام، بحيث تتبدّى المسألة التنظيميّة اليوم، من أكثر مسائل العمل الثوري العربي أهميّة وأولويّة.

الحزب ومسألة الوعي:

ليس من باب الترف، القول إنّ الوعي ضرورةٌ لنجاح أيّ ثورةٍ وتحقيق أهدافها، من خلال ضرورة أن تكون الأهداف شعبيّة، وهذا لا يمكن أن يتحقّق دون الوعي، كما أن هدف نجاح المعركة الوطنيّة والاجتماعيّة التغييريّة الحقيقيّة، يتجسّد بالوعي أوّلًا وثانيًا وأخيرًا، فإذا كانت حوامل الثورة – حزبًا أو أفرادًا - غير واعية، من المستحيل أن تكون ثوريّة، وهذا ما يحيل الثورة إلى فوضى، ومن ثَمَّ التخلّي عن أهدافها الحقيقيّة، حيث يذهب مهدي عامل للقول: "ليس بالحلم تكون الثورة، وإن كان الحلم شرطًا من شروطها. ومن شروط الثورة أن يتوفّر لها وعي متّسق، إليه تستند، وبه تستبق الممكن. أعني الضروري. ومن شروطها أن يتجسد وعيها المتسق هذا، أي العلمي، وفي وعي القائمين بها، جماهير الكادحين، المنتجين بأيديهم وأدمغتهم، صانعي التاريخ، بوعيهم الممارسيّ يستحيل الوعي النظري قوةً ماديةً تَدُكُّ أعمدة القائم، وتهيئ لولادة الجديد"[5].

فالحزب أو التنظيم حسب ماوتسي تونغ هو وسيلة النظرية إلى التنفيذ، أو بقوله أيضًا: القارب أو الجسر، واللذان لا غنى عنهما أو عن واحد منهما للعبور من ضفة القرار إلى ضفة الممارسة، وهذا لا يمكن أن يتجسد إلا من خلال التفاعل المستمر بين النظري والعملي، الذي بدوره يحتاج إلى حزبٍ ثوري ينصهر في واقعه من بوابة الوعي والمعرفة والتجدّد الدائم، "فالمعرفة والممارسة هما طرفا حركة جدليّة لا تتوقّف، وأنّهما تتبادلان مكاسبهما بصورةٍ مستمرّة، وأنّ حركتهما هذه تقتضي المضي في إجراء الإضافات والتصحيحات والتعديلات"[6]؛ لتنتج عملية التغيير المنشودة، وهنا تغدو المسألة التنظيمية كما ذهب غسان كنفاني، في العمل الثوري، ليست "عملية ترتيب تقنية، بل انعكاس للموقف العقيدي، وإذا هو مضى يشق طريقه من دون هدى من الموقف العقيدي، فسينتهي إلى صيغة تآمرية، لا إلى صيغة ثورية، وفي أحسن الأحوال سينتهي إلى صيغة عصبوية"[7]؛ فالحزب الثوري الذي يملك نظرية واستراتيجية، فإنه يعدُّ المسألة التنظيمية جزءًا لا يتجزأ من هذه النظريّة ومن هذه الاستراتيجيّة[8].

الحزب ومسألة الديمقراطيّة:

تعدّ مسألة/قضيّة الديمقراطيّة في الحزب من المسائل/القضايا الأساسيّة التي لا يمكن تجاوزها، خاصّةً أنّها تمثّل مسألةٍ حيويّة ومصيريّة يتوقّف عليها دور أداء الحزب الوطني والاجتماعي ووظيفته ومستواه، في سياق العلاقة الجدلية ما بين المسألتين؛ الوطنيّة والديمقراطيّة، الذي يستمد ذلك من تعريفنا للمرحلة التي يمرّ بها نضال شعبنا الفلسطيني، بأنّها: مرحلة تحرر وطني وديمقراطي، بحيث يطرح ذلك التعريف للمرحلة، أن لا انفصال بين الوطني التحرري والاجتماعي الديمقراطي، وأنّ أيّ انفصالٍ يبدو أو يظهر بينهما، ليس أكثر من مسألة افتعالٍ انتهازي، يضرب مشروع الحزب، كما قانونه الناظم (النظام الداخلي)، ووثائقه وبرامجه، بعرض الحائط، ويُبقي الحزب رهينةً لدوائر الأزمة والمراوحة والتراجع، هنا تستحقُّ المسألة الديمقراطيّة أولوية نقاشها وأهمّية تناولها بعمق ومسؤوليّة، وتجذّر فكري وثقافي، ووطني واجتماعي ثوري؛ وهذا ما ذهب إليه غسان كنفاني بالقول إنّه: "حين يقر الفكر السياسي أن العلاقة بين الفكر والعمل هي علاقة جدلية، وأنه لا يوجد فكر مجرد لا يمارس ولا ترتد إليه التجربة بالإغناء، ثم يرتد إليها بالدليل، فإنه من غير المنطقي ألا يضع التنظيم بعد ذلك مسألةَ الديمقراطية في صلب بنيانه"[9].

فمن البديهي والحال هذا، أن تكون الديموقراطية مطلبًا أوليًّا وأساسيًّا من مطالب الحزب الثوري، الذي لا يمكن أن ينمو نموًا سليمًا، أو يتطوّر، أو يتقدم نحو أهدافه، إلا في مناخٍ وطني وديموقراطي صحي، أو بمعنى أدقّ إذا غدت الديمقراطية: نظام حياة.

 

[1]. جورج طرابيشي: في التنظيم الثوري، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، ط.1، 1969، ص 5.

[2]. المرجع السابق: ص 13.

[3]. غسان كنفاني: التركيب التحتي للثورة: وثيقة عن السلاح التنظيمي، دار العودة، بيروت، 1971، ص 8.

[4]. المرجع السابق: ص 7.

[5]. مهدي عامل: الثقافة والثورة، موقع الحوار المتمدن، العدد 6569، 20/5/2020:

https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=518075

[6]. غسان كنفاني: الدراسات السياسية – المجلد الخامس، منشورات الرمال، قبرص، ط.1، 2015، ص 198.

[7]. غسان كنفاني: التركيب التحتي، مرجع سبق ذكره، ص 10.

[8]. جورج طرابيشي: في التنظيم الثوري، ص 16.

[9]. غسان كنفاني: الدراسات السياسية، ص 198.