Menu

استفتاء مجاني حول السياسة الأمريكية

زاهر بن حارث المحروقي 

لا أعتقد أنّ أعضاء السفارة الأمريكية في مسقط كانوا على دراية بأنّ برقيتهم المهنئة لجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ والشعب العماني بمناسبة العيد الوطني الثالث والخمسين، ستكون استفتاء لتوجهات الشعب العُماني حول السياسات الأمريكية في المنطقة؛ فرغم أنّ كلمات التهنئة كانت بسيطة وقليلة العدد، إلا أنّ التفاعل مع التغريدة كان كبيرًا من حيث عدد المشاهدات والتعليقات التي أدانت السياسة الأمريكية، وحمّلتها مسؤولية المجازر التي يرتكبها الكيان الصهيوني في غزة، فيما رفض الكلّ تلك التهنئة. والملاحظ أنّ معظم فئات الشعب العماني، شاركت في التعليقات من كتّاب ومشايخ وشرائح المجتمع المختلفة، ومن مناطق عُمان كافة، ممّا يؤكد أنّ الثقة بالسياسة الأمريكية مفقودة؛ بل وصل الأمر إلى كره تلك السياسات. والغريبُ في الأمر أنّ مسؤولي السفارة في مسقط كانوا قد حذروا البيت الأبيض - قبل ذلك - من أنّ الولايات المتحدة تفقد ثقة العالم العربي بسبب الدعم النشط للعملية الإسرائيلية في قطاع غزة؛ إذ أرسلوا برقية إلى مجلس الأمن القومي الأمريكي ووكالة المخابرات المركزية، ومكتب التحقيقات الفيدرالي، تحذر من أنّ الدعم الأمريكي القوي لتصرفات إسرائيل يُنظر إليه على أنه «مسؤولية مادية ومعنوية ويتم اعتباره جرائم حرب محتملة». وحسب قناة «سي إن إن»، فإنّ ثاني أعلى شخص في السفارة الأمريكية في مسقط، كتب البرقية، مسلطًا الضوء على القلق العميق بين المسؤولين الأمريكيين بشأن الغضب المتزايد ضد الولايات المتحدة، والذي اندلع بعد وقت قصير من شن إسرائيل اعتداءاتها على غزة. والمؤكدُ الآن أنّ السفارة الأمريكية في مسقط باتت على دراية تامة بتوجهات العُمانيين ضد التأييد الأمريكي المطلق للكيان الصهيوني في إبادة الفلسطينيين، إذ لم يقتصر الأمر على التأييد والدعم فقط؛ بل شاركت أمريكا بقواتها وأسلحتها في قتل الأشقاء الفلسطينيين، وجاءت بقضّها وقضيضها وأساطيلها لمحاربة أصحاب الحق، وهو ما فعلته وتفعله دائمًا؛ وليس رفض الرئيس بايدن وقف إطلاق النار ضد غزة ببعيد.

وعندما يعبّر المواطنون العمانيون عن رفضهم للتهنئة الأمريكية وبهذه الكثافة، فإنّ ذلك يدل على أنّ السيل قد بلغ الزبى، ومن خلال إطلالة سريعة على التعليقات، كان معظم ما قيل حول رفض التهنئة، بأنها جاءت من الداعمين لمجرمي الحرب في فلسطين، «فأمريكا هي الداعم الأول للمجرمين وشريكة في الجريمة، هذه الحقيقة التي لا يمكنكم الهروب منها. وما تقومون به عار سيلاحقكم ولن ننساه أبدًا» كما قالت إحدى التغريدات، والتهنئةُ جاءت من «شركاء لقتلة الأطفال والنساء في فلسطين، وأنّ ديمقراطيتكم المزيفة باتت مفضوحة أمام الشعوب الحرة حول العالم» كما أكدت تغريدة أخرى، ولا قيمة لهذه التهنئة إذ أننا «لا نحتفل بالعيد، فلم يصبح هناك أفراح بسبب قتل إسرائيل ومن يدعمها خمسة آلاف طفل وثلاثة آلاف من النساء» في تغريدة ثالثة، و«أنتم من قدّم العتاد والسلاح لهدم المساجد والكنائس والمدارس والمستشفيات.. سلاحكم ودعمكم المطلق لدولة الاحتلال مستمر.. وكلكم متحمس لهذه المجازر.. وسوف يأتي يوم وتطرد أمريكا قبل إسرائيل من الشرق الأوسط بسبب سياساتكم الدموية» حسب تغريدة رابعة؛ فيما رأى أحد المغردين أنّ التهنئة الأمريكية مملوءة بدماء الفلسطينيين الأبرياء، وأنها مجرد نفاق: «دعوا عنكم النفاق.. لا نحب تلقي التهاني من حكومة عدوانية تمارس القتل وتشجع عليه.. لقد أظهرتم للعالم أنّ الأمة الأمريكية أمة بلا قيم إنسانية ولا أخلاق، مع أنني على يقين بأنّ الشعب الأمريكي مختلف عن سياسة حكومته».

لقد لخصت إحدى التغريدات الحكاية كلها عندما قال صاحبها: «الحروب هي الاختبار الحقيقي للقيم والأخلاق، وفي كلّ حرب يظهر زيف قيمكم وأخلاقكم. في الغد القريب الذي تزول فيه حضارتكم بما كسبت أيديكم، فلن يذكركم أحد إلا بالكفر بنعمة الله والبغي والعدوان. الحرب على غزة حرب أمريكية ظالمة. جلبتم للتهديد المبطن حتى غواصة تحمل رؤوسًا نووية! أين عقلاؤكم؟» مبديًا خيبة أمله في أمريكا التي تتغنى بالديمقراطية وحقوق الإنسان: «كلما ظننا أنّ فيكم بقية من إنسانية، كذّبتم ذلك الظن بدعم جرائم الحرب الإسرائيلية، وتصريحات مسؤوليكم المقيتة والموغلة في النفاق. تختبئون بكلّ جبن خلف تصريحات مطاطية، وتحتقرون دماء المدنيين العرب ولو حملوا جوازات أمريكية، فأنتم تحكمون بشريعة الغاب، ومصالحُكم فوق كلّ القيم الإنسانية»، فيما رأى مغرد آخر أنّ «النقطة الإيجابية في الأمر أنّ المجتمع الأمريكي بدأ يعي جيدًا حقيقة الجريمة المنظمة في فلسطين المحتلة؛ فالملايين من المواطنين الأمريكيين خرجوا في مظاهرات تطالب بوقف إطلاق النار وبتنفيذ قوانين مجلس الأمن، وباحترام القانون الدولي، والقانون الدولي الإنساني»، فيما أكدت مغردة أنه «سيتجذر في ذريتنا فهم أنّ فلسطين محتلة، وأنّ إسرائيل ترتكب جرائم حرب في حقهم، وأنّ أمريكا تبنتهم، لتصبح جزءا لا يتجزأ من الصهيونية، من خلال الدعم المالي والعسكري المقدم لإسرائيل»؛ وأكد آخر أنّ طفلا فلسطينيًا يموت كلّ عشر دقائق في غزة بسلاح أمريكي، «سنربّي أطفالنا جيلًا بعد جيل: أنّ إسرائيل هي عدو الأطفال والمدارس والمستشفيات، وأنّ أمريكا هي إسرائيل».

لقد وجه أحدهم نصيحة للسفارة الأمريكية بأنّ «الردود على تغريدة التهنئة يجب أن تنال اهتمامكم، ومعرفة رأي العماني تجاه الولايات المتحدة ومواقفها السياسية».

لكن ألا تعلم أمريكا توجهات المواطنين العرب حول سياساتها العدوانية في المنطقة لصالح إسرائيل ضد العرب؟! وهذا السؤال يقودنا إلى سؤال آخر أعمق: إذا كانت أمريكا تعرف رأي المواطنين العرب في سياساتها هذه، فما الذي يجعلها تضرب بهذه الآراء عرض الحائط؟ لقد اعتمدت أمريكا على الأنظمة الموالية لها في المنطقة، واعتقدَت - جازمةً - أنها بفضل عضلاتها ستستمر في إهانة الشعوب العربية، وأنّ الكيان الإسرائيلي (الذي لا يقهر) سيظل رأس حربة ضد المواطنين العرب، ولكن هذه النظرة هي نظرة قاصرة؛ فكلما زادت أمريكا في غطرستها - اعتمادًا على عملائها في المنطقة - زاد الاحتقان لدى الشعوب العربية ضدها؛ فهذه الشعوب حرة، ولا يمكن التنبؤ بما سيحدث مستقبلا ضد المصالح الأمريكية في كلّ مكان؛ فالقبضة الأمنية المشددة ضد الشعوب لن تقف حائلا دون السعي لرد الاعتبار.

لقد اختلف الأمر الآن عن السابق، عندما كان الإعلام تحت سيطرة فئة أو طائفة معينة، أما الآن فإنّ وسائل الاتصال الحديثة أوصلت الحقيقة إلى عقر دار الأمريكيين والغرب؛ فانطلقت مسيرات ضد الجرائم الصهيونية على الفلسطينيين، وضد التأييد الأمريكي لها، وقدّم أكثر من موظف في الخارجية الأمريكية استقالاتهم، بسبب المشاركة الأمريكية في إبادة الفلسطينيين؛ وهو الأمر الذي علق عليه أحد ضباط البحرية الأمريكية عند الاجتياح الإسرائيلي لأراضي السلطة الفلسطينية عام 2002 قائلا: «حين أشاهد على شاشة التلفزيون طائراتنا ودباباتنا تُستخدم لمهاجمة الفلسطينيين، أستطيع أن أفهم لماذا يكره العالم الأمريكيين». ومن أبرز من استقال من الخارجية الأمريكية جوش بول، الذي عمل في مكتب الشؤون السياسية العسكرية بالخارجية الأمريكية، ومستشارًا لمنسق الأمن الأمريكي في الضفة الغربية، الذي عزا أسباب استقالته في مقال نشرته «نيويورك تايمز» وترجمه لجريدة «عُمان» أحمد شافعي، بأنه لا يستطع دعم إمداد أمريكا بالسلاح في صراع غزة، «وأنا على علم بأنّ هذا السلاح سوف يُستعمل في قتل آلاف المدنيين الفلسطينيين». يقول جوش بول: إنّ الولايات المتحدة تمدّ حاليًا إسرائيل بما لا يقل عن 3.8 مليار دولار من المساعدات العسكرية السنوية، وهي المساعدة الأضخم لأيّ بلد سنويًا.

عندما نتساءل عن الخلل في الدعم الأمريكي اللامحدود واللامشروط للكيان الصهيوني، فإننا نعلم أنّ السبب الرئيس في ذلك يعود إلى ضعف الأنظمة العربية، التي تحسب السراب شرابًا، وتعيش على أمل بقائها في السلطة، وكذلك سيطرة اللوبي الصهيوني على القرار الأمريكي. ولكن الخطورة تكمن في أنّ الشعوب العربية «المستغفَلة» عندما تصحو من سباتها، لن تردّ على برقيات التهنئة الأمريكية بردود ليّنة فقط، بل ستتجه إلى الأفعال، ما دامت الولايات المتحدة تتعامى عن عواقب سياساتها المعادية للشعوب العربية، وتستمر في دعمها للكيان الصهيوني في انتهاك حقوق الفلسطينيين، كما فعلت من قبل عندما قتلت مباشرة أكثر من مليون شخص في العراق وأفغانستان؛ فكلّ تلك الأرواح لن تذهب سدىً وإن طال الزمن، ودوام الحال من المحال.

إنّ ما عبّر عنه العمانيون هو شعور عربي عام، ولا يقتصر على أمريكا فقط، بل يشمل السياسات الغربية كلها. وما فعلته السفارة الألمانية في مسقط من إلغاء خاصية التعليق على تهنئتها، جنّبها التعليقات الرافضة للتهنئة مثلما حصل مع التهنئة الأمريكية؛ وتزامن إغلاق التعليقات مع طلب نانسي فيزر وزيرة الداخلية الألمانية من المسلمين المقيمين في ألمانيا إدانة حركة حماس ووصفها بالإرهابية، في خطوة اعتبرها المسلمون الألمان أنها انخراط برلين في دعمٍ أصبح لا أخلاقيًا لإسرائيل.