Menu

ترامب وهواجس الحكومة العالمية

محمد السعيد إدريس

تعبيرية

يبدو أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الآتي من خارج مؤسسة الحكم الأمريكية حديث العهد في عالم السياسة، يعيش «وهم» حاول الأمريكيون أن يفرضوه في أعقاب سقوط الاتحاد السوفييتي وتفكك حلف وارسو ، ومن ثم انهيار النظام العالمي ثنائي القطبية. وقتها بدأ الأمريكيون يعملون على فرض نظام أحادي القطبية يحكم العالم تقوده الولايات المتحدة، كما حرصوا على تعمد إظهار بلدهم كدولة «إمبراطورية» تملك ما لم تستطع امتلاكه الإمبراطوريات العالمية السابقة. وقتها كان التخطيط الاستراتيجي الأمريكي يعمل من أجل الحيلولة دون ظهور منافس عالمي قادر على منافسة الولايات المتحدة حتى من بين الحلفاء، كما خططوا لجعل روسيا دولة من دول العالم الثالث وكذلك الصين. هذه التوجهات تأكدت، بشكل خاص، في أعقاب نجاح الولايات المتحدة في قيادة تحالف عالمي عام 1991 لشن حرب على العراق بعد احتلاله الكويت عام 1990.

 كانت تلك الحرب هي بداية التوجه الإمبراطوري الأمريكي الذى عبر عن نفسه في تعمد الولايات المتحدة الاستهانة بالأمم المتحدة وما تمثله من شرعية دولية، وتعمد التصرف من خارج الشرعية الدولية، وإعلان «استراتيجية الضربات الاستباقية»، أي حق الولايات المتحدة في شن الحروب على الآخرين لدرء مخاطر محتملة وليس ردًّا على اعتداءات مؤكدة، وتشريع التدخل الأمريكي في الشئون الداخلية للدول تحت مزاعم «التدخل لأسباب إنسانية»، وكانت الاعتداءات على الصومال هي أبرز مؤشرات هذا التوجه إلى أن وقعت أحداث 11 سبتمبر 2001، ضد واشنطن ونيويورك التي فجرت الحرب الأمريكية ضد «الإرهاب» بقيادة الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش ابتداءً من أفغانستان وامتداداً إلى العراق.

فى تلك الظروف بدت الإدارة الأمريكية تتصرف وكأنها «حكومة عالمية» وجعلت الكونجرس الأمريكي بمثابة «برلمان عالمي» يصدر قرارات لها صفة «الإلزام عالميًّا» وكانت ذروة هذه الاستهانات هي الحرب الأمريكية على العراق عام 2003 لأسباب كاذبة وملفقة جاءت على لسان وزير الخارجية الأمريكي الأسبق كولن باول الذى اتهم العراق بامتلاك أسلحة دمار شامل، وبعد فشل الأمريكيين في إيجاد دليل واحد يؤكد صحة هذا الاتهام الكاذب بعد تدميرهم العراق، لم يستطع كولن باول إلا أن يخرج ويعتذر ويعترف أنه لم يقدم معلومات صحيحة بخصوص اتهاماته للعراق، ثم جاءت من بعده اعتذارات تونى بلير رئيس الحكومة البريطانية الأسبق شريك جورج بوش في جريمته.

كل هذا حدث، لكنه انتهي، لأن العالم تغير ولم تعد الولايات المتحدة قوة عالمية أحادية، وانتهى لحسن الحظ سريعاً «عصر الإمبراطورية الأمريكية» بعد الأزمة الاقتصادية الهائلة التي هزت كيان الاقتصاد الأمريكي عام 2008، التي جاءت مقدمة بظهور قوى اقتصادية عالمية قادرة على مناطحة الزعامة الأمريكية خاصة الصين وروسيا إضافة إلى ظهور قوى اقتصادية إقليمية قوية فرضت نفسها شريكاً فى قيادة النظام العالمي مثل النمور الاقتصادية الكبرى في جنوب شرق آسيا إضافة إلى دول مثل الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا التي أسست مع الصين وروسيا تكتل «بريكس» الاقتصادي العملاق، ناهيك عن منظمات أخرى اقتصادية استراتيجية مثل «منظمة شنغهاي» التي فرضت هي الأخرى نفسها بقوة على القرار العالمي، وكانت النتيجة هي الأفول المبكر للعصر الأمريكي والتوجه العالمي القوى لتأسيس نظام عالمي متعدد الأقطاب يتجاوز «حالة اللاقطبية» الراهنة، وهذا ما عبر عنه بصراحة شديدة سيرجى لافروف وزير الخارجية الروسي في «مؤتمر ميونيخ للأمن» في مايو الماضي بدعوته لتأسيس «نظام دولي عادل» أطلق عليه «النظام الدولي ما بعد الغربي» في إشارة مهمة إلى أن قيادة العالم انتقلت من الغرب وبالذات الغرب الأمريكي إلى الشرق حيث الصين وروسيا والهند والنمور الاقتصادية الآسيوية.

واضح أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الآتي من عالم المقاولات بعيد عن إدراك هذه التحولات شديدة الأهمية التي حدثت في العالم، والتي أنهت إلى غير رجعة ما كانت واشنطن حريصة على فرضه على العالم تحت اسم «الحكومة العالمية» لم تعد الإدارة الأمريكية حكومة عالمية ولم يعد الكونجرس الأمريكي برلماناً عالمياً، وأضحى العالم توَّاقًا لنظام عالمي أكثر عدالة وأكثر ديمقراطية بعيدة عن كل مظاهر الهيمنة والتسلط وازدراء القوانين العالمية والاستعلاء عليها، وهذا الغياب عن إدراك هذا الواقع هو الذى أوقع ترامب في معضلة التورط في قضية « القدس » التي هي قضية محكومة بالقانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية باعتبارها مدينة محتلة مثلها مثل باقي الأراضي العربية التي احتُلت عقب عدوان يونيو 1967.

غياب هذا الإدراك يدفع بالإدارة الأمريكية إلى الوقوع في خطأ آخر مضاعف بالدعوة إلى تشكيل «تحالف دولي» يعمل ضد إيران حسب ما ورد على لسان «نيكى هالى» السفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة التي أكدت أن الولايات المتحدة «ستعمل لبناء تحالف دولي للتصدي لإيران» في معرض استعراضها لما اعتبرته «بقايا الصاروخ الذى ضرب الرياض» منطلقًا من الأراضي اليمنية باعتباره «صاروخًا إيراني الصنع».

الملفت بهذا الخصوص أن «نيكى هالى» اعتمدت في الدعوة لتأسيس تحالف دولي يعمل ضد إيران على تأكيدها أن إيران خالفت قرار مجلس الأمن رقم 2231 الذى يمنع تصدير الأسلحة ودعم الإرهاب. هذه الدعوة تفرض طرح العديد من الأسئلة المهمة.

في مقدمة هذه الأسئلة نقول: إذا كانت الولايات المتحدة تريد معاقبة إيران لتجاوزها، افتراضًا، لأحد القرارات الدولية فهل تقبل بتشكيل تحالف دولي ضد الولايات المتحدة لتجاوزها عشرات القرارات الدولية الصادرة بحق إسرائيل، وآخرها كل ما يتعلق بوضع القدس باعتبارها مدينة محتلة؟

ثاني هذه الأسئلة أن الإدارة الأمريكية التي تريد معاقبة إيران لدعمها المعارضة الحوثية بهذا النوع من الصواريخ تعرف وتؤكد، منذ أشهر طويلة مضت، أن إيران هي من تدعم الحوثيين في اليمن فلماذا لم تطالب بتشكيل هذا التحالف منذ أكثر منذ عامين؟ هل التوقيع الحالي مجرد محاولة لصرف الأنظار عن قضية القدس؟

واشنطن لا تريد توحيدًا لأى موقف عربي ضد إسرائيل، ولا تريد صدور قرار دولي يبطل قرارها، لكن الأهم هو أنها لا تريد عودة روح المقاومة عند الشعب الفلسطيني التي من شأنها أن تستعيد فلسطين مرة أخرى قضية مركزية عربية وهى على استعداد لأن تفعل أي شيء للحيلولة دون ذلك حتى ولو كان السبيل إلى ذلك هو أن تغرق في هواجس وأوهام رئيسها أن بلاده مازالت «حكومة عالمية» في عصر تستعيد فيه الشعوب إرادتها ووعيها وباتت قادرة على إسقاط كل حكومة ظالمة ومستبدة لا تحترم العدالة والشرعية.