Menu

في مناسبة مرور 50 عاماً على انطلاقة الجبهة.. عقل حركة التحرر القومي العربية

تعبيـرية

بروفيسور هشام غصيب

ما زلنا نحن العرب نخوض معارك البديهيات. فلنذكر بها قليلاً. البديهية الأساسية في واقعنا الراهن هي أن بلادنا محتلة: أرضنا محتلة، ومواردنا محتلة، وإنساننا محتل ممارسة وثقافة. هذه هي البديهية الكبرى التي علينا أن ننطلق منها. وهذا السؤال هو سؤال علائق الملكية والإنتاج السائدة لدينا. وهو سؤال ماركسي بامتياز.

فمن الصعوبة إدراك مغزى هذا السؤال من خارج إطار الفكر الماركسي. ولما كانت أرضنا ومواردنا وقوانا الإنتاجية محتلة من قوى عالمية لا يمكن وصفها إلا بأنها قوى إمبريالية، بات التحرر من هيمنتها وتحرير الأرض والموارد والإنسان من ملكيتها من أجل هذا الإنسان المستلب هو المهمة الرئيسية أمامنا. ومهما حاولنا أن نغيب هذه المهمة بالتلهي بأسئلة البناء الفوقي، ومهما حاولنا حرف الأنظار عنها بالكلام العسلي التجريدي عن الحرية الفردية والديموقراطية الليبرالية التجريدية، فإن موضوعية سؤال علائق الملكية يظل يفرض نفسه علينا ويفسد كل محاولاتنا الطوباوية ويكشف خواءها واستحالتها.

إن الماركسية تفرض نفسها علينا عبر نار الواقع المر الحارقة. فهي الفكر الوحيد الذي يضيء جذر المشكلة. بل إن المشكلة في حد ذاتها تفرضها علينا، مهما كانت دعاية الخصم قوية. لذلك نجد أن الماركسية تتسرب إلى جميع الفصائل النضالية بحكم كونها نضالية ومهما اتشحت بأيديولوجيات أخرى.

 إن الماركسية تسلط الضوء على جذر المشكلة، وجذر المشكلة هو هيمنة الصهيوإمبريالية وأذنابها على مقدرات الأمة العربية وحرمان الجماهير الكادحة والمهمشة من هذه الموارد وثمارها. وحتى تتحرر هذه الجماهير من ربقة هذه القوى المهيمنة، عليها أن تنظم نفسها ثوريا وعلى أساس هذا التبصر الماركسي. ومن ذلك تنبع ضرورة أن تكون قيادة حركة التحرر القومي العربية ماركسية ثورية، أي تتمتع بوعي علمي ثوري تحرري.

لذلك ينبغي أن يعكس تنظيم الجماهير الكادحة لنفسها هذا الفكر العلمي الثوري. وكل ذلك يستلزم إحياء الماركسية الثورية بوصفها فكرا وتنظيما وثقافة جماهيرية. وفي ضوء ما أصاب الوعي العربي من تخريب في الثلاثين عاما الأخيرة على يد النفط الرجعي والإعلام الإمبريالي، فإن المهمة عسيرة عسيرة. لكن أزمة الرأسمالية والإمبريالية العالمية تفتح آفاقا جديدة أمام يقظة الوعي العربي المشلول. فوضع الجماهير العربية لم يعد يطاق.. وبرغم خطورة أن تنزلق الجماهير في ظل هذا البؤس التاريخي إلى الهويات القاتلة وفكرها الظلامي، وخطورة أن يتحول صراعها ضد المحتل إلى احتراب أهلي مدمر، إلا أن القبول بالأمر الواقع بات مستحيلا وأكثر خطورة في ضوء ما يشهده واقعنا من ترد مريع.

وهنا علينا أن نؤكد باستمرار أهمية الفكر والوعي والقيادة. لقد سبق أن أكد الشهيد مهدي عامل الأهمية القصوى للقيادة في حركة التحرر الوطني. فالقيادة تعني البرنامج والثقافة والوعي وشكل تنظيم الجماهير لذاتها، لذلك اعتبرها المسألة الحاسمة في أزمة حركة التحرر الوطني العربية.

لكن الأزمة اليوم تضاعفت إلى حد اليأس. فهناك شبه غياب لحركة التحرر الوطني العربية. والمهمة الملقاة على كاهلنا اليوم هو إعادة بناء هذه الحركة على أسس جذرية تتخطى مثالب الصورة القديمة لهذه الحركة. ولا أستطيع أن أتصور هذه العملية التاريخية من دون الماركسية الثورية، التي تنتج معرفة علمية ثورية بصدد الواقع الحي وتنتج المواقف الثورية الجذرية بصدد هذا الواقع. وضعنا في حاجة ماسة إلى الفعل الثوري. ولا يفي بالغرض مطلقا المواقف الليبرالية المائعة والفاترة وغير الجذرية. كما لا يفي بالغرض المواقف التكفيرية الإجرامية العدمية والتفتيتية الآثمة. الماركسية ضرورة تاريخية، وباتت أكثر إلحاحا في ضوء أزمتنا وأزمة الإمبريالية نفسها. إنها ضرورة تاريخية لأنها علمية وجذرية وثورية.

ويمكن القول إن النضال ضد الصهيوإمبريالية والمافيات الحاكمة ضرورة تاريخية. واستمرار هذا النضال يستلزم رد الاعتبار إلى الماركسية بوصفها فكرا وثقافة ومشروعا تاريخيا ووعيا وتنظيما ذاتيا للجماهير الكادحة والمهمشة، بالإضافة إلى رد الاعتبار إلى مفهوم العروبة، أي تخطي إطار ال قطر الواحد صوب الأفق العربي، فالعالمي. هذه هي المعادلة العامة التي ينبغي أن ننطلق منها في إعادة بناء حركة التحرر الوطني العربية. والوضع الفلسطيني تحديدا هو الشاهد الأكبر على ما نقول. فالبقاء داخل إطار القطر أدى بالضرورة إلى نهج أوسلو وتصفية المقاومة الفلسطينية، تمهيدا لتصفية القضية الفلسطينية. الثورة الفلسطينية هي جزء لا يتجزأ من الثورة العربية. وهذا يعني أن على الثورة الفلسطينية أن تتحول إلى ثورة عربية، وعلى الثورة العربية أن تتحول إلى ثورة فلسطينية، وإلا خنقت الثورتان وتبددتا.

خلاصة القول، ما زالت المهمة الملحة التي تنتظرنا هي تحويل حركة المقاومة العربية وحركة الجماهير الغاضبة إلى حركة تحرر قومي شاملة ترفد حركة الثورة العالمية ضد الرأسمالية الإمبريالية برمتها. ولا بديل عن الماركسية الثورية المتجددة أبدا بحكم طبيعتها الداخلية مرشدا ومضمونا لهذه السيرورة الثورية.