Menu

غسان يقاتل

Kanafani 3

في ذكرى استشهاد غسان كانت آلة القتل الصهيونية عام 2014 تواصل محاولاتها المستميتة لقتله، فأرسلت طائراتها وبقية قطع آلة حربها لتصب على غزة آلاف الأطنان من القذائف والنيران، على أمل قتل غسان الذي بقي ليقاتل في غزة و القدس بعد أن قضى جسده في اغتيال بيروت ومضى مستكملاً طريق عودته إلى حيفا التي قبلت صواريخ المقاومة أعتابها في تلك الحرب.

أدوات القتل تطورت وكذلك قدرات أبناء المقاومة، وبعد أن قتلوه أول مرة بسيارة مفخخة، حاولوا قتله بطائرات الاستطلاع القاتلة، وبغارات الإف 16، بحثت عنه أدوات قتلهم في وجه كل طفل، وفي ذخيرة كل مقاتل في تلك الحرب، ولكن غسان كان ينجو ويعود، لنقاتل لأجل فلسطين. 

لا يمكن عزل استشهاد غسان كنفاني عن ذاك السياق والسردية التي قدمها، فلم يكن استشهاده إلا تأكيداً لكل ما مثّله الرجل، فالعدو الصهيوني اختار قتله غيلة بواسطة سيارة وبينما كانت معه ابنة شقيقته.

الروائي والسياسي الشهيد، ولميس ابنة شقيقته، كليهما كان على شاكلة أبطال روايات غسان، الذين قدّم من خلالهم السردية والرواية الفلسطينية، عن الجريمة الصهيونية المروّعة والمستمرة انذاك واليوم بحق فلسطين وشعبها، وعن هذه الفلسطين.

أي فلسطين وأي شعب قدّم لنا غسان، لعل هذا هو المحور الأساسي الذي يجب علينا أن ننظر من خلاله اليوم لدور غسان، خصوصاً في ظل استمرار ذلك الجدل الفلسطيني- الفلسطيني، حول أي دور علينا أن نلعب، دور الضحية أم دور الأبطال الصارمين الذين يذيقون عدوهم الموت دون أن يعرفوا طعم الألم.

حياة غسان كما كتاباته قدّمت لنا خيار بديل، وهو الحقيقة، أنه ليس علينا لعب أو تمثيل أي أدوار، علينا أن نسرد حقيقتنا ونتمسك بها، ونقاتل لأجلها ونستشهد لأجلها.

فأدب غسان الذي قدّم مأساتنا كضحية لم يتردد لحظة واحدة في تصوير تحوّل هذه الضحيّة تترك الاستكانة وتنفض عنها ركام النكبة لتنطلق وتقاتل، وهو الخيار الذي اشتقّه غسان لذاته كمسار لحياته، فاللاجئ اختار مواجهة المشروع الصهيوني، متسلحاً بالوعي، الذي قدّمه لشعبه في رواياته، مؤمناً بعدالة امتشاق السلاح وحق الفلسطيني بل وواجبه في القتال.

انتكست نخبتنا الفلسطينية السياسية والثقافية، وعادت للجدل حول كيفية مخاطبة العالم وحول الرواية والصورة التي يجب أن نقدّمها عن أنفسنا، متجاوزة ما قدّمه الرجل، أن بوسع الفلسطيني أن يكون الضحية التي تقاتل، دون إنكار لهول الجريمة التي وقعت بحق هذه الضحية، أو لضعف قدرة هذه الضحية ومحدوديّة إمكانياتها.

غسان دفع حياته مقابل خياره، فيما عادت نخبتنا للجدل حول الألم والثمن المصاحب لخيار المواجهة والقتال.

يمكن الحديث عن اغتيالٍ ثانٍ وثالث ورابع لغسان، مارسته النخب الفلسطينية المهيمنة اليوم، ولكن مطولاً يجب أن نقف عند اغتيال غسان بواسطة اتفاقية اوسلو وما أسّست له، من إضاعة للأهداف الجمعيّة للفلسطينيين وما ترتب عليها من واقع يهدد الحقوق التاريخية لهم وحق اللاجئين في العودة، فاغتيال حلم غسان بالعودة جريمة لا تقل خطورة عن تصفية الاحتلال لجسده، وكذلك إهدار الفكرة والهوية الوطنية التي قدّمها غسان بجدل حول هويات مصطنعة، واحدة تصالح عدوّها على حساب دم وأرض وتضحيات، وأخرى لا ترى مشكلة في شطب اسم ومعنى فلسطين مقابل مشروع طائفي غاية في الضيق، لا يتردد في تحويل ذلك اللاجئ الذي سلحه غسان الى صورة الضحية المستكينة القابعة في خيمتها تنتظر قوافل كتلك المساعدات التركية المارة باتفاق مع الكيان الصهيوني.

أشيع في بيئة المقاومة والثورة الفلسطينية أن اغتيال غسان كان بسبب دور لعبه في عملية مطار اللد، كمحاولة لإعطاء غسان ميزة إضافية كعسكري يخطط لعمليات ضد العدو، والحقيقة هنا حول مشاركة غسان لا زالت غائبة ولكن المؤكد أن هذه العملية أو سواها لم تكن دافع الصهاينة لاغتيال غسان، ولكن قتل تلك السردية التي قدّمها غسان والتي تتكفّل بإنتاج عشرات وآلاف العمليات مثل عملية مطار اللد، وتضع نضالنا الجمعي الفلسطيني بهويته الوطنية كجزء من نضالات كل ضحايا الإمبريالية والاستعمار في هذا العالم، تلك هي بندقية غسان التي لم يتردّد الصهيوني لحظة واحدة في تصفيتها، حتى لو كان ذلك عبر اغتيال خرج بصورته ليؤكد كل مقولات غسان وروايته عن فلسطين.

في ظل كل هذا التشظي والتفكك القائم في واقعنا، والذي يجعلنا في هذه المرحلة عاجزين عن الحاق الهزيمة التاريخية الضرورية بالكيان الصهيوني، فليس اقل من أن نمسك بهويتنا الثقافية الجمعية وبالهوية الوطنية المقاتلة، التي قدمها غسان لتشكل اطار يُمكّن كل فلسطيني من الاسهام فيه، والعمل تحت سقفه.

نحن أحفاد ذلك النسر العائد إلى حيفا، إذ شابت ذوائبه وبلغ ثمانينات عمره شهيداً، ماضين على ذات الطريق، لم ولن نرتعد في طلب حقنا، بذات السلاح الذي حماه غسان بدمه وجسده وروحه وقلمه، وسنعاقب أولئك القتلة المستعمرين مهما طال الزمان، ومهما أضاع الناس البوصلة، فكما كنت دوماً أنت يا فلسطيننا يا غساننا ستبقى البوصلة التي لا تضل، فابق معنا يا رفيق فلن نخذلك أنت وفلسطينك التي نحب.