Menu

مجزرة الشجاعية.. الذكرى الثانية

مجزرة الشجاعية.. الذكرى الثانية

مرح الوادية - وكالات

تمرّ اليوم الذكرى الثانية لارتكاب مجزرة الشجاعية من قبل قوات الاحتلال "الإسرائيلي"، في أيام العدوان على قطاع غزّة، وذلك في 20 يوليو 2014، حيث قصفت المدفعية حي الشجاعية شرق مدينة غزّة، بشكلٍ متواصل، طوال الليل، حتى ساعات الصباح، مما أدى لعشرات الشهداء ومئات الإصابات.

حدث ذلك في اليوم الثالث عشر من أيّام العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة. ولو توقّف عدّاد الزمن، فإنّ عدّاد الموت لا ينفك يحصي المزيد من الشّهداء.

غرفة واحدة لا تتعدّى مساحتها الأربعة أمتار، احتضنت سبعة عشر شخصاً، بينهم أربعة أطفال.

ما زال المشهد يتردّد أمامي. كنّا نعدّ الثواني المتبقية لنا على قيد الحياة، بانتظار القذيفة التي ستُبعثر أشلاءنا، لنصير شيئاً من الماضي، ويتم مسحنا من السجلات المدنيّة لسكّان القطاع. رجفنا من شدّة الخوف والرعب، الذي اجتاح قلوبنا. صدمة الأطفال، وتمسّكهم بأمهاتهم، من دون بكاء، من دون دموع، بصرخات متفاوتة، تتناسب طرديّاً مع قوّة القذيفة التي تسقط، وبُعد مكان سقوطها. في تلك الزاوية من الغرفة، التي اعتبرتها محصّنة بعض الشيء، احتضنت أخي الصّغير لأمتصّ بعضاً من خوفه، وكذلك فعلت أمّي مع بقيّة إخوتي.

صبيحة ذلك اليوم، بدا أن جنود الاحتلال صاروا مهووسين بدمائنا، باستهداف المنازل والشوارع، وحتى المراكز الصحيّة، استهدافاً عنيفاً وعشوائياً. بعدما أمطروا سماءنا بالمناشير، وهواتفنا بالمكالمات المسجّلة والرّسائل، طالبين منّا، نحن سكّان الشّجاعية، الخروج وإخلاء المنطقة. اعتبرنا في البداية أن هذه التّحذيرات مجرّد حرب نفسيّة. كنّا واثقين من قدرتنا على الصمود، وإن قصفت منازلنا. لم نستجب لهم باستثناء قلّة فضّلت الرّحيل لتنجو بحياتها.

بدأت وتيرة الغارات بالتصاعد، وجاب عملاء الحيّ مطلقين الرّصاص تمهيداً للمجزرة. لم تكن طلقات الرصاص عادية، لم تدلّ على أي اشتباكات بين المقاومين وجنود الاحتلال، خاصة أنّ منطقتنا بعيدة بعض الشيء عن الحدود. كان من المستحيل أن يكون الاحتلال قد تجاوز شارعَي النزّاز وبغداد، ليدخل في عمق الشجاعيّة. سرعان ما عمّم المقاومون أن لا علاقة لهم بإطلاق الرصاص، وأنّ هذا من فعل العملاء لكشفهم، وتحويلهم لأهداف سهلةٍ، وتسهيل كشف مخابئ المقاومة.

تحوّل الاشتباك البرّي بين المقاومة والاحتلال، إلى ملحمةٍ، حتّمت التفاف سكّان الحيّ حول المقاومة. لم يشهد حيّ الشّجاعية أعنف من هذه الليلة، كانت الأكثر دمويّة ووحشيّة. خسائر الإسرائيلي البرّية دفعته للجنون، فصار الضرب عشوائياً، تأرجح بنا البيت مع كلّ قذيفة، ودخلت الشظايا غرف النوم التي اعتبرناها الأكثر أمناً في المنزل. صراخ الأطفال، النساء، وأدعية الرجال، كانت ترتفع في الشارع.

اشتدّ الصراخ وطلبنا النجدة من بيت يبعد عنّا بضعة أمتار. كان الدّخان يتصاعد من الطابق العلويّ. كدنا نختنق، ولا شيء حولنا غير ألسنة اللهب.

اشتدّ القصف المدفعيّ أكثر فأكثر، وكنّا ننتظر الموت. انتظرت سقوط قذيفةٍ لأتخيّل المشهد المرعب الذي سيعرض على التلفاز. لم نعد نشعر بغير الموت يومها، وإن كنّا نتنفّس. أبتسم تارة وأعبس أخرى، بينما يمرّ شريط ذكرياتي أمامي، لكل زاوية في بيتنا ذكرى، أمّا اليوم فأصبح قبرنا.. مع وقف التّنفيذ.

ظننّا أنّ الأمور ستهدأ مع بزوغ شمس الصباح، لذا رفضنا الخروج من المنزل. تصاعدت الأمور تصاعداً غير متوقع، أجبرت من حولنا على ترك منازلهم. أخلي شارعنا تماماً، ولم يبق به غيرنا. سقطت قذيفة على منزلٍ في الشارع المجاور، فقتل من فيه. لم يستطع أحدٌ الوصول إلى هناك، لا سيارات إسعاف، ولا دفاع مدنيّ، ولا حتى الصليب الأحمر.

أُجبرنا على الخروج تحت ضغط الأقارب. لم نحمل سوى أوراقنا الثبوتيّة، وقليل من المال، مع هواتفنا النقّالة. خرجنا من المنزل، منتظرين الموت في كلّ لحظة. الشوارع خالية، باستثناء بعض الهاربين والمصوّرين والمسعفين. فيما كان الجرحى يراقبوننا بينما ينتظرون الموت.

عند وصولنا إلى مفترق الشجاعيّة، كدنا ننهار: عائلات بأكملها تنزح، يحملون أطفالهم، يجرّون العجائز على كراسي متحرّكة، فيما يحمل الشباب شيئا من الملابس. كانت سيارات البلدية والإسعاف، وكم هائل من الطواقم الصحافيّة، ينتظرون على مشارف الحيّ، كلٌّ منهم يسعى لتقديم المساعدة.

ما إن خرجنا من الشجاعيّة، حتّى بدأنا باستيعاب ما حصل، وأدركنا أنّ زمن المعجزات لم ينته: ما زلنا أحياء، سالمين جسديّاً، ونتنفّس، لكنّنا لسنا بخير. "صبرا وشاتيلّا" الشجاعيّة قتلت فينا الحياة، ونحن على قيد الحياة.