Menu

كوريا تداعب خيارها المستحيل

محمد السعيد إدريس

إذا كانت الحروب الهائلة التي شهدها العالم، قد فجرتها أحداث صغيرة جداً كان يمكن أن تمر دون إحداث الحد الأدنى من ردود الفعل، وليس الحروب، على نحو ما حدث في تجربتي الحرب العالمية الأولى والثانية، فهل يمكن أن يحدث نفس الشيء ولكن بشكل عكسي؛ أي أن تحدث نجاحات مرموقة في إنهاء الصراعات، من خلال مبادرات تقارب قد تكون محدودة أو هامشية؟

السؤال يفرض نفسه الآن بدرجة ملحّة ومثيرة، على كثير من الدول ذات العلاقة بالأزمة مع كوريا الشمالية، سواء كانت من الدول المعادية، أو المصنّفة معادية، خاصة الولايات المتحدة واليابان، أو من الدول المصنفة صديقة مثل الصين وروسيا، والسبب هو الزيارة غير المسبوقة والناجحة التي قامت بها «كيم يو جونج»، شقيقة الزعيم الكوري الشمالي «كيم جونج أون» إلى كوريا الجنوبية، على رأس وفد كوري شمالي عالي المستوى، لحضور الأولمبياد الشتوي الذي تستضيفه كوريا الجنوبية.

المثير في هذه الزيارة التي امتدت لثلاثة أيام، أنها تجاوزت الحضور الرمزي لوفد كوريا الشمالية للحفل الاحتفالي البروتوكولي لذلك الأولمبياد، وشهدت لقاء استثنائياً بين شقيقة الزعيم الكوري الشمالي، وبين «مون جاي إن»، رئيس كوريا الجنوبية، سلمته خلاله دعوة لزيارة بيونج يانج، بعد أن أجرت معه محادثات وصفت بأنها «صريحة وصادقة»، وبعدها شارك الرئيس الكوري الجنوبي شقيقة الرئيس الكوري الشمالي، حضور حفلة موسيقية أحيتها أوركسترا كورية شمالية.

كل هذه الأمور الاستثنائية غير المعهودة في أجواء العلاقات بين الكوريتين منذ حربهما الكبرى، وضعت كبار المسؤولين في الدول الأخرى سواء كانت مصنفة عدوة، أو مصنّفة صديقة لكوريا الشمالية، أمام سؤال لا تتحمل طرحه، ناهيك عن الإجابة عليه وهو: هل يمكن أن تتوحد الكوريتان؟

لقد رتب قرار تقسيم الكوريتين مصالح خاصة لكل الدول المعنية بهذا التقسيم، أخذت تتضخم لدرجة جعلت احتمال إنهاء خيار التقسيم بين الكوريتين والعودة إلى التوحيد بمثابة «الخيار الشبح» المخيف والمكروه والمستبعد؛ إذ لا يوجد بين كل هذه الدول من في مقدوره أن يتحمل حدوث وحدة أو اتحاد الآن بين كوريا الجنوبية، بكل قدراتها وتقدمها الاقتصادي والصناعي والتكنولوجي الهائل، مع كوريا الشمالية بقدراتها الصناعية والتكنولوجية العسكرية الهائلة؛ إذ ستقوم، في مثل هذه الحالة قوة عالمية كبرى ذات قدرات اقتصادية صناعية وتكنولوجية مدنية وعسكرية ضخمة، قادرة على منافسة القوى العالمية الأخرى، سواء كانت معادية أو كانت صديقة.

هذه الدول جميعها: الولايات المتحدة واليابان والصين وروسيا، ليس في مقدورها أن تقبل بكوريا دولة موحدة. الولايات المتحدة تغذي التقسيم والكراهية والعداء بين الكوريتين، لمنع قيام كوريا الكبرى منافسة للمصالح الأمريكية في إقليم شمال شرقي آسيا، وهي تريد بإمعان العداء بين الكوريتين أن تبقى كوريا الجنوبية أداة في تهديد كوريا الشمالية، واستنزاف قدراتها في برامج الصناعة العسكرية، وتخشى أن تكون كوريا الموحدة قوة مضافة للصين، والأمر ذاته ينطبق على اليابان، التي ترى في استمرار الصراع الكوري الكوري، مصلحة يابانية تفرض اليابان قوة عالمية كبرى، حليفة للولايات المتحدة.

الأمر لا يختلف كثيراً بالنسبة للصين التي تخشى من ظهور كوريا الموحدة كمنافس قوي لمشروع القوة العالمية الصينية، والتي ترى أن في بقاء انقسام الكوريتين مصلحة صينية عليا، تجعل من كوريا الشمالية دولة تابعة للصين. وما يجري على الصين يجري على روسيا هي الأخرى، لكن ربما بدرجة أقل من التخوف والتحسب الصيني.

لذلك كانت ردود الفعل الأمريكية واليابانية سريعة على زيارة الأيام الثلاثة التي قامت بها «كيم يو جونج»؛ شقيقة زعيم كوريا الشمالية لكوريا الجنوبية، فقد حاول «مايك بنس» نائب الرئيس الأمريكي الذي حضر احتفالات أولمبياد كوريا الجنوبية، احتواء أي نتائج تعتبر «سلبية».

أما اليابان فقد حذرت من أخطار محاولة التقارب بين الكوريتين.

ردود الفعل هذه، تؤكد مدى خطورة العامل الخارجي في تفكيك الدول والحيلولة دون توحدها أو العكس، على حسب المصالح، لكن يبقى للعوامل الداخلية سطوتها وقوتها، والأمر المؤكد أنه، على الرغم من بساطة ما يمكن توقعه من الزيارة ، فإن الشعب في كوريا الجنوبية لن ينساها، وسيعي أن الصراع الكوري الكوري مصلحة للغير وليس مصلحة للكوريتين.

كما أن هذه الزيارة لن تكون أقل من «رفة فراشة»، ستظل تكبر وتتسع أصداؤها، وحتماً يمكن أن تحقق المستحيل أو ما يراه الآخرون مستحيلاً، إذا التقت إرادة الشعب الواحد في كوريا على رغبة التوحيد، وهي رسالة إلى كل الأمم التي مزقتها الصراعات الدولية وما زالت تمزقها تحقيقاً لمصالح أطراف خارجية، والواقع العربي نموذج صارخ على ذلك.