Menu

نطاح الكباش في دولة الأوباش (الحلقة الرابعة)

كميل أبو حنيش

مركز حنظلة للأسرى والمحررين - بوّابة الهدف الإخباريّة

عندما تسرق الآلهة

ثمة مثل بابلي قديم يقول (عندما تسرق الآلهة فبماذا يستحلفونها). وهو مثل ينطبق تماماً على نتنياهو المتهم بثلاث ملفات فسادٍ من العيار الثقيل، إذ أنّ كلّ ملفٍ من هذه الملفات، من الممكن أن يفضي به إلى السجن لعدة سنوات.

غير أنّ الرجل المعروف في الساحة السياسية بأنّه مصابٌ بالبارانويا، يرفض تلك الاتهامات التي أصبحت الشغل الشاغل للإعلام والطبقة السياسية والجمهور. لكنّ نتنياهو لا ينفي تلك التهم وحسب، وإنّما يتهم خصومه ومؤسّسات الدولة بتلفيق هذه القضايا، بهدف إقصائه عن الحلبة السياسية. فهذا الرجل المصاب بجنون العظمة، والذي يطلق عليه أتباعه ومديروه لقب "ملك إسرائيل" و"الساحر"؛ وذلك لإنجازاته الكبيرة في مختلف الميادين وحنكته السياسية، بات يعتبر نفسه إلهاً مطلق الصلاحيات ولا يجوز لأيٍ كان اتهامه والانتقاص من مكانته، أو مجرد التفكير باستبداله برئيس حكومة آخر.

تتمتّع دولة الكيان بمؤسسات قوية ومستقلة، خاصةً سلطة القضاء، التي كان لها قداستها واحترامها من قبل الساسة ورؤساء الحكومات والوزراء وأعضاء الكنيست، وسائر مفاصل الدولة، إضافةً للجمهور. فهي تمثّل سلطة القانون وتعتبر مثلاً للشفافية والنزاهة، وتتباهى بها "إسرائيل" أمام العالم.

فقد أدان القضاء طوال العقود الماضية عدداً من رؤساء الحكومات (رابين وأولمرت)، وغولدا مائير استقالت بعد أن تَشكّلت لجنةٌ قضائيةٌ لفحص إخفاقات الحكومة في حرب العام 1973. وجرى التحقيق مع أرئيل شارون، وذهب انبه عمري إلى السجن. كما وأدانت رئيس الدولة موشي كتساف وأمضى سنوات في السجن، وكذلك أدانت أعضاء كنيست ووزراء كأرييه درعي، وأمضى هو الآخر سنوات في السجن، ولم يشكّك أحدٌ منهم بمؤسسات الدولة، ولا بنزاهة القضاء، باستثناء كتساف ودرعي اللذين اتهما الإعلام والقضاء بالتحيز ضدهما لأنهما من أصولٍ شرقية.

غير أنّ حالة نتنياهو مختلفة تماماً، واستثنائية لم تشهدها الساحة السياسية من قبل؛ فالرجل القوي والمُستَقوِي بحزبه ومعسكره شكّك منذ البداية بالدوافع السياسية وراء اتهامه بملفات الفساد، وراح يردّد في أكثر من مؤتمرٍ صحفيٍ (ليجري التحقيق مع المحققين) أي التشكيك بالمحقّقين، ورجال الدولة المهنيين الذين تولوا مهمّة التحقيق بهذه الملفات، متهماً إياهم باليسارية، وتليف التهم ضده.

بيد أنّ بضاعته لم يشترها أحد، باستثناء مناصريه الذين دافعوا عنه باستماتة، واستمرت المؤسّسات بمتابعة التحقيق بهذه الملفات إلى أن وصلت مرحلة توجيه لوائح اتهام ضده، والدخول في محاكمته.

لقد شَكلّت هذه الملفات إحدى الأسباب المباشرة للأزمة التي تشهدها "إسرائيل" منذ العام 2019، وقاتل نتنياهو باستماتةٍ في المعارك الانتخابية الخمس التي جرى تنظيمها منذ بداية الأزمة، وازدادت حدة النطاح السياسي، وألقت بظلالها على المجتمع الذي انقسم إلى معسكرين متناوئين أحدهما يميني (حزب الليكود والأحزاب الدينية)، يدافع عن نتنياهو ويلتف حوله بقوة، والآخر خليط من قوى علمانية ووسطية ويسارية ويمينية وليبرالية ومدنية، تصّر على إقصائه من السلطة، والحيلولة دون السماح له بتقويض مؤسسات الدولة. وما أن تولت حكومة اليمين الحالية السلطة في ديسمبر من العام الماضي حتى أعلنت عن خطتها الشاملة لإصلاح القضاء، ما أدّى إلى انفجار الشارع، ووصلت الأزمة إلى مرحلة الذروة.

ونتنياهو الذي ينكر بشدة تهم الفساد، ويصّر على عدم محاكمته، وعلى البقاء في السلطة، يتهم الواقع، أيّ بعض مؤسسات الدولة والخصوم السياسيين، بأنّهم هم المسؤولون عن الأزمة بتلفيقهم مثل هذه التهم ضده. إذاً ولضمان عدم محاكمته، لابد من تغيير هذا الواقع، أي تغيير القوانين التي تسمح بمحاكمته. وهذا هو جوهر الأزمة الحالية. إذ أنّ رزمة ما يُسمى "الإصلاحات القضائية" التي قدَمّها الائتلاف الحاكم تتضمن عدداً من البنود التي ستؤدي إلى إضعاف القضاء، بل تقويضه كما ترى المعارضة، ومن هذه البنود الواردة في قانون الأساس الخاص بالقضاء:

1. فقرة المعقولية التي تتيح للقضاء هامشاً مرناً في حسم بعض القضايا المعقدة.

2. فقرة التغلب، التي تتيح للقضاء إبطال أيّ قانونٍ أو إجراءٍ حكوميٍ ترى فيه مخالفةً صريحةً للنظام والقانون الأساسي.

3. لجنة تعيين القضاة: التي تتيح للحكومة تغيير بنيتها وآلية اختيارها للقضاة، بهدف إدخال قضاة محسوبين على اليمين، إلى المحكمة العليا.

4. إضعاف صلاحيات المستشار القضائي للحكومة والمستشارون القضائيون لمؤسسات الدولة.

إضافةً إلى اقتراح قوانين أخرى: كقانون الهدايا الذي يمنح رئيس الحكومة الحق في تلقي هدايا. وكذلك قانون العزل السياسي الذي يمنع إمكانية عزل رئيس الحكومة من منصبه بسبب مخالفات جنائية.

وقد وجدت الأحزاب الدينية الفرصة مواتيةً أمامها، لاستغلال حاجة نتنياهو لها، فوضعت هي الأخرى شروطها وقوانينها في الخطة الإصلاحية، كقانون التجنيد الذي يعفي المتدينين من الخدمة العسكرية، وكذلك القانون المعروف "بقانون درعي" الذي يسمح لأرييه درعي زعيم حركة شاس بتولي منصب وزاري، خلافاً لقرار القضاء الذي يمنعه من ذلك بسبب ملفات الفساد التي سُجن بسببها.

فهذه الخطة تستهدف القضاء لأسبابٍ شخصيةٍ وحزبية. فقد هاجم نتنياهو وحلفاؤه مؤسسة القضاء، واتهموها بالفساد والتكلس، ولديهم إصرار على إضعاف هذه المؤسسة بذريعة تحقيق التوازن بين السلطات.

غير أنّ خطة الائتلاف الحكومي لا تقتصر على القضاء، وإنّما لديه خطة شاملة تستهدف الإعلام والتربية والتعليم والثقافة وأجهزة الأمن، وهو ما أثار حفيظة القوى السياسية والمدنية المعارضة.