الخطاب الإنساني في الذاكرة هو الوعي بالتاريخ والجذور والهوية وإدراك الخصوصية والوعي بالذات بما يتصل بالواقع وينفتح على المستقبل، ووسيلة فعالة تعمل على تثبيت ارتباط الشعوب بأرضهم وتعطيهم شرعية هذا الارتباط، لا تقتصر الذاكرة الشفهية على ذاكرة الفرد، إنها تحتاج إلى الذاكرة الجمعية التي تترتب على التفاعل والتواصل الاجتماعي.
ينشأ الخطاب الإنساني في الذكريات داخل منظومة اجتماعية تستند إلى تفاعل الفرد مع محيطه الاجتماعي سواء كان اسرة أو أصدقاء أو مجتمعاً كاملاً، وتتم بالارتكاز على ذكريات الآخرين وعلى الأطر الكبرى لذاكرة المجتمع.
فالذاكرة الشفهية هي كل ما نقل شفاهية، وتتنوع بتنوع الخطاب الإنساني وتتصل بالمخزون الفكري والإبداعي للشعوب وتعبر عن أشكال النشاط الإنساني وتشمل الأمثال الشعبية والعادات والطقوس في الأفراح والأتراح والأهازيج والغناء والشعر والموسيقى والأساطير والسير الشعبية والحكايات ومسرح الدمى خيال الظل والمهارات المرتبطة بالحرف التقليدية والمطبخ وطريقة العيش وتعدد اللغات واللهجات والممارسات اليومية والمعتقدات، إضافة إلى ما توفره –الذاكرة الشفهية- من عاطفة وواقعية، وبالرغم من أن ما سبق كله يمثل أساس هوية الجماعة إلا أنه معرض للتغير ومهدد بالاندثار بسبب عوامل الحداثة والعوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وعلينا العمل بجد على توثيقه وحمايته وحفظه لأنه يساهم في تطوير الهوية الجماعية، والواقع أنّ الذاكرة تمثل مركز الثقل في قضية فلسطين، خاصة أن هناك ذاكرة عدائية احتلالية مصطنعة جرى تركيبها بعناية فائقة على أنقاض التاريخ الفلسطيني.
ولتوضيح الفكرة أكثر نأخذ على سبيل المثال الطريقة التي تتذكر فيها الأجيال الفلسطينية اليوم لمحات تاريخية هامة عن حياة الشعب الفلسطيني في فلسطين قبل النكبة وما جرى خلالها وبعدها بالرغم من أن هذه الأجيال لم تعش ذلك الحدث ولم يشكل احتكاكاً خاصاً أو تجربة ملموسة حية في حياتهم لكن تعتبر الذاكرة المشتركة لجماعة بشرية معينة شرطاً أساسياً لوجود تلك الجماعة إذ أنها تشكل هويتها وتكون مجتمعها عبر فعل التذكر فكان لا بد من أن تصبح النكبة جزءاً من الذاكرة الجمعية للشعب الفلسطيني تتذكره الأجيال اللاحقة باعتباره انعكاساً للهوية المجتمعية وحدثاً مفصلياً في التاريخ لا يمكن نسيانه . كذلك من يمعن النظر في ذاكرة الأسر وأوضاع الأسرى يجد أن هناك ميزة ظاهرة وفرقاً بيناً بين الأسرى في سجون المحتل وبين الأسرى في أي سجن من سجون العالم حيث نجد الأسير في سجون الاحتلال يستكمل طريق نضاله ويستمر به حتى وهو في الزنزانة الانفرادية ويسير في مواجهة سجانه وجلاده تماماً كما واجه المحتل وجنوده في الساحات والخنادق ويكمل عمله النضالي دون توقف بكل الأشكال المتاحة والمستطاعة الفردية أو الجماعية، السرية أو الجهرية، لأنه يفتخر بانتمائه ويتمسك بهويته ولأنه آمن بصدق قضيته وحتمية النصر والتحرير.
فالذاكرة الشفهية هي ذاكرة تراكمية لحياة شعب أو جماعة تواصلت عبر العصور وتستمر بالحضور عبر الأجيال ما يعطي لها ملامح مشتركة ومتفردة وهي منتج ثقافي تاريخي.
وهي عنصر أساسي للهوية الفردية أو الجمعية والخطاب الإنساني. وهي تبحث عن الماضي لتنقذه ولتنجح في خدمة الحاضر والمستقبل، ولا تشكل الذاكرة الشفهية استرجاعاً مباشراً للتجارب الماضية بل هي إعادة بناء وهيكلة لذلك الماضي .
وهنا يكمن دور مشاريع الذاكرة في بناء الجسور ومدها بين الأفراد المختلفين من أجل خلق مكون مشترك واستيعاب الأحداث المختلفة المتنوعة إضافة إلى الإسهامات التربوية في نوعية الأجيال الناشئة ويمكن ضرب أمثلة لمشاريع الذاكرة كالمهرجانات الشعبية والمسارح ومسارح خيال الظل والمناهج المدرسية، كل تلك المشاريع يمكننا من خلالها استرجاع الذاكرة الجمعية الرسمية التي تؤثر في الحاضر وتسهم ببناء المستقبل .
كما ثبت أنها تحمل التقاليد الموروثة عن الأجداد تعزز قدرة المجتمعات على الصمود والتماسك الاجتماعي وتخلق قيم المسؤولية المشتركة وتعد عاملاً قوياً لخلق السلام الدائم .
لأنها أداة للاحتفاظ بالاختلافات والخصوصيات وتوسيع الآفاق والحفاظ على التماسك الاجتماعي وتعزيز الثقافات بأنواعها وتعد مساحة واسعة لتبادل الخبرات وهي وسيلة قوية للتعافي. لأن تعزيز أشكال التعبير الحية يحمي الأدلة التاريخية حول المجتمعات وهوياتها ويساعد على تقليص المسافات الزمانية والمكانية والحوار بين الأجيال والثقافات المختلفة ما يقلل العنف بين المجتمعات وبالتالي تعزيز السلام ويسهل تحقيق التنمية المجتمعية. ويساعد على فهم أفضل للحاضر والمستقبل في عالم متغير لهذا من المهم معرفة الأصول والانتماءات.
تعد الذاكرة الشفهية ضرورية للحفاظ على الهوية الثقافية ولكل مجتمع مجموعة فريدة من الممارسات والمعتقدات والعادات التي تحدد هويته ويمكن الحفاظ على هذه التقاليد من خلال رواية القصص والتوثيق والمشاركة الفعالة في الفعاليات الثقافية سواء كانت مسرحاً أو سينما أو مواقع إلكترونية أو برامج تلفزيونية لتوريث القصص الشعبية والطقوس والحرف التقليدية والطقوس من جيل لآخر لضمان إبقاء الذاكرة حية ولتقديرها من قبل الأجيال القادمة.
إن الحفاظ عل الذاكرة الشفهية وتوثيقها يؤدي إلى الحفاظ على الأسماء والرموز والشخصيات المؤثرة بالتاريخ أو العلم أو الأدب أو الموسيقى إذ يستمر إرثهم في إلهام العلماء والكتاب والموسيقيين الطموحين لمتابعة شغفهم وترك بصماتهم للعالم.
تتيح الذاكرة الشفهية أيضاً فرصة التعلم من التاريخ ومن تجارب الأسلاف وانتصاراتهم وهزائمهم، فمن خلال فهم أخطائهم وهفواتهم والاعتراف بها يمكن تجنب تكرار أخطاء التاريخ الفادحة والبناء على أسس تجريبية أرساها التاريخ.
توفر الذاكرة الشفهية شعوراً بالهوية الثقافية والانتماء من خلال الحفاظ على شعور الانتماء والاتصال بالأسلاف وهذا مهم بالنسبة للمجتمعات التي تم تهجيرها وإبعادها عن أرضها ضمن مجتمعات لا تخصها، ويوفر فهم لكيفية الوصول إلى الأوضاع اليوم. وهي مصدر لإلهام المبدعين والأدباء والفنانين والمصممين إذ يتم استخدام المنتج الشفهي أياً كان نوعه بأسلوب يحافظ على أصالته ويتناسب مع الوضع الحالي له ليتم استخدامه والاستفادة منه وتطويره وتنميته بما يناسب الواقع المعاش. وبهذا فإن الذاكرة الجمعية لها القدرة على توفير الفرص المادية والمصادر الاقتصادية من خلال تسويق المنتجات محلياً أو دولياً والمشاركة في المهرجانات والمعارض والفعاليات بكل أنواعها.
وتعد معركة طوفان الأقصى مفصلاً جديداً يعزز الهوية الفلسطينية أمام الطروحات الصهيونية بدءاً بتسميتها التي حملت أكثر من دلالة أهمها مكانة القدس والأقصى وارتباطها بالبعد العقائدي والذاكرة الشفهية والهوية الفلسطينية، وهي رسالة واضحة للاحتلال الذي يمارس الانتهاكات المتكررة بحق القدس والأقصى بأن ما يجري جاء رداً على اعتداءاته.
أثبت طوفان الأقصى والحفاظ على الذاكرة الشفهية والشعور بالانتماء أنه هو القادر على إسقاط العدو وهو القادر على فضح سرديته وأن التمسك بالهوية هو طريق النصر وأن كل النداءات من أجل التراث ليست مجرد غثاء كغثاء السيل.
لما سبق كله عمل العدو الصهيوني على طمس الهوية الوطنية الفلسطينية معتقداً أن هذا الطمس سيمحو الذاكرة مع مرور الزمن وذلك بتدمير المواقع الأثرية وتجريف المدن والقرى وبناء المستوطنات والمظاهر البعيدة كل البعد عن الثقافة العربية الفلسطينية من أجل محو التاريخ وإبعاد الفلسطيني عن الأرض التي حملت ذكرياته وتفاعلاته مع بيئته وطبيعته ومارس من خلالها أعماله اليومية وعاداته وفيها كون معتقداته وتقاليده. إلا أن هذه الممارسات الوحشية قامت ببناء الفردوس المفقود في الذاكرة الفلسطينية وعملت على تعزيز الانتماء وتكوين الهوية الفلسطينية التي تتوافق مع فكرة تحرير الأرض ورسم طريق وخارطة للعودة إلى هذا الفردوس المقدس المسلوب، فبات الشباب الفلسطيني اليوم وبعد مرور أكثر من سبعين عاماً على التهجير والنكبة متشوقاً لوطنه يحاول التعرف عليه بكل الوسائل والطرق.