Menu

عام على طوفان الأقصى

حرب الاستنزاف على غزة والامتداد الإقليمي

بيسان عدوان

قطاع غزة والتدمير الكلي

فلسطين المحتلة

"الحرب لا تُخاض لتحقيق أهداف، بل لتحقيق مواقف تفاوضية أكثر قوة"  كارل فون كلاوزفيتز.

من هذا المنطلق، يمكن فهم ما يحدث اليوم في غزة وفي المنطقة الأوسع على أنه معركة استنزاف تهدف فيها الأطراف المتصارعة إلى تعزيز مواقعها، سواء في الميدان العسكري أو في الساحة الدبلوماسية. ومع اقترابنا من مرور عام على طوفان الأقصى، تتجلى بوضوح معالم حرب طويلة الأمد، حيث تتحول المعارك اليومية إلى رموز لصراع أوسع على المستوى الإقليمي والدولي.

مع اقتراب مرور عام على طوفان الأقصى، يدخل العدوان الإسرائيلي ضد غزة والمقاومة الفلسطينية مرحلة جديدة من حرب الاستنزاف.

بعد فشل دولة الاحتلال في تحقيق أهدافها الاستراتيجية في غزة، ودخول أطراف إقليمية جديدة إلى الصراع مثل حزب الله في لبنان، أصبحت الحرب تتخذ أبعاداً أكثر تعقيداً. سنحاول في هذا المقال أن نرصد مآلات الأوضاع واستشراف ماذا ينتظرنا من حرب استنزاف طويلة الأمد خاصة مع تطور "إسرائيل" حربها باتجاه الإقليم وجر المنطقة إلى مستقبل غامض.

 المقاومةالفلسطينية:تطوير مستمر رغم الحصار

على الرغم من الحصار المفروض على قطاع غزة منذ أكثر من 15 عامًا، أثبتت المقاومة الفلسطينية قدرة فائقة على تطوير قدراتها العسكرية والتكيف مع الظروف الصعبة.

فمنذ بداية حرب الإبادة التي تشنها دولة الاحتلال على الشعب الفلسطيني الأخيرة، أظهرت المقاومة قدرة على إطلاق الصواريخ بشكل متواصل واستهداف التجمعات " المدن" والمستوطنات الإسرائيلية في العمق، مما أحرج المؤسسة العسكرية الإسرائيلية وكشف عن ثغرات في دفاعاتها الجوية. إضافة إلى ذلك، تمكنت المقاومة من تطوير أسلحة محلية الصنع مثل الطائرات المسيرة، مما وفر لها وسيلة غير مكلفة لكنها فعالة لضرب أهداف إسرائيلية محددة.

الابتكار العسكري الأبرز كان في استخدام شبكة الأنفاق التي تسمح للمقاومة بالحفاظ على قدراتها الهجومية والدفاعية، بل وتنفيذ هجمات خلف خطوط العدو. هذه الأنفاق، التي لم تتمكن "إسرائيل" من تدميرها بالكامل رغم عملياتها المتكررة، تعتبر سلاحًا استراتيجيًا حاسمًا في الحرب الجارية. إذ توفر للمقاومة قدرة على التحرك والاشتباك دون أن تكون عرضة للاستهداف المباشر.

الحاضنةالشعبية: المقاومة تتجذر في النسيج الاجتماعي

أحد أهم عوامل استمرار المقاومة الفلسطينية هو الحاضنة الشعبية التي تحتضنها وتدعمها. فعلى الرغم من الخسائر البشرية والمادية الكبيرة التي تكبدتها غزة خلال هذه الحرب، بقيت الروح المعنوية مرتفعة بين صفوف الشعب الفلسطيني. المقاومة، في نظر الفلسطينيين، ليست مجرد قوة عسكرية، بل هي رمز للكرامة والصمود ضد الاحتلال. هذه الحاضنة الشعبية تجعل من الصعب على إسرائيل كسر عزيمة المقاومة أو تحقيق أهدافها السياسية والعسكرية.

الحاضنة الشعبية تخلق شبكة دعم لوجستية ومعنوية تسمح للمقاومة بالحركة والتنقل، وتزودها بالموارد اللازمة للبقاء في المعركة. كما أن الانتماء القوي للمقاومة بين صفوف الشعب الفلسطيني يحول دون أي محاولات إسرائيلية لتأليب السكان ضد المقاومة أو فصلهم عنها، رغم كل الضغوط الاقتصادية والعسكرية.

 الأداء الإسرائيلي وحرب الإبادة: إخفاقات متكررة

منذ بداية العدوان الأخير، وضعت "إسرائيل" مجموعة من الأهداف العسكرية الواضحة: تدمير قدرات المقاومة في غزة، استعادة الأسرى الإسرائيليين، وتحييد البنية التحتية العسكرية. ورغم الاعتماد على القصف المكثف والدقيق، واستهداف المدنيين والمؤسسات المدنية بحجة تدمير "مراكز قيادة المقاومة"، لم تتمكن إسرائيل من تحقيق هذه الأهداف. بل، على العكس، تحولت الحرب إلى حرب استنزاف طويلة الأمد، حيث تواصل المقاومة إطلاق الصواريخ وشن هجمات نوعية.

دولة الاحتلال التي تعتمد على قوتها الجوية والتفوق التكنولوجي، تجد نفسها عاجزة أمام تكرار الهجمات الصاروخية، فضلاً عن عمليات الأنفاق التي تبقي الجيش الإسرائيلي في حالة استنفار دائم. وقد أظهرت الأيام الماضية أن "إسرائيل"، رغم تفوقها العسكري الواضح، غير قادرة على إنهاء الصراع أو القضاء على المقاومة بشكل نهائي، وهو ما يفرض عليها تحديًا جديدًا يتجاوز الحسابات العسكرية البحتة.

الأبعاد الاقتصادية والسياسية: ضغط داخلي متزايد

إضافة إلى التحديات العسكرية، تواجه دولة الاحتلال ضغوطًا متزايدة على الصعيدين الاقتصادي والسياسي. تكاليف الحرب تتزايد بشكل مستمر، حيث تتعرض المدن والمستوطنات الإسرائيلية لقصف صاروخي متكرر، مما يعيق الحياة اليومية ويضعف الاقتصاد المحلي. في الوقت نفسه، تتزايد الانتقادات داخل الكيان حول كيفية إدارة الحكومة للأزمة، مع تزايد الأصوات التي تطالب بحلول سياسية بدلًا من استمرار الحرب المفتوحة.

الانتقادات الدولية "لإسرائيل" حول الانتهاكات الإنسانية في غزة تزيد من تعقيد الموقف. حيث تتعرض الحكومة الإسرائيلية لضغوط دبلوماسية متزايدة في المنظمات الدولية، مما قد يؤثر على دعمها الدولي ويضعف موقفها على المدى الطويل. هذا الوضع المعقد يجعل من الصعب على إسرائيل تحقيق أهدافها الاستراتيجية دون تقديم تنازلات، سواء كانت عسكرية أو سياسية.

الامتداد الإقليمي وتصاعد الصراع بداية جبهة لبنان 

مع تصاعد التوترات على الجبهة اللبنانية بعد حادثة بيجر واغتيال قيادات في المقاومة اللبنانية، بات من الواضح أن الصراع لم يعد مقتصرًا على غزة فقط. حزب الله، الذي يتمتع بدعم إيراني وسوري، أصبح عنصرًا مهمًا في معادلة الحرب الإقليمية ضد "إسرائيل". فقد انخرط في الصراع بشكل متزايد، من خلال استهداف مواقع إسرائيلية على الحدود الشمالية، مما يضع إسرائيل أمام حرب متعددة الجبهات.

التصعيد في لبنان يضيف طبقة جديدة من التعقيد إلى الصراع، حيث يخشى المراقبون من أن يؤدي هذا الوضع إلى فتح جبهة إقليمية جديدة تشمل أطرافًا أخرى. حيث تدرك "إسرائيل" أن توسيع الصراع ليشمل لبنان قد يؤدي إلى تدخلات من قبل إيران وسوريا، مما يزيد من احتمالية تحول النزاع إلى حرب إقليمية شاملة.

لم تكتف "إسرائيل " بسياسات "قطع الرؤوس" أى اغتيال القيادات في المقاومة الفلسطينية واللبنانية محاولة منها لإضعاف القيادة المركزية للمقاومة.  هذه الاستراتيجية أتت بنتائج عكسية، حيث فتحت الباب أمام مزيد من التصعيد كما يحدث الآن في لبنان، مما يزيد من احتمالية اشتعال حرب إقليمية أوسع.

تدرك دولة الاحتلال أن دخول إيران بشكل مباشر في الصراع قد يغير من معادلة القوى في المنطقة، ويدفع باتجاه مواجهة شاملة. ولهذا، تعتمد "إسرائيل" على تكتيكات محدودة، مثل الاغتيالات وضرب المنشآت العسكرية في سوريا، لتفادي مواجهة مباشرة مع إيران، لكن هذه الاستراتيجية تظل محفوفة بالمخاطر، لذا تحاول "إسرائيل" بضرباتها التصعيدسة ضد لبنان، أن تجبر القوى الكبرى لتفادي حرب إقليمية واسعة التفاوض مع إيران لاحتواء الموقف وعدم توسيع رقعة الحرب عبر تقويض الحلفاء وتحييدهم وابعادهم عن دعم غزة أو فك الارتباط بين جبهات الاسناد لدعم غزة. وبالتالي تصبح غزة فريسة للاحتلال الإسرائيلي.

السيناريوهات المستقبلية: حرب استنزاف طويلة الأمد

في ظل التوازنات الحالية، يبدو أن الصراع سيستمر على شكل حرب استنزاف طويلة الأمد. فالمقاومة الفلسطينية أثبتت قدرتها على الصمود واستنزاف الجيش الإسرائيلي عبر هجمات نوعية وضربات صاروخية متواصلة، مما يجعل من الصعب على دولة الاحتلال تحقيق نصر سريع أو حاسم. الحرب على غزة قد تتحول إلى نموذج مشابه لحروب العصابات التي تعتمد على استنزاف العدو تدريجيًا بدلًا من تحقيق انتصارات كبيرة كما يأملون 

يقول صن تزو " النصر في الحرب ليس غاية في حد ذاته، بل وسيلة لتحقيق أهداف سياسية" 

نجد أن أهداف إسرائيل والمقاومة الفلسطينية تتجاوز بكثير حدود قطاع غزة. إذ إن هذه الحرب ليست فقط على الأرض، بل هي أيضًا معركة حول سرديات القوة والضعف، وصراع من أجل إعادة تعريف توازن القوى في المنطقة. فدولة الاحتلال، على الرغم من قوتها العسكرية، تجد نفسها غارقة في حرب استنزاف غير محسومة، بينما تستمر المقاومة الفلسطينية في التكيف مع الظروف المتغيرة وتطوير قدراتها على الصمود والقتال.

حرب الاستنزاف على غزة لم تنتهِ بعد، بل تدخل مرحلة جديدة من التعقيد الإقليمي والاستنزاف المتبادل. ودولة الاحتلال تواجه تحديات كبيرة على عدة جبهات، في حين تواصل المقاومة الفلسطينية صمودها وتطوير قدراتها العسكرية. المستقبل يبدو مفتوحًا على عدة احتمالات، ما بين استمرار الحرب المفتوحة أو توسيع نطاقها إلى حرب إقليمية شاملة.

القوة العسكرية ليست في حجم الجيش، بل في قدرته على تحقيق الأهداف"نابليون بونابرت.

وبهذا المفهوم، يمكن النظر إلى صمود المقاومة الفلسطينية رغم الحصار على أنه إنجاز استراتيجي بحد ذاته، يعكس قدرة فصائل المقاومة على تحويل تكتيكاتها العسكرية إلى أداة لتغيير الواقع السياسي، ليس فقط في غزة، بل على مستوى المنطقة بأكمله.