Menu

حرية التعبير او خيانة؟

د. طنوس شلهوب

باحث واكاديمي

الهدف الإخبارية

تعمد النظام النازي الناشئ في ألمانيا في استعراض قوته العسكرية المتنامية ونجح في بث الهلع في قلوب الآخرين، وتوثب كالوحش الكاسر على بولونيا، وعندما هزم الجيش الفرنسي قرر الجنرال فيشي، بطل النصر في الحرب العالمية الأولى، توقيع وثيقة الاستسلام وتقديم فرنسا على طبق من فضة لهتلر. تبرير فيشي كان شديد الاقناع والتماسك: علينا الاختيار، نقاتل هتلر والثمن تدمير بلدنا، أو نحمي بلدنا ونخضع لهتلر. هذا الموقف شجع كُثر من الفرنسيين (ومنهم من كان بالأساس مؤيداً للنازية أو متعاطفاً معها) على التعاون مع النازيين من خلال الانضمام إلى فرق نازية محلية لملاحقة المقاومين وقتلهم وترويع المتعاطفين مع المقاومة.
وعندما اجتاحت جحافل الجيش الهتلري بلاد السوفيات، وقع عدد كبير من ضباط وجنود الجيش الأحمر في الاسر. وفي السنوات الاولى من الحرب عندما كان الجيش الهتلري يحقق التقدم، عمل النازيون على تجنيد الأسرى السوفيات لتشكيل جيش نازي هو بمثابة اليد المحلية للمحتلين، وترأس هذا الجيش الضابط فلاسوف، أحد الضباط السوفيات الأسرى الذي وافق على خدمة المحتل، ووصل عديد قوات فلاسوف إلى ستماية ألف رجل.
في كل تاريخ الحروب شهدت البشرية نماذج من نوع فيشي وفلاسوف، ولكن خلاصات الأحداث أظهرت أن هذه المظاهر في المجتمعات البشرية، دخلت فعلاً التاريخ بصفحاته السوداء كنماذج عن الخيانة والسقوط والمذلة.
وفي لبنان، ومنذ الاستقلال، ولأسباب متعددة، لم تتشكل هوية وطنية جامعة هي المعيار في تحديد موقع هذا البلد من الصراع الجاري مع المشروع الصهيوني. ولقد جربت نخب المارونية السياسية التحالف مع الكيان انطلاقاً من فكرة تحالف الأقليات وبذريعة التعاون مع الشيطان دفاعاً عن المصالح، واستخدم الصهاينة حلفاءهم من الكتائب لارتكاب إحدى أكبر المجازر في مخيمي صبرا وشاتيلا، تماماً، كما كان يعمل الهتلريون في استخدام الفرق النازية المحلية لارتكاب أبشع المجازر بحق السكان المحليين، وأوصلوا بشير الجميل إلى الرئاسة وتركوه في منتصف البئر. ومع ذلك، لم يتعلم حلفاء الصهاينة من الدرس، وقبلوا أن يكونوا أكياس رمل في الحزام الجنوبي، وتحت ضربات المقاومة، أدار الصهاينة لهم الظهر في العام ٢٠٠٠، وتركوهم لمصيرهم البشع.
في الصراعات، الصغرى والكبرى، لم تكن المجتمعات يوماً متوافقة حول الخيارات والقرارات المصيرية، والتي غالباً ما تتحدد بمصالح الطبقات والفئات المهيمنة.
عالمنا اليوم يشهد صراعات كبرى، ونتائج المواجهة التي تخوضها فصائل المقاومة ستحدد صورة المنطقة لسنوات كثيرة مستقبلاً.
إن قوى الهيمنة الإمبريالية (بما فيها الصهاينة والأنظمة الرجعية العربية)، تدرك تماماً أن مسار هذه المواجهة، سيحدد مستقبل المنطقة، لذلك، فإن ما أعلنه قادة الكيان الغاصب عن السقف الذي يعملون لتحقيقه والمتمثل باقتلاع المقاومة وتوسيع حدود الكيان، بما يتعدى الجنوب اللبناني، طبعا بعد (أو خلال) تهجير الفلسطينيين من غزة والضفة، هو هدف يسعون لانجازه، وأدوات هذه الخطة متعددة: عسكرية تقوم على التدمير الممنهج لكل مظاهر الحياة (جماعة حب الحياة عندنا بالعين السنتهم) من بشر ومؤسسات تعليمية وصحية وخدماتية، أي تكرار لسياسة الإبادة الهتلرية، ودبلوماسية تحظى بدعم مطلق من بلدان الناتو، وإعلامية، لما للتحالف الصهيوإمبريالي من نفوذ وتأثير في وسائل الإعلام، ومعنوية.
وبالعودة للتاريخ، فإنه في الصراعات والحروب الكبرى كان الجانب المعنوي يعتبر أساسياً في تهوين وإسقاط العدو من الداخل، عبر من يُطلق عليهم اسم الطابور الخامس في لغة الحروب الحديثة.
وبمتابعة لوسائل الإعلام المحلية والعربية، ووسائل التواصل الاجتماعي، فاننا نشهد حملة غير مسبوقة لتهوين المعنويات والإعلان عن رفع الأعلام البيضاء والتنافس للاستثمار في "هزيمة" مُفترضة للمقاومة، وينخرط في هذا الجنون أناس من مواقع سياسية "مختلفة"، منهم: الكتائب والقوات، محبو السلام والحياة من مجموعات عملاء الاستخبارات المركزية الاميركية، بمسمى (أن جي أوز)، مدعو السيادة، يساريون و"شيوعيون" على خطى إلياس عطالله، والخ.. وقسم من هؤلاء هو بالأساس مع خيار بشير وسعد حداد وانطوان لحد، وآخرون من جماعة فيشي، والباقون يتقاضون بدلات أتعاب شهرية.
هؤلاء كلهم يمتلكون الحقيقة، وغير مستعدين للنقاش، وينتفضون بقوة إذا اتهموا بالخيانة، ويصرخون عالياً إذا انتقدتهم بأنك من أصحاب اللغة الخشبية، وستاليني، ولا تؤمن بحرية التعبير، و.. والخ.
ولأنني أكثر الناس دفاعاً عن حرية التعبير، وفي المعارك المصيرية الكبرى، أقول لك أن موقفك يحدد الخندق الذي تنتمي إليه، وفي هذه اللحظات التاريخية، فإن كل من هو ضد المقاومة (علناً أو مواربة) حتى لو ادعى بأنه "ضد إسرائيل ولكن"، فهو من جيش الطابور الخامس، أي بالفعل في خندق الأعداء.
كلمة أخيرة: المقاومة هي أنبل ظاهرة في تاريخنا المعاصر بكل روافدها وتشكيلاتها، وكلنا ثقة، أن المقاومة بخير، وأن المقاومة ستنتصر، كما انتصر السوفيات والفيتناميون وديغول والثورة الجزائرية وكل فصائل حركات التحرر الوطني...