Menu

روسيا: "الشبح الإمبريالي"...؟!

روسيا الشبح الامبريالي

نقلا عن موقع قاسيون

فيما يلي نحاول الإجابة عن السؤال التالي: هل روسيا المعاصرة هي دولة إمبريالية؟ أم أنها واحدة من "دول الأطراف"؟ أيْ واحدة من الدول المنهوبة من جانب المركز الإمبريالي الغربي ضمن علاقات "التبادل اللامتكافئ". ومن ثمّ نقدّم مقاربة لسؤال آخر: إنْ لم تكن روسيا إمبريالية، فهل هي ساعية لتغدو كذلك؟ وإنْ كانت ساعية، فهل هذه الإمكانية موجودة؟

إنّ الإجابة عن هذه الأسئلة، إجابة علمية جدية تعلو فوق السجالات السياسية اليومية، هي أمر بالغ الأهمية لفهم ما يجري في عالمنا المعاصر، وللتنبؤ بآفاقه المحتملة، لا على الصعيد العالمي العام فحسب، بل وعلى المستويات الإقليمية والداخلية، بما في ذلك الأزمة السورية بتفاصيلها وآفاقها.
فوق ذلك كلّه، فإنّ الإجابة عن هذه الأسئلة، هي مدخل إلزامي لا محيد عنه لأي حزب ثوري في تحديد مهماته القريبة والمتوسطة والبعيدة؛ فالتغافل عن الإجابة، أو الاستناد إلى إجابة خاطئة، كفيلان بنقل عمل أي حزب ثوري (مهما كانت نواياه صادقة) إلى عمل بلا أدنى جدوى في أحسن الأحوال، وفي أسوئها: إلى عمل رجعي تماماً!

إلى من نتحدث؟

إنّ أول ما ينبغي توضيحه، هو أننا نستند هنا إلى التعريف ال لينين ي للإمبريالية. وهو تعريف اقتصادي- سياسي، نزعم أنّه لا يزال صحيحاً تماماً من حيث جوهره، إذ وبالرغم من التطور الكبير الذي شهده العالم خلال القرن العشرين، فإنّ السمات الخمس الأساسية التي وصف بها لينين الإمبريالية لا تزال صحيحة تماماً. وباستنادنا إلى تعريف لينين، فإننا نقدّم لأولئك المعترضين على التحليل الماركسي- اللينيني للإمبريالية، وسيلة سهلة لنقض كل ما سنقوله. والحقيقة أنّ مَنْ يهمنا الحديث إليهم في هذا المقام، هم بالضبط: الماركسيون اللينينيون، وهؤلاء –بالمناسبة- لا يرون الماركسية-اللينينية إلا بوصفها الماركسية ذاتها وقد تطوّرت واغتنت ضمن ظروف القرن العشرين.
من جهة أخرى، فإنّ الخطورة الحقيقية في القول بـ"روسيا إمبريالية"، تأتي من ذلك القسم الذي يدّعي استناده إلى لينين نفسه، وإلى تعريفه المشهور ذي النقاط الخمس، في حين لا يشكل منظرو البرجوازية الصريحون خطراً جدياً؛ فهم وإنْ كانوا يستخدمون كلمة الإمبريالية لتوصيف روسيا، فإنّهم يضعونها ضمن سلسلة صفات "مترادفة" من قبيل الشوفينية الروسية، والقيصرية، والاستبداد الشرقي (1) ... وإلخ. الأمر الذي يجعل من هذه الكلمة -على ألسنتهم- مجرد صفة إضافية ضمن قائمة بروباغاندا طويلة، لا يصعب اكتشاف ضحالة، بل وغياب أسسها العلمية، وجلاء غاياتها السياسية المباشرة.

(I) ماهي الإمبريالية؟
أولاً: الإمبريالية في كتاب لينين

يعرّف لينين الإمبريالية، في كتابه (الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية- 1916) بخمس صفات هي:
1) تمركز الإنتاج ورأس المال تمركزاً بلغ في تطوره حداً من العلو أدى إلى نشوء الاحتكارات التي تلعب الدور الفاصل في الحياة الاقتصادية.
2) اندماج رأس المال البنكي ورأس المال الصناعي ونشوء الطغمة المالية على أساس «رأس المال المالي» هذا.
3) تصدير رأس المال، خلافاً لتصدير البضائع، يكتسب أهمية في منتهى الخطورة.
4) تشكيل اتحادات رأسماليين احتكارية عالمية تقتسم العالم.
5) انتهى تقاسم الأرض إقليمياً فيما بين كبريات الدول الرأسمالية (2).
يوضّح لينين في (الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية)، كيف أنّ التركز والتمركز الهائلين للإنتاج الصناعي، وما رافقهما من تمركز للثروة، قد أنتجا، لا فيضاً بضاعياً فحسب، بل وفيضاً في رأس المال. هذا الأمر، بتضافره مع "ميل معدل الربح نحو الانخفاض مع تعقد التركيب العضوي لرأس المال"، خلق حاجة لا بديل عنها لمزيد من التمركز وتحطيم المنافسين، وصولاً للاحتكار (الذي أسهمت أزمات فيض الإنتاج، وخاصة أزمتا 1873 و1900، بتسريعه وتعزيزه بشكل كبير عبر تصفيتها لقسم كبير من المنتجين الصغار والمتوسطين). كما أنّ الاحتكار ذاته قد عزز بدوره من فيض رأس المال وانخفاض معدلات ربحه على المستويات الوطنية، ما دفع الأمور نحو ضرورة تصدير رأس المال إلى الخارج، حيث معدلات الربح الأعلى (مواد أولية أرخص ويد عاملة أرخص، وأهم من ذلك كلّه: تطور أدنى في التراكم والتمركز الرأسمالي يسمح بمعدلات ربح أعلى) مع ما تطلّبه ذلك من أدوات استعمارية وصلت في النهاية إلى استكمال اقتسام العالم بين الاتحادات الاحتكارية وبين الدول الكبرى حتى ما قبل الحرب العالمية الأولى، ومن ثم إعادة اقتسامه خلالها، وإعادة اقتسامه مراراً وتكراراً بعد ذلك... ليتحول العالم بأسره إلى منظومة واحدة لها "مركز" إمبريالي ناهب، و"أطراف" تابعة منهوبة...
ثانياً: الإمبريالية اليوم
1- (مركز-أطراف، دولار)
هذه العملية نفسها، تطورت إلى شكل أكثر تعقيداً وتركيباً بعد الحرب العالمية الثانية مع نشوء وتعزيز ميكانيزمات النهب ما بعد التقليدية، أي النهب بصيغته التالية للاحتلال العسكري المباشر (ضمن صيغة الاحتلال العسكري المباشر، كان المطلوب هو وضع اليد على مصادر الخامات، وتوسيع السوق الرأسمالية لتشمل شعوب المستعمرات عبر تحويلهم إلى مستهلكين، وهذه الصيغة هي المكافئة لمرحلة "الرأسمالية التجارية" أو رأسمالية تصدير البضائع، وهي صيغة أبسط بكثير من صيغة الإمبريالية حيث رأس المال المالي وتصدير رأس المال). اكتملت منظومة النهب الجديدة هذه (منظومة الاستعمار الجديد) أواسط ستينات القرن العشرين، وقد نشأت هذه المنظومة بشكلها التاريخي الملموس على التشابك بين عمادين أساسيين:
1- آليات التبادل غير المتكافئ الأربعة الأكثر شهرة (3): (الديون، مقص الأسعار، التبعية التكنولوجية (4) ، هجرة العقول (5)).
2- بريتين وودز: الدولار عملة عالمية، استمرت كذلك حتى بعد إلغائها.
 

 

وإذا كانت كل من آليات التبادل اللامتكافئ، وأزمة الدولار، قد نالتا من البحث والدراسة الكثير، فإنّ ما يجب الإشارة إليه، في هذا المقام، هو طبيعة العلاقة المتشابكة بينهما... ولهذا الغرض فإننا سنتوقف عند الدولار وأزمته قليلاً.
اتفاقية بريتين وودز (تموز 1944)، كإحدى نتائج الحرب العالمية الثانية التي خرجت منها الولايات المتحدة بوصفها أكبر المنتصرين (إذا أغفلنا الجانب السياسي، وركزنا على الجانب الاقتصادي، فيمكننا القول إن الولايات المتحدة كانت المنتصر الأكبر في العالم الرأسمالي)، قد أرست الدولار كمعادل عام على المستوى الدولي إلى جانب الذهب، ولكنها لم تعفه من تغطية نفسه ذهباً.
كشف التاريخ، وكان ديغول بين السبّاقين في إعلان هذا الاكتشاف (وتَحمّل تبعات ذلك الإعلان)، أنّ الولايات المتحدة قد شغّلت ماكينات طباعتها منذ لحظة بريتين وودز دون توقف، وبغض النظر عن المعيار الذهبي. وقد استمرت بهذه العملية، وبتسارع مطرد، حتى بعد إلغائها بريتين وودز (15 آب 1971)، مغطية الدولار بالقوة العسكرية والسياسية.
إنّ هذا الوضع التاريخي الخاص للدولار كنقد، هو وضع غير مسبوق؛ فالدولار لم يعد (مقياساً للقيم، ووسيلة للتداول والاكتناز والدفع، ونقداً عالمياً (6)) فقط، كحال أي عملة أخرى، ولكنّه غدا بضاعة من نوع خاص؛ بضاعة تلعب دور النقد، دور المعادل العام، بشكل قسري، وهي لا تتصف بمواصفات المعادل العام؛ فهي بضاعة احتكارية ينتجها طرف واحد ويطلبها ويحتاجها الجميع (7) ، وفوق ذلك فإنّ محتكرها ينتجها دون تكلفة تقريباً، ويبيعها بقيمتها الاسمية، وبمعدل ربح يصل إلى حدود 70 ألف % (8).
إنّ آليات التبادل اللامتكافئ جميعها، تمر أساساً عبر التجارة الدولية ومؤسساتها المهيمنة، (مثلاً: الديون الناهبة عبر خدمة الدين التي تحوله بشكل مدروس إلى دين غير قابل للسداد، هي اختصاص صندوق النقد الدولي). ولأنّ التجارة الدولية تمر عبر الدولار، فإنّ أصحاب الدولار باتوا يمارسون نهباً مزدوجاً: فهم ينهبون شعوب دول الأطراف من جهة، ويقتطعون أجزاءً هامة من نهب بقية الإمبرياليات لشعوبها وشعوب دول الأطراف. 
إنّ هذا التشابك بين التبادل اللامتكافئ وبين دور الدولار، قد أنتج "شفّاط قيم عالمي" (global value siphon) هو الدولار الأمريكي. وأهم نتيجة من نتائج وجود هذا الشفاط، هي أنّ رأس المال المالي الأمريكي بات رأس مال مالي عالمي مهيمن، يقتطع أرباحاً احتكارية، ليس كشأن رؤوس الأموال المالية الأخرى فحسب، بل ومن هذه الأخيرة أيضاً، بوصفه محتكراً للدولار. وهذه السمة الأخيرة لرأس المال المالي العالمي المهيمن، والناتجة عن التشابك المشار إليه، هي السمة الأبرز في إمبريالية اليوم.

 وبذلك فإن الحديث عن "مركز إمبريالي غربي" بالمعنى الواسع، يقوم بنهب العالم أجمع،

وإنْ كان حديثاً صحيحاً، فإنّ الصحيح أيضاً، أنّه بات هنالك "مركز للمركز" ينهب لا الأطراف فحسب، بل وحلفاءه ضمن "المركز الإمبريالي الغربي على العموم"(9) ، يتمثل بأصحاب ريع الدولار الأمريكي اقتصادياً، وبالدولة الأمريكية كمركز سياسي يمد أذرعه عبر الأمم المتحدة، وحلف الناتو، وصندوق النقد والبنك الدوليين، ومنظمة التجارة العالمية، وغيرها من المؤسسات المالية والسياسية والعسكرية.
بكلام آخر، فإنّ مسألتي "المركز والأطراف" و"عالمية" الدولار، باتتا متشابكتين تشابكاً تاماً مع "الإمبريالية"، وبذلك فإنّ وجود صفة من الصفات الخمسة أو أكثر ضمن دولة من الدول في عالمنا المعاصر، لم تكن، وليست الآن، كافية لتوصيف تلك الدولة بأنها إمبريالية. ففي الوقت الذي ظهرت فيه الخواص الخمسة ضمن دول النادي الإمبريالي، كانت لا تزال في مرحلة نشوئها الأول، ولذا فإنّ مجرد ظهورها كان كافياً –وإلى حد ما- للحديث عن "إمبريالية"، أما لاحقاً فإنها انتشرت بين دول عديدة على امتداد العالم كما سنبين بالأرقام ضمن السياق. ولذلك لم يعد ممكناً القول عن دولة ما إنها إمبريالية لأنّ فيها عمليات تصدير لرأس المال، أو لأن فيها درجات عالية من الاحتكار، أو أن فيها رأس مال مالي مهيمن، أو حتى إذا اجتمعت فيها هذه الصفات مضافاً إليها وجود قواعد عسكرية وسيطرة عسكرية على مساحات أو أسواق خارج حدودها... فاعتماد المعايير والصفات ضمن هذا النمط من "النصوصية"، يسمح مثلاً باعتبار تركيا وإيران و السعودية والهند دولاً إمبريالية، لا هذه فحسب، بل وربما عشرات البلدان الأخرى أيضاً(10) ... ولذلك فإنّ التمييز الفعلي والعلمي اليوم، والمستند إلى لينين، بين "دول المركز الإمبريالي" و"دول المحيط"، ينبغي أن ينطلق لا من وجود الصفات الخمس في الدولة المعنية فحسب، بل ومن طبيعة ذلك الوجود وعلاقته بالسمة المركبة (مركز أطراف- دولار)، ونتيجته النهائية؛ فوجود رأس المال المالي والاحتكارات في دولة ما كوسيلة لنهب تلك الدولة بالذات من جانب دول وبرجوازيات أخرى، مع ترك فتات للبرجوازية المحلية (كما هو الحال في بلدان الأطراف كلها) لا يجعلها "إمبريالية"، على العكس من ذلك، فإنه يجعلها موضوعاً لنهب أكثر وحشية من جانب الإمبريالية.

2- (استعمار قديم + استعمار جديد = ؟)

إنّ واحدة من المغالطات الشائعة، هي الربط المباشر بين الاستعمار والإمبريالية، بل واستخدام المفهومين كمترادفين في بعض الأحيان. والحق أنّ ظاهرة الاستعمار ليست أقدم من الإمبريالية فحسب، بل وأقدم من الرأسمالية نفسها. وإنْ كان إرجاعها إلى ما قبل الرأسمالية مسألة مختلفاً عليها (11)، فمما لا شك فيه أنّ المشترك بين الاستعمار في بدايات الرأسمالية، وبين الاستعمار ما قبلها، هو استهدافه وضع اليد، عبر السيطرة المباشرة، وبالقوة العسكرية، على ثروات شعوب أخرى: (يتضمن ذلك المعادن الثمينة ومختلف أنواع المواد الخام التي كانت ذات منفعة حسب كل عصر، وصولاً إلى نهب منتجات الشعوب المستعمرة الزراعية أو الحرفية...).
إنّ الاستعمار المباشر هذا، يدخل طوراً جديداً مع الرأسمالية، فقط حين يبدأ "مدفعها البضاعي" (12)  بالعمل، عبر اكتسابه (أي الاستعمار) مهمة نوعية أضيفت إلى مهامه السابقة، لم تكن له سابقاً، هي توسيع السوق الرأسمالية للخروج من أزمات فيض الإنتاج، عبر تحويل شعوب المستعمرات إلى مستهلكين لبضائع يصدرها لهم المستعمِر.
استمر الاستعمار المباشر، أو القديم، بصيغته المزدوجة هذه: (نهب ثروات- تصدير بضائع)، حتى نهايات القرن التاسع عشر وبدايات العشرين، والدخول في المرحلة الإمبريالية. مع الدخول في المرحلة الإمبريالية، بدأت تضاف إلى الوظيفتين السابقتين، وظيفة تصدير رأس المال لبعض المستعمرات، وقد عكست ذلك بوضوح عالٍ، أرقام بريطانيا بشكل خاص (13). ولعل هذه المرحلة بالذات، أي العقود الثلاثة الأخيرة من القرن التاسع عشر، هي التي شهدت البذرة الأولى في تكون منظومة الاستعمار الجديد(14) .

مع ثورة أكتوبر، ونشوء الاتحاد السوفياتي، وانتصاره في الحرب العالمية الثانية، بدأت منظومة الاستعمار القديم بالتفكك السريع، وحاز عدد كبير من المستعمرات الاستقلال السياسي. وبعد مرحلة "فراغ استعماري" قصيرة، اكتمل بناء منظومة الاستعمار الجديد neo-colonialism أواسط الستينات . ارتكز الاستعمار الجديد إلى آليات نهب غير مباشرة، إذ لم يعد ممكناً بوجود الاتحاد السوفياتي، وبتصاعد حركات التحرر الوطني في بلدان "العالم الثالث"، وظهور السلاح النووي لدى الطرفين (16) ، استمرار أشكال الوجود العسكري، احتلالاً أو انتداباً. تمثلت آليات النهب غير المباشر، بالآليات الاقتصادية الأربعة المشار إليها آنفاً.
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وتسليع جزء من الدولار المتضخم عبر نهبه، لم يلبث التضخم هذا أن انكشف بسرعة كبيرة، وجرت عملية تحويل عاصف في دور البورصة أواسط التسعينات(15)، انقلبت بموجبها المضاربة من ظاهرة ثانوية إلى ظاهرة أساسية ضمن عملها (17)؛ وبذلك فإنها اشتغلت على زيادة سرعة دوران النقد محاولة إخفاء التضخم (18). وحتى هذه العملية لم تنفع، فانطلقت الولايات المتحدة –ورافقتها الدول الإمبريالية الأخرى- عام 2001 في موجة استعمارية جديدة تحت مسمى "الحرب على الإرهاب".

شكلت الموجة الجديدة ما يشبه عملية (نفي نفي) للتاريخ الاستعماري: عملية تركيب بين القديم والجديد ، تستعيد عناصر من جوهر القديم مضيفة إليها عناصر من الجديد (19) مع تطور كمي كبير، حيث عاد وضع اليد المباشر بالقوة العسكرية، مضافاً إليه استمرار آليات النهب غير المباشر؛ لتكتسب الإمبريالية في عصرنا الراهن مظهراً جديداً هو استعمار ما فوق جديد (20).
إنّ هذا المظهر الاستعماري الحربي الجديد للإمبريالية، واستكماله بجملة حروب بينية تسهم فيها وتديرها الدول الإمبريالية، وتشكل بمجموعها (حرباً عالمية مصغرة)، لا يعكس خصائص الحرب التقليدية ما قبل الإمبريالية للسيطرة على المستعمرات ونهب ثرواتها وتوسيع الأسواق، ولا يعكس خصائص الحرب المباشرة بين الإمبرياليات بغرض إعادة تقسيم العالم فيما بينها، بل يعكس هذه وتلك معاً، وضمن تركيبهما؛ فلجهة التوسع، فإنّه يعكس محاولة توسع جديدة ولكن عمودياً لا أفقياً، فليس من أفق للتوسع فيه. والتوسع العمودي بهذا المعنى ليس تشديداً للنهب وتعظيماً له فقط، بل هو قبل ذلك تدميرٌ للقوى المنتجة التي وصلت من الضخامة والتطور حداً لم يعد ممكناً معه استمرار علاقات الإنتاج القائمة، أي أنّ التوسع العمودي هو التطبيق الفعلي للنيومالتوسية (21) . وأما لجهة إعادة التقاسم، فإنّ عمق الأزمة التي تعيشها الرأسمالية العالمية، والتي تعصف هذه المرة بمركزها بالذات، يرفع مستوى الفتك ضمن الدول الإمبريالية إلى حدوده القصوى، ولكنّ ذلك الفتك يتجلى في إشعال (حروب الآخرين) وتوسيعها بلا هوادة، وفي استحضار شياطين الفاشية الصفراء وتغذيتها بلا انقطاع (22).
إنّ التعامل مع الإمبريالية، (ضمن الظرف الملموس)، لا يمكن أن يغفل بأي شكل من الأشكال، المظهرين/ السمتين السابقين.

(II) هل روسيا إمبريالية؟

قبل أكتوبر 1917، كانت روسيا جزءاً من النادي الإمبريالي العالمي. صحيح أنّها كانت الجزء الأكثر تخلفاً، ولكنّها كانت جزءاً منه مع ذلك. مع أكتوبر، وكسر الحلقة الأضعف، وخروج روسيا من النادي، ومن ثم نشوء الاتحاد السوفياتي ومنظومة الدول الاشتراكية، والتي شكلت بمجموعها إحدى تمظهرات (الأزمة العامة) (23)  للرأسمالية، حيث نأى الاتحاد السوفياتي، بقسم من الخريطة العالمية، وبشكل غير مكتمل (24)، عن منظومة النهب الإمبريالية، بل وسبّب تخفيضاً اضطرارياً لمعدلات النهب ضمن بلدان المركز الإمبريالي (25)، ومن ثم مع انهيار الاتحاد السوفياتي، بدأ البعض ينظّر لعودة روسيا (بالضرورة) إلى النادي نفسه، بل إنّ حجة بعض هذا البعض في تلك العودة، هي على قدر من السذاجة نادرة الحدوث (26).
وفيما يلي، سنناقش مدى انطباق سمات الإمبريالية الخمسة على روسيا المعاصرة...

أولاً: الاحتكار

تحتل الشركتان الروسيتان: Gasprom وRosneft، المركزين 53 و75 على التوالي، ضمن قائمة فوربس (27) لأكبر 2000 شركة في العالم لعام 2016، وهما شركتان تعود ملكيتهما الأساسية للدولة الروسية. وبالمجمل فإنّ القائمة ككل تحوي 25 شركة روسية فقط، قريباً من البرازيل التي لها 19 شركة، وأقل بشكل ملحوظ من الهند التي تضم 56 شركة من المجموع العام... ولا مجال أبداً لمقارنة هذه الأرقام مع أرقام الولايات المتحدة أو الصين أو فرنسا أو بريطانيا...
بكل الأحوال فما ينبغي التنبه إليه هنا لا هذه الأرقام فحسب، بل جملة النقاط التالية أيضاً:
* الشركات الاحتكارية الكبرى لم تعد محصورة ضمن دول المركز الإمبريالي منذ أمد بعيد، فحتى ضمن (دول الأطراف) فإنّ طبيعة التطور بسيرورته الداخلية وعلاقاته التبعية مع المركز، قد أدت إلى نشوء درجات عالية من الاحتكار؛ حتى إنّ الحديث عن الاحتكار ودرجاته بات مسألة بديهية في دول العالم قاطبة، ولذلك فإنّ السمة الإمبريالية لم تعد مرتكزة إلى وجود الاحتكار فقط، بل وإلى حجمه ووزنه ضمن العالم، وأيضاً إلى طبيعته التي سنعرض لها جزئياً في النقطة التالية.
* إنّ أكبر احتكارين روسيين، إذ يشغلان المركزين 53 و75 على المستوى العالمي، فإنهما فوق ذلك احتكاران من طبيعة محددة: استخراجية. وبكلام آخر فهما احتكاران قائمان على تصدير بضائع خام، وهما احتكاران "تبعيّان" ومتخلفان من زاويتين مترابطتين: فهما يصدران بضائع لا رؤوس أموال (كما تفعل الاحتكارات المصرفية والمالية مثلاً)، وفوق ذلك فالبضائع التي يصدرانها هي بضائع تحتوي على قدر ضئيل جداً من القيمة المضافة، أي أن تصديرها هو جزء من علاقة التبادل اللامتكافئ الذي تخسر فيه روسيا لمصلحة الدول التي تستورد تلك الخامات لتستكمل تصنيعها وتعيد بيعها بأسعار أعلى بكثير، كحال صادرات دول الأطراف جميعها. (سنذكر بعض الأرقام بهذا الخصوص حين نناقش تصدير رأس المال).
* الشركات الاحتكارية الكبرى في روسيا، هي شركات مملوكة بقسمها الأكبر من الدولة الروسية، نتكلم بشكل أساسي عن النفط والكهرباء وشبكات الغاز وسكك الحديد، وهي احتكارات لم تنتج عن تطور عفوي للمزاحمة الرأسمالية على غرار الاحتكارات الغربية، بل هي احتكارات ورثتها روسيا عن التخطيط الاشتراكي السوفياتي. هذه الاحتكارات التي وضع النادي الإمبريالي الغربي، ومركزه الأمريكي خصوصاً، مهمة خصخصتها نصب عينيه، لا من أجل "رفع الفاعلية الاقتصادية"، وليس من أجل "العدالة الاجتماعية ومحاربة الاحتكار" بطبيعة الحال، بل لضرب الأساس المادي لوحدة روسيا وتفتيتها، وصولاً إلى استكمال عمليات النهب الكبرى التي سبقت الانهيار بقليل ورافقته وتلته طيلة سنوات التسعينات، خاصة وأنّه "من غير العدل(28)"  أنّ ثروات روسيا الباطنية التي تقدر بأربعين بالمئة من إجمالي الثروات الباطنية في العالم مملوكة من بلد واحد، إلى جانب أنّ تسليع جزء من الدولار المتضخم عبر السيطرة عليها، كفيل بتأجيل بحث وضع الدولار عقداً أو عقدين من الزمن، وكفيل إذاً بإخراجه مؤقتاً من أزمته القاتلة... إنّ أولئك الذين يصفون روسيا اليوم بأنها "دولة مافيوزية" قد تأخروا قليلاً بتوصيفهم هذا، تأخروا حوالي 20 عاماً فقط! فروسيا حُكمت من المافيات حقاً خلال فترة التسعينات، وكانت مهمة هذه المافيات رقم1 خصخصة قطاع الدولة الروسي الضخم. ولكن الخصخصة هذه لاقت ممانعة شديدة من داخل جهاز الدولة نفسه ومن المجتمع، وتفسير هذه الممانعة المركبة والمعقدة يرتكز إلى عوامل عديدة، لا شك أن من بينها: (1- طبيعة البنية الفوقية التي سادت روسيا طوال 70 عاماً، البنية المرتكزة إلى مفاهيم العدالة الاجتماعية، وإلى الاستقرار الطويل لحقوق التعليم المجاني والطبابة وغيرها حتى باتت حقوقاً بديهية بالنسبة للروس، وغدا التراجع السريع عنها مسألة شديدة الخطورة على أي سلطة تقوم بذلك التراجع، بما يهدد بعودة سريعة لـ"شبح الشيوعية". 2– جهاز الدولة الروسي: بعد الثورة المصرية وإزاحة مبارك بست سنوات، بات من غير المستهجن القول بأنّ الأنظمة السياسية للدول لا تتغير كلياً وببساطة، لأن السلطة قد تم الإطاحة بها؛ فالمصريون اليوم باصطفافاتهم المختلفة، ومتابعو المشهد المصري كذلك، متفقون إلى حد بعيد على أنّ عملية "تطهير النظام" أو "تغييره" أو أياً كان اسمها، لا تزال قائمة. على المنوال نفسه، فإنّ "النظام السوفياتي" الذي استمر 70 عاماً، لم يختف من الوجود بمجرد الإطاحة بالسلطة، وكي لا يصطاد أحد معاتيه "اليسار" بهذه النقطة، فإننا لا نعني أن بوتين أو مجموعته هم من الشيوعيين، أو أنّ روسيا الآن "ليست رأسمالية وأنها هي ذاتها الاتحاد السوفياتي"، ولكننا نعني بالضبط أنّ أثر وقوة الأفكار والتقاليد الشيوعية في روسيا، لم يختفيا بسقوط الاتحاد السوفياتي، بل لا يزالان قوة مؤثرة داخل روسيا (29) . 3– طبيعة الدولة الروسية، بمساحتها الهائلة وثرواتها الكامنة، وبالتعدد الهائل في أعراقها وأديانها وطوائفها، وبطبيعتها المناخية القاسية، تجعل من استمرارها كدولة واحدة، أمراً مرهوناً لا بجهاز دولة قوي فحسب، بل وبقطاع دولة ضخم وقادر على تأمين الخدمات التي ترقى (في الظرف الروسي الخاص) إلى مستوى خدمات "حفظ النوع"! مثلاً شبكات التدفئة الروسية هي الأكثر ضخامة وتعقيداً في العالم بأسره، يضاف إلى ذلك شبكات المواصلات والكهرباء والتصريف الصحي. والتخلي عن هذه القطاعات يعني انهياراً مباشراً للدولة الروسية، ورغم ذلك فإنّ منع عملية الخصخصة وحده ليس كافياً للحفاظ على روسيا موحدة، بل إنّ وجود حد أدنى ضروري من العدالة الاجتماعية هو أيضاً شرط ملزم لبقاء هذه الوحدة).
إنّ الممانعة التي واجهت المافيوزات التي قادت عملية الانهيار واستلمت مفاصل ضمن السلطة بعدها، بالتعاون والتنسيق مع المركز الغربي، إنّ هذه الممانعة قد تطورت وحسمت الأمر مع وصول فريق بوتين إلى السلطة رسمياً، أي أنّ من يصفون النظام الروسي اليوم بأنه "مافيوزي" هم بالذات الأكثر حزناً وتفجعاً على عمليات ضرب المافيات الحقيقية التي حاولت أخذ روسيا باتجاه تذريرٍ لا رجعة عنه... ولعل الجانب الأكثر سخرية في المسألة، هو أنّ روسيا حين نهضت للدفاع عن وحدتها ولمنع تفتيها وابتلاعها من المركز الإمبريالي، بدأ "يساريون" أوروبيون بالنعيق: روسيا المافيات والاحتكارات! روسيا الإمبريالية! روسيا الاستبداد الشرقي والدكتاتورية! وهم أنفسهم الذين لم يخفوا سرورهم مطلع التسعينات بأن: "الديكتاتورية الستالينية وصلت إلى نهاياتها المنطقية"! وفي منطقتنا أيضاً، لم نعدم (حتى الآن) وجود عدد من "اليساريين" الذين رددوا أقوال الأوروبيين بشكل ببغائي في الحالتين.

ثانياً: رأس المال المالي

ذكرت "كريدي سويس" في كتاب المعطيات databook العالمي للثروة لعام 2016 (30)، أنّ حصة الفرد الروسي البالغ، من الأصول المالية، سجلت في منتصف عام 2016 رقماً قدره 2.197 ألف دولار. في البرازيل، بلغ الرقم 7.936، وفي اليونان 26.886، وذلك بفرق هائل عن أرقام دول المركز... نذكر هنا مثلاً (الولايات المتحدة 287.782 ألف دولار للفرد البالغ أي ما يصل إلى 130 ضعف الرقم الروسي، بريطانيا 176.940، فرنسا 107.953، اليابان 160.084، ألمانيا 87.328).
تضم قائمة أكبر 100 بنك في العالم تبعاً لحجم أصولها المالية لعام 2016، والتي أصدرتها (Relbanks) (31) بنكاً روسياً واحداً هو Sberbank وترتيبه هو 69 بأصول تبلغ 404 مليار دولار. ضمت القائمة مثلاً: بنكين لسنغافورة، 5 للبرازيل، 6 لكوريا الجنوبية... وأصول البنك الروسي تبلغ حوالي عُشر أصول البنك الأول: (البنك الصيني للزراعة والصناعة، وهو بنك حكومي) وخُمس أصول البنك العاشر (japan post bank).

  

 

وفقاً للدراسات والتقارير المتعلقة بأحجام البورصات العالمية وحصتها من إجمالي التداول (32)، فإنّ إجمالي حجم التداولات في البورصات العالمية هو حوالي 69-70 ترليون دولار. حجم التداولات في بورصة موسكو هو 447 مليار دولار، أي أن حجم روسيا ضمن البورصة العالمية هو 0.0064 أو 0.64% أي أقل من 1%... بالمقابل فإنّ حجم الولايات المتحدة وحدها هو 40%. ولا يمكننا بطبيعة الحال أن نجد بورصة موسكو ضمن أكبر 16 سوق تداول مالي حول العالم (33).

 

 

نضيف إلى الأرقام السابقة ما يلي:
* مع انهيار الاتحاد السوفياتي، افتتحت في روسيا آلاف البنوك الصغيرة والمتوسطة، والتي ملك جزءاً منها مافيوزيون روس، إضافة إلى كون الملكيات الأساسية هي للبنوك الغربية وفروعها. عمليات "افتتاح البنوك" الكرنفالية والاستعراضية والواسعة، هي نذير الشؤم والعلامة التي باتت معروفة ضمن طريق اللبرلة "المزدهر"، والذي باتت دول كثيرة في العالم تعرفه جيداً، حتى نحن في سورية نعرفه وعايشناه بشكل جيد في "فترة الانفتاح" التي شكلت عاملاً أساسياً فيما وصلنا إليه. في عام 2015 قام البنك المركزي الروسي بإغلاق العديد من البنوك المشتغلة في روسيا ومن بينها مساهمون كبار ضمن "الصناعة البنكية" في روسيا (34)، بناء على معطيات تتعلق بغياب الشفافية، وغسيل الأموال، والفوائد المرتفعة لقروض سيئة... وغيرها من الممارسات التي سادت عمل هذا القطاع خلال التسعينات.
* إنّ تخلف القطاع المالي في روسيا، الظاهر في إسهامه المنخفض نسبياً في مجمل الحياة الاقتصادية، ليس انعكاساً مباشراً لتخلف الرأسمالية في روسيا فحسب، بل وهو نتيجة مباشرة لسبعين عاماً هي عمر الاتحاد السوفياتي... خلال كامل الحقبة السوفييتية، بقيت الأدوات المالية بأنواعها المختلفة ضعيفة ضمن الاقتصاد الروسي، وهذا العمل كان مقصوداً ضمن "التخطيط الاشتراكي"، الذي وضع روسيا على طريق تطورية مختلفة عن الطريق الرأسمالي التقليدي... إذ إنّ جزءاً من التخطيط الاشتراكي قد قام على محاولة حل مسألة "التبادل البضاعي" وصولاً إلى "التبادل اللابضاعي" مع أنّ هذا لم يكن مصاغاً بهذه الطريقة... في "الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية" يوضح لينين أن التطور والتنامي والاندماج المستمر لرأس المال المصرفي والصناعي، يجعل من البنوك مؤسسات ذات "طبيعة عالمية بحق". وهذا ما لم تصل إليه البنوك الروسية بحال من الأحوال.

ثالثاً: تصدير رأس المال

في المرحلة الإمبريالية، يتحول النشاط الأساسي لرأس المال، من تصدير البضائع إلى تصدير رأس المال. ينتج ذلك كما أسلفنا عن فيض رأس المال، وعن ميل معدل الربح نحو الانخفاض على المستوى الوطني. وهذا الأمر لا يعني بطبيعة الحال التوقف عن تصدير البضائع، ولكنّه يعني بالتأكيد أنّ النسبة العظمى من البضائع التي يتم تصديرها، هي البضائع ذات القيم المضافة العالية، أي البضائع عالية التصنيع... ويجري تعظيم الربح في عمليات تصدير البضائع لا لأنها عالية التصنيع فقط، بل لأن تصديرها يتم ضمن معادلات التبادل اللامتكافئ.
وفقاً لإحصاءات UNCTAD (مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية) (35)، فإن مجموع الأصول الروسية خارج روسيا عام 2014 (FDI outward stock) بلغت 258 مليار دولار، بنسبة 1% من مجموع الأصول الموجودة خارج بلدانها في العالم. أما الولايات المتحدة فقد بلغت أصولها في الخارج حتى 2011، 25% من الإجمالي العالمي، وأوروبا 51%. 
ووفقاً للمنظمة نفسها، فقد بلغ الاستثمار الروسي في الخارج عام 2011 مقدار 362,101 مليون دولار، في حين بلغت الاستثمارات الأجنبية في روسيا 457,474 مليون دولار؛ أي أنها تسجل عجزاً في الاستثمارات الأجنبية قدره 95,373 مليون دولار حتى عام 2011، وبكلام آخر فإن روسيا بالمحصلة هي بلد مستورد صافٍ لرأس المال، وليس مصدراً له.
بالمقابل بلغ حجم الاستثمارات الأجنبية للولايات المتحدة الأميركية وأوروبا في الخارج في عام 2011 على التوالي 4,499,962 مليون دولار 10,443,870 مليون دولار، أي أن حصتهما معاً من الاستثمار الأجنبي الخارجي في العالم شكلت 70.6% من حجم الاستثمارات الأجنبية في العالم على أنهما مصدّرين صافيين لرأس المال (36).

 

 

 

وإلى الأرقام السابقة نضيف ما يلي:
* إنّ السمة الثالثة من سمات الإمبريالية وفقاً للينين، لا تتعلق بتصدير رأس المال فحسب، بل وبتحول هذا التصدير إلى النشاط الأساسي بدلاً عن تصدير البضائع. ولذلك فإنّ تشكيل مشهد أفضل لهذه السمة يستوجب مروراً على بعض خصائص تصدير البضائع في روسيا.
* بلغت صادرات روسيا عام 2015، 331 مليار دولار (37) ، بمقابل 1510 مليار دولار صادرات الولايات المتحدة (38) ، و460 مليار دولار صادرات بريطانيا (39) . لكنّ العبرة ليست في الفرق الكمي بين هذه الأرقام فقط، بل وأهم من ذلك، بالفرق النوعي: ضمن أهم صادرات روسيا لعام 2015: (50.6% نفط، 4.5% حديد وفولاذ، 2.1% ألمنيوم، 2.2% أحجار كريمة ومعادن ثمينة، 1.8% خشب) أي أنّ أكثر من 61% من صادرات روسيا هي من المواد الخام، بمقابل 11% في الولايات المتحدة و18% في بريطانيا.

 

* إنّ الأرقام السابقة لا تدلل على تخلف روسيا رأسمالياً فحسب، بل وتدلل أيضاً، وضمن علاقات التبادل اللامتكافئ السائدة في العالم، أنّ روسيا لا تزال خاضعة لعملية نهب واسع لمواردها باتجاه بلدان المركز الإمبريالي.


رابعاً: اقتسام العالم بين الاحتكارات

أشرنا سابقاً إلى إحصاءات فوربس 2016 لأكبر 2000 شركة حول العالم، ونفصّل هنا أن بينها: (25 شركة روسية، 19 برازيلية، 21 سعودية، 56 هندية، 53 كندية، 61 فرنسية، 50 ألمانية، 92 بريطانية، 200 صينية، و540 أمريكية...).

 

وإذا كنا قد أشرنا سابقاً إلى أن أكبر الاحتكارات الروسية تتمثل بشركتي النفط بشكل أساسي، فقد شكلت الحصة السوقية (40) لروسيا ضمن سوق النفط العالمي عام 2015 قرابة 12.4%، وذلك بعد الولايات المتحدة الأمريكية والسعودية اللتين تسيطر كل منهما على 13% من السوق العالمية. وهذه البضاعة الوحيدة تقريباً، مضافاً إليها السلاح (الذي سنناقشه ضمن الفقرة التالية)، التي يمكن القول إن روسيا تشكل رقماً جدياً فيها ضمن السوق العالمية، وعدا ذلك فإنّ حصتها بالنسبة للبضائع الأخرى تهمل لصغرها...

 

خامساً: اقتسام العالم بين الدول الكبرى

وفقاً للتقارير الدولية، تملك روسيا 9 قواعد عسكرية خارج حدودها، الهند 6، تركيا 4، ألمانيا 2، فرنسا 11، إيطاليا 2، بريطانيا 17، والولايات المتحدة 800 قاعدة (41).
عام 2015 كانت الحصص الأساسية من تصدير السلاح عبر العالم هي على الشكل التالي (42) : (31% الولايات المتحدة، 27% روسيا، 5% الصين، 5% ألمانيا، 5% فرنسا، 4% المملكة المتحدة، 3% إسبانيا، 3% إيطاليا، 3% أوكرانيا، و2% "إسرائيل").
 

 

الإنفاق العسكري لدول الناتو عام 2014، بلغ عشرة أضعاف مجموع إنفاق روسيا والصين العسكري (43).
السمة الخامسة من سمات الإمبريالية، لها طبيعة جغرافية- سياسية- اقتصادية مركبة؛ فهي تشير إلى الشكل السياسي للدولة وإلى مساحتها الجغرافية وسكانها، كأداة بيد الاحتكارات وظيفتها حماية هذه الاحتكارات، وتوسيع حصتها الجغرافية- السياسية وتالياً الاقتصادية، إن أمكن. ونقطة الانطلاق في هذه "السمة" هي القول "إن وظيفة الحد الأدنى للقوة العسكرية الروسية هي الدفاع عن الاحتكارات الروسية" وكنا وضحنا سابقاً أن هذه الأخيرة التي تتمركز بيد قطاع الدولة، والموروثة عن الاتحاد السوفياتي، هي عامل حاسم في بقاء روسيا موحدة ومنع تفتيتها إمبريالياً، وأما نقاش "الحد الأعلى" فنتركه للقسم الأخير من مقالنا هذا والذي سنناقش فيه (هل تسعى روسيا لتكون إمبريالية، وهل يمكنها؟) أما هنا فنضيف الأفكار التالية:
* إنّ القواعد العسكرية الروسية هي بمعظمها ميراث عن الاتحاد السوفياتي، أي أنّ هذه القواعد لم تتشكل على أساس (تطور إمبريالي) كما هو الحال في دول المركز.
* وإذا كان الاستناد في توصيف الإمبريالية هو إلى وجود القواعد العسكرية، فعلينا أن نحسب تركيا –مثلاً- دولة إمبريالية، وكذلك الهند بقواعدها العسكرية الستة (44)...
* روسيا "تجتاح العالم مروّجة لسلاحها"، وسورية ليست أكثر من "معرض حي لتجارب السلاح الروسي"، هكذا يكتب ويصور ويقول الإعلام الغربي يومياً، وتكرر من ورائه ببغاوات "اليسار" الأوروبي والعربي. ولكن فلنحتكم إلى الأرقام لنتبين مدى جدية هذه الأقوال:
بلغت صادرات روسيا من السلاح عامي 2014، و2015 على التوالي (13 و15.2 مليار دولار)، وتقديرات 2016 هي بحدود 15 مليار أيضاً (45)؛ أي أنّ مبيعات السنوات الثلاثة الأخيرة هي بحدود 43.2 مليار دولار. وبطبيعة الحال فهذا هو رقم المبيعات لا رقم الأرباح... ولكن فلنفترض جدلاً (ومراعاةً لـ"مناهضي الإمبريالية الروسية") أنّ هذا الرقم كله أرباح! ولنسأل: ما التكلفة؟
قدرت شركة (The Economic Expert Group) خسارة روسيا خلال الفترة 2014-2017، جراء (حرب النفط) والعقوبات الاقتصادية بـ(600 مليار دولار) (46)  أي حوالي 14 ضعف رقم مبيعات (وليس أرباح) السلاح! هل من داعٍ لإضافة أي كلمة بعد هذا الرقم؟
 

* وبما أنّ عقول "المناهضين" المشار إليهم، هي عقول "جيوستراتيجية من طراز فائق"، فإنّ سقوط فكرة "إمبريالية تجارة السلاح" لن تمنعهم من القول بأن روسيا "تجتاح سورية، لا من أجل السلاح وحده، بل وطمعاً بالمكتشفات الغازية والنفطية في المتوسط"، ومرة أخرى: هل خَطَرَ لأصحاب هذا القول أن يطرحوا السؤال البسيط التالي: إذا كانت روسيا تمتلك 40% من ثروات العالم الباطنية، (تمتلكها، أي أنّ تكلفتها بالنسبة لها هي صفر)، وتحتاج عشرات السنين لكي تستخرجها، فأي جنون ذاك الذي سيدفعها إلى محاولة السيطرة، على الثروات الباطنية لدول أخرى، عبر دفع تكاليف مهولة: سياسية واقتصادية وعسكرية من فئة مئات مليارات الدولارات؟ (47)

ملخص أولي:

إنّ ما ظهر معنا من الاستعراض السابق، هو أنّ أرقام روسيا في مجال السمات الخمسة تستعصي بذاتها عن التوصيف الإمبريالي:
فأي بلد إمبريالي ذاك الذي تشكل المواد الخام 61% من صادراته؟
وأي بلد إمبريالي ذاك الذي تعلنه الأرقام مستورداً صافياً لرأس المال، لا مُصدِّراً؟
أي بلد إمبريالي ذاك الذي لا يشترك بالسيطرة على السوق العالمية سوى ببضاعتين (النفط والسلاح) من بين مئات البضائع الأساسية؟
رغم ما سبق، فإنّه ربما يكفي -إذا أراد المرء التعامل مع نصوص لينين بوصفها نصوصاً مقدسة- أن تَسقط صفة الإمبريالية عن دولة ما، بمجرد أن تسقط أي من السمات الخمسة... وعلى العكس أيضاً، يمكن إثبات إمبريالية دولة ما استناداً إلى تقديس النص، بالقول: يوجد احتكار، يوجد رأس مال مالي، يوجد تصدير رأس مال، توجد حصة ما من السوق العالمية، وهنالك محاولات أو نوايا لإعادة اقتسام العالم، وبالتالي فالدولة المعنية هي دولة إمبريالية.
إنّ الاستناد الجامد إلى لينين، لا يجعل من روسيا إمبريالية فحسب، بل بإمكاننا قول الشيء نفسه عن الهند وماليزيا وتركيا واليونان وغيرها، ولمن لديه بعض الوقت الفائض، وله "مزاج" بهذه "اللعبة"، فإنّنا ندعوه –على سبيل المناكفة- إلى إثبات أنّ الهند إمبريالية (مثلاً)، ونتعهد له بأن الأمر سيكون غاية في السهولة، بل إن الأرقام ستخدمه بطريقة أفضل بكثير مما في مسألة روسيا؛ فأرقام روسيا ضمن السمات الخمس، مستعصية على "التوصيف الإمبريالي" مهما حاول المرء تطويعها.
ولأن من يهمنا النقاش معهم هنا، كما أشرنا في البداية، هم الماركسيون- اللينينيون الفعليون، (لا أولئك الذين يلجؤون إلى النصوص الماركسية بوصفها "مؤلفات أدبية" يستشهدون باقتباسات منها ليزيّنوا أفكارهم المسبقة والمحددة الوجهة بالمعنى السياسي)، فإننا لم نكتف بـ"سد الذرائع"، بل إنّ منطق نقاشنا بأكمله مبني على فكرة "الإمبريالية اليوم" لا "الإمبريالية في كتاب لينين"، وأي تعامل بغير هذه الطريقة لا يمت للماركسية بأية صلة.
إنّ الإمبريالية اليوم، قد غدت اندماجاً بين الصفات الخمسة، وبين الشكل الملموس والمعاصر لتمظهرها، والمستند إلى عمادين أساسيين هما: (1- الاستعمار الجديد، أو الاستعمار الاقتصادي المبني على آليات التبادل اللامتكافئ، ضمناً مقولة مركز- أطراف. 2- الدولار ومؤسساته، كأداة لنهب العمل العالمي). إنّ القفز فوق هذه الحقيقة الملموسة، كفيل بصياغة أكثر المواقف السياسية رجعية تحت مسميات "التقدم، الثورة، الاستناد إلى لينين" وغيرها، وهو ما سنوضحه في النهاية. ولكن لننتقل الآن إلى الشق الثاني من نقاشنا...



(III) هل تسعى روسيا لتكون إمبريالية؟ وهل يمكنها؟

إذا كنا قد أثبتنا فيما سبق أنّ الحديث عن "روسيا إمبريالية" ليس أكثر من هراء باسم الماركسية وباسم لينين، فسوف ننتقل هنا لنقاش أكثر صعوبة؛ لأنّه نقاش لا حول الحاضر فقط، بل وحول المستقبل أيضاً...
ولأننا لا يمكن أن نستند إلى النوايا، فإننا نستند إلى سوئها! ولذلك فلنفترض أن روسيا تسعى لأن تصبح إمبريالية، ولنناقش ما تفعله، وما يمكنها فعله ضمن هذا الإطار...

طبيعة الأزمة الرأسمالية اليوم

إنّ فهم موقع روسيا والصين، ودول الأطراف الصاعدة عموماً، من الصراع الدولي الجاري، لا يمكن أن يتحقق دون فهم طبيعة الأزمة التي تعيشها الرأسمالية، وكيلا نرهق القارئ بسرد طويل حول هذا الموضوع، فإننا نحيله إلى دراستنا المنشورة في مجلة الطريق اللبنانية، العدد الثالث، بعنوان (الأزمة الرأسمالية العظمى، هل من مخرج)(48) ، ونكتفي هنا بسرد بعض من السمات الأساسية للأزمة الراهنة:

1- انتهاء عملية التوسع الأفقي (49) والانتقال نحو التوسع العمودي:

كان التوسع الأفقي جزءاً أساسياً ضمن ميكانيزم خروج الرأسمالية من أزماتها السابقة؛ فهو يحل مؤقتاً مشكلات الفائض (التي تركزت في البداية بالفائض البضاعي، ثم فائض رأس المال، ولاحقاً فيض سلاح ودولار). ولكنّ عملية التوسع هذه قد تباطأت بعد الحرب العالمية الثانية، لأنّ الأجزاء الباقية غير المترسملة من الأرض باتت قليلة جداً. أخذت عملية التوسع الأفقي نفساً قصيراً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي عبر الامتداد على مساحته. ولكنها منذ نهايات التسعينات، توقفت كلياً؛ إذ لم يعد هنالك بقعة على سطح الأرض خارج النطاق الرأسمالي (50). يضاف إلى ذلك أنّ حجم التوسع الأفقي الضروري بالنسبة للرأسمالية للخروج من أزمتها، يتعلق أساساً بحجم تلك الأزمة؛ ولذا فإنّ وجود بعض المساحات غير المرسملة هنا أو هناك –افتراضاً-، ليس كافياً للخروج من الأزمة الحالية التي تبلغ مؤشراتها أضعاف مؤشرات أزمة 1929(51). وبناء عليه، فإنّ عملية التوسع الأساسي باتت عمودية: (تدمير القوى المنتجة بالوسائل المباشرة وغير المباشرة، ضمناً تعميق النيوليبرالية، والنيومالتوسية، وتصنيع الفاشية الجديدة)، وإنّ قائد هذه العملية ليس إلا رأس المال المالي الإجرامي العالمي (52).

2- لا وجود لمركز إمبريالي بديل:

إنّ التشابك الذي عرضنا له، بين آليات الاستعمار الجديد من جهة، وبين الدولار كعملة عالمية، إضافة إلى انتهاء التوسع الأفقي، تنتج أنّ العالم بأسره بات منظومة واحدة مأزومة، وإنّ الظهور "الافتراضي" لمركز إمبريالي بديل، لم يعد مسألة "سياسة قومية" خاصة بدولة من الدول، بل هو مسألة اقتصادية وسياسية عالمية، تخضع لمفاعيل الأزمة ذاتها التي يخضع لها المركز الإمبريالي القائم.
3- أيّ نمو لاحق على المستوى العالمي أصبح محكوماً بإعادة توزيع الثروة (53):
إن جوهر الرأسمالية كظاهرة اجتماعية وفقاً للماركسية هو أسلوبها في الإنتاج، ذلك الأسلوب الذي تمثّل فيه القوى المنتجة جانب المضمون في حين تلعب علاقات الإنتاج دور الشكل الذي يحدد العلاقة بين مكوّنات المضمون. وكما هو الحال مع أية ظاهرة مادية أخرى، فإن الرأسمالية تبقى قابلة للحياة طالما يسمح شكلها لمضمونها بالتطور، أي طالما تسمح علاقات الإنتاج للقوى المنتجة بالتطور. وتطور القوى المنتجة المتنامية لا يمكن أن يتحقق بغير ازدياد مضطرد في الإنتاج، أي في أرقام النمو (الحقيقية)، وإذا أضفنا إلى ذلك عامل توزيع الثروة الذي ينتمي إلى الشكل (إلى علاقات الإنتاج) لأصبح من الواضح أن التمركز المطرد والمتسارع للثروة يحتاج في المقابل إلى ازدياد ليس مطرد وفقط، وإنما إلى ازدياد أسيّ في الثروة، ولما كانت أرقام النمو في بلدان العالم المختلفة اليوم هي ما نراه، فإن أعلاها وما ينتجه من قيمة منتجة مجدداً لا يتناسب البتة مع درجة تمركز الثروة الحاصل... يوصلنا هذا إلى القول أنه في الوقت الذي كانت فيه أرقام النمو العالية ضرورةً لتحقيق درجة ما من العدالة الاجتماعية، فإننا أمام واقع يطالب بما هو معاكس تماماً؛ أي أن تحقيق أي نمو أصبح بحاجة إلى درجات أعلى من العدالة الاجتماعية، أي إلى إعادة توزيع الثروة بما يجعل درجة تمركزها متناسبة مع درجة تطور القوى المنتجة...
4- إذا كانت البشرية قد تكلفت لخروج الرأسمالية من أزماتها في القرن العشرين، حربين عالميتين، تلتهما جملة من الحروب المتفرقة والموزعة، فإنّ التكلفة اليوم تبدأ من "روسيا" كحد أدنى، مع ما يتطلبه ذلك، وصولاً إلى "التطبيق الفعلي للنيومالتوسية"، أي تنفيذ الحكم الذي أصدره نادي روما للأثرياء العالميين سنة 1975 بإعدام قرابة 5 مليارات إنسان.
إنّ روسيا بمساحتها الشاسعة (17 مليون كم مربع) وثرواتها الباطنية الهائلة (40% من الثروات