Menu

أو ستنتصرين يا فلسطين

محمد صالح التومي ـ المعروفي

 

 

كتب محمد صالح التومي ـ المعروفي*

 

 

تحياتي أولاً إلى "ألبا قرينادا" بالمغرب الكبير التي نظمت هذه المناسبة للقائنا،

وثانياً إلى كل الحضور الكريم من ممثلي الدول المناهضة للإمبريايلية ومن المناضلين المناصرين لأعدل قضايا عصرنا: قضية فلسطين،

نجتمع في لحظة العدوان الآثم على أهلنا في غزة / فلسطين وقد ارتقى عشرات الآلاف منهم و أغلبهم من الأطفال شهداء، فألف رحمة وسلام إلى أرواحهم الطاهرة.

ولا بد لنا بعد ذلك  من أن نحاول فهم ما يقع‘ فقد قدر لنا ككائنات بشرية أن نعيش لحظة فريدة يجب اعتبارها بمثابة الانعطافة التاريخية منذ نهاية الحرب الرأسمالية المسماة عالمية الثانية.

فبعد هذه الحرب انتصر التحالف الرأسمالي الأنجلوـ سكسوني / الفرنسي بالتوازي مع الاتحاد السوفياتي الاشتراكي على المحورالرأسمالي الجرماني الإيطالي الياباني، فنشأ العالم ذو القطبين: قطب ليبرالي تحت مسمى العالم الحر وقطب اجتماعي  تحت مسمى المعسكر الاشتراكي، وهذا الأخير دام ما يناهز السبعين عاماً إلى حين سقوطه المدوي واستئناف الرأسمالية لمسيرتها نحو العولمة بقيادة الولايات المتحدة الأميركية ولوبياتها الاقتصادية والسياسية المختلفة التي برز من ضمنها اللوبي الصهيوني المعروف باسم " آيباك".                 

من الواجب أن نذكر هنا أن من ضمن أهم  ما تمخضت عنه الحرب الرأسمالية الثانية  هو انبعاث كيان جديد بمنطقة الوطن العربي هو الكيان الصهيوني بمساندة من جميع المنتصرين في تلك الحرب ومن ضمن المساندين ومع الأسف الاتحاد السوفييتي، وذلك لأسباب قد يطول شرحها في مثل هذا المجال.

كان ذلك  في الظاهر باسم التعويض ليهود أوروبا على ماوقع لهم من اضطهاد على يد النازيين في ألمانيا ولكن  كان ذلك في الواقع ويا للغرابة على حساب الشعب الفلسطيني الذي سُرقت أرضه بالمعنى الحرفي للكلمة بواسطة المجازر والتهجيرمن طرف عصابات الإرغون والهاجاناه وما شابهها وبمساندة القوى الاستعمارية ضده وخيانة أبناء قوميته من الحكام الرجعيين له، فكان ذلك منطلقاً للصراع الضاري منذ البدايات والذي أوصلنا اليوم إلى " طوفان الأقصى " حيث  يواجه شعب فلسطين في غزة أساساً وفي الضفة الغربية كذلك عدواناً إبادياً بأتم معنى الكلمة على مرأى ومسمع من الإنسانية قاطبة.

فلنحاول تحديد ملامح مايقع أمام أعيننا.

ولنفهم عند البداية من هي الجهة المعتدية ؟

إنها بكلمة مكثفة: الإمبريالية المتصهينة.

وإذ تمر علينا اليوم ذكرى اغتيال القائد الاشتراكي الكبير فلاديمير إيليتش لينين الذي تفطن في المنتصف الأول للقرن العشرين وتحديداً في سنة 1916 إلى أن الإمبريالية هي المرحلة العليا للرأسمالية، وإذ كانت هذه المقولة صحيحة تماماً فإنه فقط أصبح مستوجباً أن نضيف إليها بعد مئة سنة ونيف ونحن في سنة 2023 أن الصهيونية هي الدرجة القصوى للتطور الإمبريالي والرأسمالي.

لماذا؟

ببساطة لأن الصهيونية ـ ونحن هنا نفرق بين الصهيونية كفكر سياسي عنصري وبين اليهودية كمعتقد ديني، ويهود ناطورا كارطا المعادين للصهيونية مثالنا على ذلك ـ قد تداخلت ( أي هذه الصهيونية ) تداخلاً واضحاً  بواسطة عائلاتها الثرية من أمثال روتشيلد،وواربوغ، وسوروس، وأورانج، وغيرها طبعاً، في تلافيف ونسيج النظام الرأسمالي والمصرفي والمالي وأصبحت أوليغارشيا (طغمة) مالية عالمية لها اليد الطولى في تحريك القرارات الاقتصادية والسياسية وحتى العسكرية للدول الرأسمالية الغربية حتى إن أصحاب القرار في هذه الدول أصبحوا مثل الدمى المتحركة بين أيدي هذه العائلات كما نشاهد هذا مع  رؤساء جمهوريات وحكومات هذه الدول الغربية ـ ولا فائدة في ذكر كل الأسماء التي من أمثال ماكرون وبايدن فهي معروفة ـ  ذلك أن العائلات المذكورة اكتشفت بواسطة صهاريج أموالها فكرة الشركات متعددة الجنسيات والعابرة للقوميات فأصبح المال  الذي تملكه مصارفها هو القوة العظمى الوحيدة في هذا الكون الذي فيه نعيش.

وأصلاً لقد كان بعث كيان صهيوني في أراضي الوطن العربي فكرة خرافية ودينية قديمة ولكنها تبلورت وتأكدت  بعد نطور النظام الرأسمالي وخاصة بعد مؤتمر بازل الصهيوني الذي انعقد سنة 1897 ذلك المؤتمر الذي ترأسه تيودور هرتزل، وهو الشخص الذي سرعان ما التقى سنة 1902 بتشمبرلن رئيس وزراء بريطانيا ،وقال له:

"إن قاعدتنا يجب أن تكون في فلسطين والتي يمكن أن تكون دولة حاجزة".

فهذه الدولة أريد لها كما نرى أن تكون حاجزة بين مشرق الوطن العربي ومغربه، وقد أقرها المؤتمر الاستعماري الذي انعقد سنة 1907، فكان ذلك وراء اتفاقية سايكس بيكو سنة 1916، كما وراء صدور وعد بلفور في 2 نوفمبر 1917 في رسالة بعثها هذا الوزير إلى أحد أفراد عائلة روتشيلد (فلنتساءل لماذا ياترى؟) وصولاً إلى تدفق الصهاينة على أرض فلسطين حالمين بإقامة دولة من الفرات إلى النيل فوق الأراضي العربية التي شاء التاريخ أن تكون واقعة فوقها أهم الممرات التجارية مثل باب المندب وقناة السويس وجبل طارق، وأن تكون زاخرة بالخصب الزراعي، وبمصادر الطاقة من نفط وغاز، وبالمعادن النادرة والثمينة مثل الأورانيوم والنيكال والكوباتت، فهكذا تكونت علاقة جدلية بين المركز الصهيوني بمختلف تفرعاته  وبين بيدقه المتقدم الذي وقع غرسه غرساً في أرض يسكنها شعب له تاريخه وثقافته وكيانه هو الشعب الفلسطيني.

هنا يجب أن نفهم أن هذا العدو هو استعمار من منوع خاص.

فهو أولا استعمار استعلائي ينطلق من فكرة ثابتة وخاطئة مفادها أن اليهود  هم شعب الله المختار‘ فهكذا يمكن أن يقرأ الإنسان باندهاش تام بالتلمود ،  ما يلي :   " اليهود بشر لهم إنسانيتهم أما الشعوب الأخرى فهي عبارة عن حيوانات"،

وهو ثانيا : استعمار إحلالي لا يهدف إلى الاحتلال فقط بل إلى الحلول محل من سيسرق أراضيهم ما يقتضي منه إبادتهم بدون رحمة فهذا ما رأيناه في عشرات المجازر التي ما انفك يرتكبها ،

وهو ثالثا : استعمار توسعي  هدفه السيطرة على جملة من الأراضي العربية من مصر إلى العراق ما يقتضي منه حسب عبارة دافيد بن غوريون خلق "محيط نظيف" حول فلسطين المحتلة ، وذلك أساسا ـ والكلام له ـ بتحطيم ثلاثة دول هي مصر، وسوريا، والعراق ، تحديدا ،بصفتها العواصم الكبرى لكل مشاريع نهوض القومية العربية والشعوب المتآلفة معها،

أما بقية الأقطار العربية فهو يريد التّسيّد والسيطرةعليها في مرحلة أولى بواسطة التطبيع ولكنه التطبيع الذي قال عنه ميناحيم بيغين أحد رؤساء حكومة الكيان ما يلي :

" لو أقامت اسرائيل علاقات ديبلوماسية مع دولة عربية أو أكثر فإن هذا لا يمكن أن ينهي النضال الإسرائيلي لأن الهدف النهائي هو إنهاء حضارة العرب والمسلمين وإقامة حضارة اليهود " ... ما يعني تحويل ساكنة الأراضي العربية إلى خدم وعبيد بدون مشروع وإبادة من لا يرضخ منهم.

فيا لمذلة المطبعين ، وخسّتهم، وخسرانهم !

نحن إذن أمام مشروع خطير ومتواصل في الزمان،

بل أمام مخطط جهنمي ،

لذلك كان الاشتباك من عزالدين القسام إلى الفصائل الفلسطينية الثورية التي عملت من خارج فلسطين ، إلى انتفاضات الحجارة إلى " طوفان الأقصى " هو الروح التي سكنت مهج شعبنا الفلسطيني مسنودا في ذلك بجدماهير الوطن العربي التي اعتبرت قضية فلسطين قضيتها المركزية ،

فهذه الروح هي التي واجهها الصهاينة بالحروب الظالمة التي يعرفها الجميع وبالاعتداء على الدول العربية مثل مصر منذ 1956، و سوريا منذ 1967 إلى اليوم ، ولبنان 1982 والعراق 1981 وتونس 1985 ، مع تشديد العداوة على غزة الباسلة حيث تعيش تحت الحصار الخانق منذ ثلاثين عاما تقريبا فلا كهرباء ولا ماء بكميات كافية ،ولا ظروف تعليم لائقة لناشئتها، ولا إمكانية لأهلها للتنقل أو للسفر بدون حواجز الاحتلال وقراراته الاعتباطية مع إطلاق النار عشوائيا عليهم فوق ذلك حتى إن المزارع الفلسطيني أو صائد السمك أصبح يودع أهله كل صباح وهو ذاهب إلى عمله لأنه لا يعرف هل يعود إليهم حيا وسليما ، أو جثة هامدة أو معاقا، فغزة كانت بمثابة سجن مفتوح مساحته 365 كلمترا مربعا ـ أي أقل من جزيرة جربة التونسية مثلا ـ ولكنه يعيش فيها باكتظاظ أكثر من مليونين من أهلنا تحت الحصار والتنكيل ،

فهذا ما كانأحد الأسباب في طوفان الأقصى،           فهذا الطوفان يندرج إذن في نطاق حق المقاومة المشروعة لكل شعب مظلوم ، فمن البديهي أنه لا يمكن أن يكون إرهايا كما تدعي الأكاذيب التضليلية للامبريالية المتصهينة،

فالفلسطيني لم يفعل يوم 7 أكنوبرـ تشرين الأول 2023 غيرالدفاع عن نفسه ضد محاولة اغتياله البطيء وضد تدنيس مقدساته.

وهنا يجب علينا الوقوف بعجالة عند مميزات طوفان الأقصى :

فهوعمل مقاوم يقوم به الفلسطينيون أنفسهم من داخل اراضيهم وفوقها ،

وهو لأول مرة يتم في نطاق الهجوم والفعل المخطط له بعقلانية لا في نطاق رد الفعل الذي يمكن أن يكون حماسيا فقط بدون تقدير لكافة ما يمكن أن ينتج عنه ،

وهو لأول مرة كذلك يتم بالتعاون الصريح مع محور كامل للمقاومة العربية المسنودة بصورة صريحة أو ضمنية من طرف ضحايا الامبريالية العولمية المتصهينة،

وعندما نقول مقاومة عربية فنحن نعني بها بوضوح  لبنان حيث حزب الله والعراق الذي يقاوم الاحتلال الأمريكي البغيض وسوريا التي تقاوم محاولات تفتيتها منذ انطلاق ما سمي خداعا ب" الربيع العربي " ، و اليمن الذي أخضع لعدوان وكلاء الامبريالية المتصهينة من العائلات الحاكمة لنجد والحجاز المسماة سعودية وللإمارات المسماة عربية منذ 2015 ، والذي يواجه اليوم عدوان " الأصيل الأنقلو سكسوني " وليس الوكيل المنسوب للعروبة ؛

وعندما نقول التعاون الصريح فنحن نشير إلى إيران التي يعترف يحيى السنوار بأنه لولا مساعدتها بالمال وبالسلاح ، وفي تخط كامل للصراع المفتعل بين الشيعة والسنة،  لما أمكن للمقاومة أن تطور قدراتها الذاتية،

وعندما نقول التعاون النسبي أو الضمني فنحن نشير به إلى مساندة  الأمم الرووسية والصينية وقومية الزولو المستوطنة بجنوب إفريقيا، والجزء الشمالي من الأمة الكورية المجزّأة ، والدول التقدمية بجنوب القارة الآندية المسماة باطلا بالقارة الأمريكية،

فما يجب أن نفهمه أن الامبريالية المتصهينة بعد المساهمة في إسقاط الاتحاد السوفييتي وتوجهها نحو إقامة عالم بقطب واحد بما يعنيه ذلك إقامة نواة لما يشبه الحكومة العالمية قد هدفت بوضوح إلى استعباد كل الأمم والشعوب ومسح أو مسخ المحتويات الإيجابية لثقافاتها، وتعويضها بمحتويات تافهة وبذيئة في نطاق السيطرة على روحها وإذلالها، كي تسهل لنفسها التصرف في خيرات أراضيها على هواها، ثم تسخيرالسكان كالعبيد لإرادتها ، فلذلك شهدنا تحصن الأمم القديمة حول مميزاتها الثقافية ومعتقداتها  ثم تحالفها دفاعا عن كياناتها، فمن هنا نشأة البريكس مثلا،

ولكن ما يجب أن نفهمه هنا وبوضوح هو أن العلاقات بين الأمم تخضع لضرورات اللحظة الزمنية ولتقدير ما تسمح به موازين القوى بين أطراف الصراع ، كما تخضع للمصلحة القومية لهذا الطرف أوالآخر التي قد لا تتميز بالانسجام التام ،فلكل أمة معطياتها ،

وهكذا فالمعول عليه أولا وقبل كل شيء هو القوى الذاتية لكل أمة، ثم يأتي بعد ذلك التعويل على الأصدقاء بدرجات صداقتهم لأنه سيكون هناك الصديق ونصف الصديق إلى غير ذلك من الدرجات، كما يأتي التعامل مع الأعداء بدرجات عدائهم ، فيقتضي ذلك مواجهة مقاومة الأشد عداوة ، ومحاولة التحييد للأقل عداوة...

ونظن أن طوفان الأقصى الذي وقع الإعداد له بصمت وبروية قد راعى لأول مرة بعض الموجبات العقلانية للمقاومة الناجعة،

فهو قد أظهر بجلاء أن  المظلمة المسلطة على فلسطين وشعبها، وهي التي تتم في مكان من الأرض تكثفت فيه كل مظالم العصر الرأسمالي الحديث ، فمن هنا كان الانفجار ، هي مظلمة لا يمكن السكوت عنها وإلا فإنه الخنوع والقبول بالموت البطيء لشعب بأكمله يصر الصهاينة على أنه غير موجود ، قولا من طرفهم بأن فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، فلا بد من إظهار أنه موجود أمام الضمير الإنساني بأكمله ،

فهذا ما نجح فيه " طوفان الأقصى" :

ـ الذي نجح في أن يجعل الصهيوني يأتيه الوجع والألم ممن ينكر وجودهم ، فمن هنا رغبته الإجرامية في الإبادة والتهجير ،

ـ والذي أظهر مدى همجية " محور الشر" الامبريالي المتصهين ،وأسقط سردية الضحية التي ماانفكت تتستر بها الصهيونية لارتكاب جرائمها، وكشف زيف قناع حقوق الإنسان  الذي تضعه الرأسمالية لتغطي به وجهها القبيح ،

فلهذا جر طوفان الأقصى طوفان الملايين في كل العواصم مطالبين لأول مرة بتحرير فلسطين من نهرها إلى بحرها،فهذا ما يسقط  ما يسمى حل الدولتين ، وما ينهي معرة التنسيق الأمني ، ومعرة " أوسلو " ،

ولهذا أيضا وقف العدو الصهيوني أمام محكمة العدل الدولي لأول مرة لمحاسبته أمام الضمير الإنساني عن جريمة الإبادة الجماعية التي كان يمارسها في الخفاء فأصبح بواسطة " السوسيال ميديا" وإتقان المقاومة لفنون الدعاية يمارسها على مرأى ومسمع من العالم أجمع ، ولصورة مفضوحة .

ورغم أن مجرمي الحرب من " الحريديم " ومن المتطرفين  النازيين الذين يربون أبناءهم على وقع شعار : الموت للعرب ، وعلى كراهية المسلمين والبصق على وجوه المسيحيين قد قال بنيامين ناتنياهو الذي يمثلهم : إنه لا محكمة لا هاي ولا غيرها يمكن أن توقفه عن ارتكاب جرائمه ضد الإنسانية  ،

فنحن نقول عند النهاية كما قال شاعر فلسطين : محمود درويش : يا فلسطين يا اسم الأرض ويا اسم السماء ستنتصرين ،

أو محاكاة له :

يا أيتها الصهيونية ، يا رمز العنف والطغيان، ويارمز الخداع والبهتان ، إنك عاجلا أو آجلا حتما ستنكسرين، وستنهزمين.

 

*كاتب من تونس

 

 * ألقيت  كمداخلة في التظاهرة الأممية التي دعت إليها منظمة ألبا ڨرينادا بالمغرب الكبير وانتطمت بقاعة المونيال وسط العاصمة التونسية يوم 27 جانفي /كانون الثاني 2024، وشارك فيها متداخلون من الشيلي والبرازيل والضفة الغربية بفلسطين وتونس.