في بقعةٍ ضاقت بأحلامها، حيث الأرضُ تئنُّ تحت وطأة الموت، والسماءُ تراقب بصمتٍ دامعٍ أضواءَ القذائف، تظلُّ غزةُ شاهدةً على وحشيةٍ تتكرّر منذ النكبة، وكأن الزمن يأبى أن يمنحها لحظةَ تنفّسٍ بعيدًا عن الدمار. هناك، في الأزقة التي تحتفظ برائحة الخبزِ المحترق، وبين أنقاض المنازلِ التي كانت يوماً تضجُّ بضحكات الأطفال، ترتفع صرخةُ الإنسانِ الذي لا يملكُ سوى قلبهِ ليقاوم، وأملهِ ليحيا. يبقى الحلمُ الفلسطينيُّ معلَّقاً بين غيمتين: إحداهما تمطر نارًا، والأخرى تنهمر بدموع الأمهات.
" على هذه الأرض ما يستحق الحياة"، قالها محمود درويش، وكأنه يكتب وصيّةَ الفلسطينيِّ الأخير، ذاك الذي يناضلُ من أجل بقايا وطن، ومن أجل سماءٍ لم تعد صافية، وأرضٍ تحوّلت إلى شاهدٍ على مجازرَ لا تنتهي، بوجهِ محتلٍّ غاشمٍ يهدي كلَّ طفلٍ لعبةً دمويةً للموت. على هذه الأرض، حيث يُزرعُ الموتُ يوميّاً، لا يزال هناك من يحفرُ في الركام بحثاً عن نافذةٍ للنور، ومن يردّد نشيدَ الحياةِ رغم هدير الطائراتِ وزمجرةِ القذائف.
هناك، حيث ينبُتُ النخيلُ من قلبِ الإسمنتِ المحطَّم، وحيث يُصرُّ البحرُ على البقاءِ أزرقَ رغم دماءِ الشهداء التي تصبغ موجه، يُولدُ الفلسطينيُّ من الرمادِ كلَّ يومٍ، وينهض، لا لأنه اعتاد الموت، بل لأنه اختار الحياة رغم أنفِ الجلّاد.
لكن في زمنٍ أصبحت فيه العدالةُ مسرحيةً هزلية، والسلامُ كذبةً كبرى، كما قال نزار قباني، لم يعُد أمام الفلسطينيِّ سوى التمسّكِ بحقّه في المقاومة. "يا أيها الثوّار، في القدس ، في الخليل، في بيسان، في الأغوار، في بيت لحم… حيث كنتم أيها الأحرار، تقدَّموا، تقدَّموا!" لأن الزمن لا ينتظر، ولأن الحرية لا تأتي على أجنحة الوعودِ الكاذبة.
" إلى فلسطين طريقٌ واحد، يمرُّ من فوهةِ بندقية"، ليست دعوةً إلى الدمار، بل صرخةُ حقٍّ في وجه الطغيان. فمنذ أكثرَ من سبعين عاماً، لم يفهمِ المحتلُّ إلا لغةَ القوة، لأنه لم يكن يوماً إلا عصابةً مسلّحة، أسّست كياناً عنصريّاً استيطانيّاً إحلاليّاً، ما لبث أن أعلن نفسه "دولةً" على أشلاء الفلسطينيين، بالنارِ والدمِ والتهجير، ولم يُمنح الفلسطينيُّ فرصةً للحياةِ إلا وهو يحمل إرادته في قبضته، بين حجارةٍ تتحوّل إلى رموزٍ للنضال، وأجسادٍ ترفضُ الانحناء.
تقدَّموا… لا تتراجعوا.
في كلِّ بيتٍ فلسطينيٍّ، في كلِّ قلبٍ يحمل ذكرى الشهداء، يولد جيلٌ جديدٌ من الثوّار، جيلٌ لا يعرف الخضوع، ولا يخشى الموت، لأنه يؤمن بأن الحياة بلا كرامةٍ ليست حياة، وأن الوطن يستحقُّ التضحية.
غزةُ ليست مجردَ مدينةٍ تُحاصَرُ بالنارِ والدمار، بل هي روحٌ تأبى الانكسار، وقصةُ نضالٍ تُعاد كتابتُها كلَّ يومٍ بدماءِ الشهداءِ وصمودِ الأحياء. هناك، حيث يتربّصُ الموتُ في كل زاوية، يولدُ الأطفالُ وهم يحملون في أعينهم وعدَ الفجر، ويكبرون على صدى الحكاياتِ التي لم تكتمل، لأن من رحلوا، لم يرحلوا حقّاً، بل عادوا في وجوهِ الصغار، وفي حجارةٍ تُرفع، وفي راياتٍ لا تسقط. غزةُ ليست مأساةً، بل ثورةٌ تمتدُّ بامتدادِ الأرض، عميقةٌ كجذورِ الزيتون، حمراءُ كالجمر، قويةٌ كالفولاذ.
تشي جيفارا:" الثورة قويةٌ كالفولاذ، حمراءُ كالجمر، باقيةٌ كالسنديان، عميقةٌ كحبِّنا الوحشيِّ للوطن."