Menu

المقاومة كفعل لا أيديولوجي: غزة وقادة "قساميون" مثلاً

أنيس محسن

خاص - بوابة الهدف

 

 

كتب أنيس محسن*

 

لطالما تجادل مثقفون، أو مدعو ثقافة، في مفهومي المقاومة والأيديولوجيا، فتكون المقاومة صنواً للقوميين الوطنيين، أو لليسار،  مع إبعاد الإسلاميين عن وسمهم بالمقاومين، ليُلصق بهم وسم الإسلام السياسي الذي يمتطي المقاومة بلا وطنية، وبهدف السيطرة السياسية وتغيير الواقع والوقائع.

لا تهدف هذه المقالة الدفاع عن الإسلام السياسي، فكاتبها لا علاقة له بهذا التيار، لا ممارسة ولا أيديولوجيا، إنما تسعى للدفاع عن المقاومة كمفهوم وممارسة، وعن المقاومين بغض النظر عن انتمائهم، وتعرض في السياق، بعض القيادات القسّامية التي تُصر على الانتماء الوطني قولاً وفعلاً، والذين اختيراهم كمثل في هذه المقالة، إنما عائد إلى أن فعل المقاومة حاضراً تتبوؤه غزة كجغرافيا، و"حماس" كفعل مقاوم، علماً بأن قادة يساريون، مثل جورج حبش ، ووطنيون قوميون من أمثال القادة الشهداء أبو عمار وأبو جهاد وأبو إياد، وذلك على سبيل المثال وليس الحصر، لم يحصروا المقاومة بأيديولوجيا بعينها، إنما نظروا إليها كفعل ثوري ملك الجمهور كله.

نقطة البدء هي من غزة، المثل المُعاش عن المقاومة، وكامتداد لمقاومة الفلسطينيين للمشروع الصهيوني منذ مطلع عشرينيات القرن الماضي، والتي استندت تارة إلى التمثيل العائلي، وطوراً إلى البعد الديني، وأطواراً إلى البُعد الوطني بجميع ألوانه، ماركسية/ شيوعية ودينية وقومية وطنية.

تكتسي غزة منذ 2007 لون الإسلام بعدما تمكنت حركة المقاومة الإسلامية "حماس" من السيطرة ميدانياً على القطاع، في إثر خلافات فلسطينية – فلسطينية، أساسها رفض خارجي لنتائج الانتخابات التشريعية في سنة 2006، والتي مكّنت الحركة الإسلامية من تبوء الصدارة في المشهد الفلسطيني. وهنا لا أود مناقشة من أخطأ من طرفي النزاع في حينه، وما هي نسبة تحمله مسؤولية الانقسام الذي لا تزال الساحة الفلسطينية تعانيه، إنما لبرهنة أن غزة، مثل كل جغرافيات فلسطين، انتمت ماضياً، وتنتمي حاضراً، وسوف تنتمي مستقبلاً، إلى فعل المقاومة وصاحب هذا الفعل، إلى أن يتحرر الوطن، ويُمكن في حينه الجدل في شكل الحكم الذي يجب أن يكون جامعاً لكل ألوان الطيف السياسي والعقائدي، من دون تغليب لون أو طيف على آخر، ويكون الاحتكام أولاً وأخيراً لصندوق الاقتراع كتعبير ديمقراطي جماهيري.

إن تاريخ غزة، المقاومة، يُثبت هذا الادعاء، فغزة ذات اللون الإسلامي حالياً، كانت منطلق تأسيس حركة "فتح" التي لطالما مثّلت تياراً وطنياً جامعاً على مدى عقود، وخصوصاً عندما تبنّت الكفاح المُسلح كوسيلة نضالية ثورية، وكانت غزة بمعظمها مؤيدة لها. وفي مطلع سبعينيات القرن الماضي، مرت غزة بتجربة التف حولها الغزّيون، وأرّقت العدو الإسرائيلي، وهي تجربة العمل العصابي الثوري المسلح الذي مثلته الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ، الماركسية التوجه، بقيادة محمود الأسود (غيفارا غزة)، والتي دفعت المُجرم الصهيوني أرييل شارون إلى القول إن غزة في النهار لجيشه، وليلاً للفدائيين.

وعلى امتداد التاريخ الفلسطيني كانت المقاومة هي الجاذب الشعبي، ليس حباً بالعنف، إنما توسلاً له بالخلاص من القمع ومحاولات الاستعمار، بألوانه الأنغلوسكسونية أو الصهيونية، ومساعيه لتغيير منطق التاريخ والجغرافيا فوق تلك الأرض التي "كانت تُسمّى فلسطين/ وصارت تسمّى فلسطين"، مثلما قال شاعر فلسطين الراحل محمود درويش. والمثل الأبرز على ذلك القائد الشهيد الشيخ عز الدين القسام (محمد عز الدين بن عبد القادر القسام)، السوري الجنسية من مدينة جبلة من أعمال اللاذقية، والذي أُبعد عن بلده لمقاومته الاستعمار الفرنسي، وهاجر إلى فلسطين حيث باشر منذ توليه إمامة جامع الاستقلال في حيفا، تحذيره من الهجرة اليهودية، ثم دعوته العلنية لمقاومة الاستعمار البريطاني الذي أصدر إعلان بلفور لتأسيس وطن لليهود فوق أرض فلسطين، وعمل على تكريس هذا الإعلان/ الوعد عملياً.

لقد استقطب القسام حوله فلسطين كلها، وقاد ثورة بدأت بالدعوة إلى التسلح اعتباراً من سنة 1928 عندما اعتدى الصهاينة على حائط البُراق، وتأسيسه عُصبة لمقاومة الاستيطان والاستعمار اعتباراً من ثورة البُراق في سنة 1929، وخروجه ومؤيديه إلى الجهاد علناً في سنة 1935، حتى استشهاده في 25 تشرين الثاني/ نوفمبر 1935 قرب يعبد بعد معركة طاحنة مع الجيش البريطاني.

على اسم الشيخ المُجاهد، أخذ الجناح العسكري لحركة "حماس" اسمه، وقاده ثُلة من القادة ذات التوجه الإسلامي والانتماء الوطني الفلسطيني، وهنا تلوي هذه المقالة على أمثلة بارزة، لتُثبت ما توجهت إليه في العنوان، وفي المتن:

كان كاتب المقالة في السنوات الأولى لامتهانه الصحافة عملياً، بعدما تدرج بها أكاديمياً ونيله شهادة في الصحافة، حين أبعدت إسرائيل عشرات المناضلين من غزة والضفة الغربية، من ذوي التوجه الإسلامي، عبر الشريط الحدودي اللبناني المحتل، إلى منطقة مرج الزهور في البقاع الغربي، فتوجه بتكليف من مجلة "الهدف" لإجراء تحقيق ميداني عن المُبعدين، وكان له شرف لقاء القائد الشهيد عبد العزيز الرنتيسي. ومن دون تفصيل ما قاله الرنتيسي خلال اللقاء، لا بد من التوقف عند موقفين بارزين له:

تأكيده في إجابة على سؤال "أن الأزمات حقاً، توحد الشعب الفلسطيني، ولكننا لا نستطيع أن نقول إن الشعب الفلسطيني لم يكن موحداً كلية، فهناك أهداف مشتركة جمعت جميع الأحزاب والحركات والتوجهات الفلسطينية على اختلاف مشاربها."

وطلبه، وهو القيادي في "حركة المقاومة الإسلامية"، من مراسل "الهدف"، تسجيل رسالة صوتية إلى الأمين العام للجبهة الشعبية (الماركسية) جورج حبش، الذي وصفه بـ "قائدي"، ووفق ما فُرّغ كلامياً في عدد مجلة الهدف 1132 الصادر في 17 كانون الثاني/ يناير 1993، قال الرنتيسي، ما نصه: "أرسل بتحياتي إلى الدكتور المناضل الرفيق جورج حبش، وأقول له بأن فلسطين ستبقى أبداً، أبد الدهر، للشعب الفلسطيني، وبالتالي نطالبكم برفع الصوت عالياً مع جميع الأحرار والمناضلين الشرفاء من أبناء شعبنا الفلسطيني حتى تحبطوا وتفشلوا كل المخططات التي تُحاك من حولنا للإجهاز على قضيتنا وضياع هويتنا، وبقائنا في الشتات... تحياتي لكم وأتمنى من الله أن أتمكن من الالتقاء بكم."

الرسالة الصوتية وصلت إلى الدكتور حبش الذي، وفق ما علمت، وأن حبش سجّل بدوره رسالة صوتية إلى الدكتور الرنتيسي، لم تكن أقل عاطفة من مشاعر طبيب مناضل إلى طبيب مناضل.

ومن منّا لا يتذكر الصورة الأيقونة لقائد الثورة الشهيد ياسر عرفات (أبو عمّار) عندما عاد القائد الشهيد ومؤسس "حماس" الشيخ أحمد ياسين في المستشفى في الأردن بعد إطلاق سراحه من الاعتقال في إسرائيل، مقبلاً رأسه؟

صورة أخرى من تلاقي الفعل المقاوم، كسراً لكل انقسام، رد فعل القائد القسامي الشهيد صالح العاروري الذي اغتالته إسرائيل أخيراً في بيروت، خلال اجتماع فصائلي، عندما وضع قيادي يساري في متن البيان تعبير "الفصائل الوطنية والإسلامية"، فأصر العاروري على حذف كلمة الإسلامية، وعند الاستفسار منه، كان الجواب، إن المقاومة الإسلامية هي وطنية، والوطنية ليست حكراً على اليسار والقومية.

ويُنقل كذلك أن الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الأسير في معتقلات الاحتلال، المناضل أحمد سعدات، أوصى قيادة الجبهة بالتعاون النشط مع قائد "حماس" في غزة المناضل القسامي يحيى السنوار، لأن الأخير مناضل، ومقاوم، نقي وصادق.

والأمثلة تكاد لا تُحصى، ويجب ألّا تعكر صفوها "هفوات" و"تخرصات" من مسؤولين في التيار الإسلامي، أو من التيار العلماني، أو اليساري، عندما تكون ساذجة وفصائلية ضيّقة، مثل تلك التي اعتبرت أن معركة "طوفان الأقصى" سوف تُحقق دولة إسلامية في فلسطين وعاصمتها القدس الشريف، أو ذلك المسؤول في السلطة الفلسطينية الذي لم يتوانى، وفي خضم ما يجري في غزة، باعتبار "حماس" حركة إرهابية... فهؤلاء و من يدعون الثقافة أيضاً، ممن يوزعون اتهاماتهم يمنة ويساراً، بذريعة ضرورة "تبيان الحقائق"، مع كل تأكيد على ضرورة إجراء مراجعة علمية لكل تجربة العمل الثوري المقاوم الفلسطيني، هؤلاء ضيقوا أفق، لا يفقهون معنى المقاومة.

*كاتب صحفي فلسطيني