لم يعد الصراع في المنطقة العربية الذي بدء يشتعل لتحقيق أهداف وطنية وشعبية كاسقاط الأنظمة الاستبدادية التي احتكرت التربع على السلطة السياسية سواء كان ذلك بأسلوب هيمنة أحزاب شمولية أو بأسلوب توريث الحكم للأبناء، وهو صراع له مبرراته الموضوعية على المستوى السياسي أو الإيديولوجي لأنه يستجيب لتطلعات الجماهير الشعبية التي أخذت تعاني من الكثير من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية ومن تصاعد ممارسة القمع التي تقوم بمهمته الأجهزة الأمنية للأنظمة الاستبدادية.
صراع كان يستجيب أيضا لامال الجماهير في ممارسة الديموقراطية لتجديد الحياة السياسية عن طريق تداول السلطة، لم يعد هذا الصراع المتفجر الآن في كثير من الساحات العربية يسير في الوجهة الصحيحة كما كان مؤملا وذلك لأحداث حركة نهضوية تنموية حضارية تخرج الواقع العربي من حالته البائسة على كل المستويات فقد تحول من ثورات شعبية لها دوافعها الوطنية والشعبية الملحة إلى عملية فوضى سياسية وأمنية بسبب بروز العامل الديني الطائفي المرتكز على عقلية ظلامية عدمية وممارسة سادية وحشية تهدف إلى إرهاب وترويع الشعوب لما يرتكبه أصحاب هذه العقلية الجاهلية من التنظيمات والجماعات التكفيرية من عمليات ذبح بأبشع واقسى الصور وحرق واغتصاب وسبي وبيع للنساء وتدمير للآثار الحضارية.
بروز هذا العامل الديني الطائفي بشكل طاغ على حساب العامل القومي والاجتماعي قد أدي ذلك بشكل واسع الى حرف هذا الصراع عن بوصلته الحقيقية فأصبح الصراع في معظمه يقوم على أرضية طائفية يزيد من مساحتها الخلاف المذهبي بين السنة والشيعة وهو خلاف قديم تم النفخ فيه وإعادته إلى الحياة السياسية لتحقيق أهداف ومصالح إقليمية ودولية.
وبرزت فكرة الفوضى الخلاقة لتسود على التوصيف الحالى للمشهد العربي ولا يخفى على أحد أن هذه الفكرة أطلقتها الإدارة الأمريكية على لسان كوندا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية في عهد الرئيس جورج بوش الابن وهي فوضى تهدف من ورائها واشنطن بناء شرق أوسط جديد بعيدا عن الرابطة القومية خاصة الرابطة العربية التي توحد الشعور القومي للشعوب العربية في مواجهة الأحداث الخارجية ..فوضى خلاقة ظهرت التنظيمات التكفيرية الإرهابية المتطرفة المسلحة فيها كتنظيم القاعدة وتفرعاته المنتشرة والمتمدده في المنطقة العربية لتقوم بدور وظيفي مرسوم في تحقيق هذا المشروع التقسبمي الجديد الذي يفوق في خطره تقسيم سايكس بيكو لأن هذا التقسيم يقوم على أرضية طائفية ويحمل في بذوره تأسيس دول سياسية مذهبية تعمل على القضاء نهائيا على طمس الهوية الوطنية والقومية ومعاداة الديموقراطية وفكر الحداثة وكل ما يتصل بمؤسسات المجتمع المدني مما يعيق عملية التحول الحضاري لشعوب المنطقة العربية التي ما زالت تعيش مرحلة التخلف.
لم يعد شعبنا الفلسطيني في منأى عن هذا الصراع رغم محاولة فصائل رئيسية في منظمة التحرير الفلسطينية الناي عنه بعيدا خاصة في الشقيقة سوريا التي تتعرض لمؤامرة إقليمية ودولية بعد أن تراجع فيها الهدف الوطني بتعميم الديموقراطية لتحقيق مبدء تداول السلطة السياسية ليصبح الهدف بعد ذلك ينحصر في أضعاف دورها القومي وجعلها تسير في فلك السياسة الأميركية القائمة على علاقة التبعية الكاملة بهدف أن تصبح سياستها الخارجية متوافقة مع المشاريع السياسية التي تخطط للمنطقة العربية ومنها المشاريع التصفوية المشبوهة للقضية الفلسطينية والتي بدأت تروج مرة أخرى في هذه المرحلة.
رغم هذا الموقف الوطني الفلسطيني الرسمي بعدم التدخل في الأزمة السورية إلا أن شعبنا وقضيتنا الآن قد زج كلا منهما قسرا في ساحة الصراع من خلال استهداف مخيم اليرموك الذي يدفع الثمن غاليا الان ويتعرض لهجمة وحشية تكفيرية من قبل تنظيمي داعش والنصرة الارهابيين هي الأقسى من غيرها من الهجمات و من حالة الحصار التي يعاني منهما منذ سنوات وذلك لتحقيق هدفين اثنين : اولهما على المستوى الشعبي والجغرافي تفريغ المخيم ضمن خطة مرسومة لاخلاء أماكن اللجوء في المخيمات من سكانها ودفعهم إلى أماكن لجوء جديدة لتصفية ظاهرة اللجوء باعتبارها الظاهرة البارزة للصراع العربي الصهيوني وثانيهما على المستوى السياسي الوطني العمل على تصفية ومصادرة حق العودة الذي اقرته الشرعية الدولية باعتبار قضية اللاجئين أحد أهم القضايا الجوهرية المعقدة للصراع والتي تحاول الولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها الراعي الرئيسي لعملية السلام وبموافقة أطراف عربية وإقليمية ودولية البحث عن حل التفافي على هذه القضية الجوهرية وتسويتها لصالح الكيان الصهيوني للتخلص منها لما تحمله هذه المسالة من دلائل رمزية وإنسانية وهكذا يأتي هذا العدوان والاجتياح على مخيم اليرموك في سياق تحقيق فصل من فصول المؤامرة على قضية الشعب الفلسطيني وهكذا ايضا تتلاقى أهداف التنظيمات التكفيرية الإرهابية مع الأهداف الإسرائيلية والامريكية حيث كل واحد من هذه الأطراف الثلاثة يسعى الي تحقيق وجود هذا الشرق الأوسط الجديد الذي يتم فيه تصفية القضية الفلسطينية بكامل مظاهرها لصالح إسرائيل وفيه ايضا تتكيف السياسات الأمريكية والغربية مع انظمته السياسية ودوله القزمية الطائفية والعرقية والمناطقية وبذلك تصبح دولة الكيان الصهيوني فيه القائمة على الاغتصاب وتشريد الشعب الفلسطيني واقتلاعه من أرضه ..تصبح في هذه الخارطة السياسية الجديدة التي ترسم للمنطقة جزءا غير شاذ من نسيج دولها القائم على مشاريع التقسيم الجديد الطائفي والعرقي ومركز الثقل في عملية النهب الرأسمالي الامبريالي لمقدرات المنطقة.