إنّ الكتّاب الشهداء الذين كتبوا قصتهم الأخيرة قبيل الاستشهاد في حرب الإبادة الأخيرة على غزة أكثر من أن تحيط بهم مقالة؛ وقد سلّطنا الضوء على بعض هؤلاء الأدباء الشهداء في العدد السابق من مجلة الهدف (عدد شباط/ فبراير)، وفي هذا الجزء الثاني نتابع تسليط الضوء على كوكبة جديدة منهم، وربما نحتاج إلى سلسلة من المقالات للحديث عنهم والتعريف بهم؛ لأنهم ظاهرة تستحق التوقف عندها ملياً، كونها ظاهرة فريدة في تاريخ الأدب العربي، ولأنّ الحديث عنهم هو حديث عن الإبادة الثقافية التي لا تقلّ أهمية عن الإبادة العامة للشعب الفلسطيني.
إنّ هذه الإبادة الثقافية تعني اغتيال القلم الذي يوثّق جرائم الاحتلال، ويسجّل البعد الثقافي الإنساني الذي تركّز الصهيونية على اغتياله، وترى في الأدباء والكتّاب والفنانين خطراً لا يقلّ عن خطر المقاوم الذي يحمل قذيفة الياسين أو عبودة العمل الفدائي، ولا ننسى وينبغي ألا ننسى مقولة رئيسة وزراء العدو (غولدا مائير) أحد قادة الإجرام المؤسّسين للإبادة، لما بلغها نجاح المجرمين في اغتيال الأديب غسان كنفاني : لقد تخلّصنا اليوم من لواء ثقافي مسلّح. وهذا يبيّن مدى إدراك الأعداء للدور الخطير الذي يقوم به المثقف الفلسطيني المشتبك في تمتين الوعي ومواجهة السردية الصهيونية التي تحاول أن تمحو كلّ السردية الفلسطينية الحقيقية الصادقة في مقابل الكذب والادعاء الصهيوني..
غالباً ما تُدرَس الإبادة الثقافية بوصفها أحد مكوّنات الإطار الأوسع للإبادة. فقد اشتمل هذا المصطلح، منذ ابتدعه المحامي البولندي "رالف لمكين" في عام 1944، على ممارسات غير القتل؛ إذ إنّ الإبادة تتضمن الجهود الهادفة إلى طمس ثقافة المجموعات المستهدفة ولغتها وجوانبها الدينية. وليست الإبادة حدثاً فجائيّاً؛ بل هي مسار منهجي مؤلّف من العديد من المراحل المترابطة، على النحو الذي أشار إليه باحثون كثر.
كما يمكن فهم الإبادة الثقافية على أنها إبادة قائمة بذاتها، رغم أنها جزء من عملية الإبادة الأوسع نطاقاً. فالقضاء على المظاهر الثقافية والأدبية الغنيّة في غزة هو في حدّ ذاته عملٌ من أعمال التجريد من الإنسانية، وإنّ الحديث عن الإبادة يعني تسليط الضوء على دمار الذاكرة والسجلات الرسمية للفلسطينيين في غزة، بالإضافة إلى ذكريات الأفراد وتاريخهم ومستقبلهم.
أمّا في تخصيص الحديث هنا عن الأدباء، فإنّنا سنتحدث عن بعض الكتّاب الذين قضوا في هذه الإبادة الثقافية، وهم:
- هبة المدهون
كاتبة وروائية من مدينة غزة، حاصلة على شهادة الهندسة المعمارية من الجامعة الإسلامية في غزة عام 2003. عملت في الكلية الجامعية للعلوم التطبيقية بقسم المهن الهندسية حيث أسست برنامج الحرف اليدوية، وكانت موهوبة بالأشغال اليدوية تتقن أعمال الكروشيه والتطريز والفنون الورقية بالإضافة إلى نشاطها الأدبي، وقد صدرت لها رواية "فإذا هم خامِدون" 2019، وصدّرتها بإهداء إلى أخيها "ضياء" الذي استُشهد قبل سنوات، كما نشرت ديوان شعر بعنوان "كوني عنقاء".
استشهدت هبة مع زوجها وأطفالهما الأربعة في أكتوبر 2023، بقصف طائرات الاحتلال للمنزل الذي نزحوا إليه من مدينة غزة إلى خانيونس. وكتبت قبل ذلك عن الموت تحت القصف، والنزوح من البيوت، والعودة إلى الديار، وعبور الحدود:
هل الموت مؤلم؟ أظنّه كذلك:
كان موت أمّي سريعاً فلم ألحظ ألماً على وجهها بعدما توقف قلبُها المنهك فجأة عن العمل، لكنّني رأيت الألم في وجه الحاج عبد الله عندما مات، ذلك الذي أسقطت الطائرات منزله المكون من ثلاثة طوابق على رؤوس عائلته، كان واقفاً عند مدخل بيته ينتظر خروجهم لإخلاء المنزل بسبب الغارات المكثفة للطيران على المنطقة، فجأة، رأيت جسده النحيل يطير حتى وصل إلى مدخل بيتنا واصطدم به بعنف، وجهه كان مصدوماً، وكان يتألم، خيط من الدماء يسيل من جانب رأسه وشفتاه ترتجفان، ثم إنه مات وما زالت الصدمة تحتل عينيه.
كلنا تركنا حاراتنا، لم نغلق البيوت لأننا لا نعلم هل سنحيا لندخلها ثانية أم لا، كنا نركض من الموت شرقاً ونحن نعلم أنه يحيط بنا من كل جانب، لكن الموت شرقاً كان أكثر منطقية بالنسبة لنا، حدسٌ فطري جعلنا جميعاً نسلك نهج الطيور المهاجرة في العودة إلى الديار، نمضي بلا خطة تبتدعها عقولنا، مجرد حدس، وفطرة. "أتصدق يا ولدي أن حالنا يشبه حال أهلنا عندما تركوا بيوتهم قبل خمسة وسبعين عاماً. هل تظن أننا سندخل البلاد؟"،" ربما سنفعل يا جدة، وربما نموت جميعاً هنا. لا أحد يعلم"،
مطّت شفتيها وعدّلت من منديلها الأبيض لتغطي به فمها وهي تقول.. " لقد عشتُ بما يكفي على أية حال". أشاحت بوجهها تنظر للحدود قبل أن تقول: "إلى متى سننتظر تلك الإشارة التي قلت عنها؟".لم أجب، لأنني لا أملك الجواب.. الرمال الصفراء ما زالت تنتظر، وهناك خلف الأسلاك يختبئ الجنود بانتظار أول بادرة عنف نبديها نحوهم، وخلفنا تنهار مباني المدينة شيئاً فشيئاً مع كل غارة، فتمحو من الوجود مظهر المدينة الذي حفظناه في الذاكرة، هل سندخل الحدود؟ لا أعرف، أنا أنتظر كالآخرين.. لكن السؤال الذي يلح عليّ، هل سيكون الموت مؤلماً؟
ولاء جمعة الإفرنجي
من مخيم النصيرات في مدينة غزة. بدأت رحلتها مع الكتابة بإصدار رواية "مزاج مُرسل" قبل أن تنتقل من الكتابة على الورق إلى الكتابة على الحجارة والخشب وتحويلها إلى سلاسل وخواتم. وكانت تعمل في محل لتجهيز الهدايا في حي الرمال قبل حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة.
استشهدت الشابة ولاء برفقة زوجها أحمد سلامة في ديسمبر 2024، خلال قصف صهيوني استهدف منزلاً نزحا إليه في مخيم النصيرات. ولم يمضِ على زواجهما إلاّ سنة وبضعة أشهر. وقبيل استشهادها بوقت قصير، قالت ولاء عبر فيديو نشرته على وسائل التواصل الاجتماعي:
لم أجلس منذ بدء الحرب ولم أترك باباً إلاّ وطرقته، وأخاف أن يكون هناك طريق لم أسلكه، لذلك أدعو الله دوماً أن يهديني سبيلي... أنا ولاء من غزة، النصيرات، أود مشاركتكم أفكاري التي بدت ثقيلة مع الحرب، إذ فقدنا منذ بدء الحرب كل شي... صباحاتنا التي ألفناها ومكاننا وتفاصيلنا، وها نحن نجري في البحث عن الطعام والعلاج...
سؤالي هو: هل في الحرب تتوقف غاية وجودنا في السعي والإنجاز كغزيين؟ لا أريد أن أتوقف، ولكن هناك حافزية تجعلني أنجز وأسعى ولا أتوقف...
شحدة سعيد البهبهاني
شاعر وباحث تربوي من دير البلح (1950-2023) حاصل على إجازة في اللغة العربية من جامعة القاهرة عام 1974، ودرجة الماجستير في تخصص أصول التربية من الجامعة الإسلامية عام 2003. عمل مدرساً بوزارة التربية والتعليم في قطاع غزة. ونشر العديد من الأبحاث التربوية بالإضافة إلى مجموعاته الشعرية: هنا القسّام فانتظروا، مازلتُ لي عشقاً، في ظلال الرسالة المحمدية، ومن عينيك نلتمس الاعتذار، صرخة القدس . ومن قصيدته "صرخة ألم" نقرأ:
سمعتُ الأنِينَ ففاضتْ دموعي |
| وأدركتُ عصراً بلا رأفةِ |
استشهد البهبهاني برفقة حفيدته، في نوفمبر 2023، بعد أن استهدفت طائرات الاحتلال الصهيوني منزل عائلته في منطقة دير البلح.
رشاد أبو سخيلة
من مخيم جباليا (2001-202). درس الصحافة والإعلام في جامعة الأقصى بغزة وعمل ممثلاً في عدد من المسلسلات الفلسطينية التي نالت شهرة عالمية، كما أصدرَ ديواناً شعرياً عام 2020 بعنوان "حروب التراب"، وحاز به على لقب أصغر شاعر فلسطيني يُصدر ديواناً، وهو مكوّن من 27 قصيدة تعدّدت موضوعاتها عن الوطن، والقضايا المجتمعية، والعاطفية، والروحانية، والدينية. كما كتب «أنشودة قُم وتَلثم» عام 2018. استشهد في أثناء قصف طائرات الاحتلال الصهيوني لمركز الإيواء في مدرسة الفاخورية، في سبتمبر 2024.
أحمد الكحلوت
كاتب وناشط مجتمعي، ومؤسس منتدى درويش الشبابي للثقافة والفنون. تميزَّ بكتابة النص النثري، وكان يُعِدّ لإطلاق روايته الأولى "عشريني مسن" عام 2024 قبل استشهاده في فبراير 2024، جراء قصف الاحتلال الصهيوني.
لقد مزّقت آلة القتل الصهيونية المستمرة منذ السابع من أكتوبر النسيج الثقافي للحياة الفلسطينية في غزة. فمن تدمير العديد من المراكز الثقافية والمتاحف إلى استهداف عدد غير قليل من الفنانين والكتّاب، منهم شعراء وأكاديميون. وكانت الأضرار التي لحقت بالقطاع الثقافي في غزة في صميم حرب الإبادة التي يشنّها الصهيوني على شعبنا. وإنّ ما يحدث في غزة الآن هو عملٌ متعدّد الطبقات يذهب أبعد بكثير من التدمير المادي للمعالم الأثرية أو قتل الأفراد. فتندرج هذه الممارسات في إطار عمليات تدميرية أوسع تقوّض إرث المجتمع المحلي وهويته ووجوده، مع ما يترتب على ذلك من تداعيات رمزية ونفسية ليس في غزة فحسب وإنما أيضًا في العالم بأسره.
إنّ هذا الدمار، المادي والرمزي على السواء، يصبّ في مصلحة أجندة سياسية إجرامية أوسع نطاقاً تتمثّل في طمس الهوية الفلسطينية والذاكرة الجماعية، إلا أنّ الأقلام الحرّة تمتلك القدرة على صنع التغيير والدفع قدماً بالمقاومة من أجل العدالة والخلاص من الاحتلال. ويقع على عاتق المجتمع الأدبي والفني العالمي الحفاظ على الثقافة في غزة، وإعلاء أصوات أولئك الذين ما يزالون قادرين على المجاهرة بأفكارهم، وظلّوا يكتبون حتى الدقيقة الأخيرة قبل استشهادهم، ليخبروا العالم من جديد أنّ أصحاب القلم لا يموتون، وستظلّ نصوصهم تتردّد وتردّدها الألسن عبر الزمن.