Menu

حركة الترجمة والريادة الفلسطينية

د. سهام أبو العمرين: كاتبة وناقدة - عضو الأمانة العامة للاتحاد العام للكتاب والأدباء

اللغة هي وعاء الفكر، ووسيلة التواصل بين أبناء الثقافة الواحدة، وعلى الرغم أن  المجتمع البشري يحظى بوسائل تواصل متعددة فإن اللغة تبقى أهم وسيلة اتصال، هي الأداة التي تتشكل بها هوية الفرد داخل مجتمعه، هذه الهوية تصقل عندما تتجاوز الحدود لتتلاقح فكريًّا مع الثقافات الأخرى، وبالتالي فإن الترجمة إلى اللغة الأم  أبعد ما أن تكون  “استلابًا للهوية،  إنها على العكس من ذلك إغناءٌ لها وتعزيزٌ لبنائها”([1]) طالما أن ما يترجم، يعبر عنه باللغة الأم، وأنه مؤهل لأن يدخل في بناء الهوية،  لذلك عُدت الترجمة من أهم الوسائل الناجعة التي حركت المجتمع العربي فكريًّا ومعرفيًّا وأصقلت هويته؛ إذ اعتمد عليها العرب اعتمادًا جوهريًّا في بناء نهضتهم الحديثة.

 ومن أجل إثراء الهوية وتعزيزها سعت الذات العربية للانفتاح على الآخر تنهل من ثقافته لتعضد ذاتها، وتستعين بنهضته الفكرية في تغذية جذورها الضاربة في التراث؛ فالأمة المكتفية بذاتها غالبًا ما يكون مآلها التلاشي، ومن ثم جاءت الترجمة لتكون عاملا من عوامل هذا الإثراء.

 لقد أسهم الفلسطينيون في حقل الترجمة منذ أوائل عصر النهضة ولا سيما النصف الثاني من  القرن التاسع عشر، وقد اقتصرت في بادئ الأمر على ترجمة الكتب الدينية، واتخذت طابعًا فرديًّا غير منظم،  ثم ما لبثت أن انتقلت الترجمة مع انتشار الصحافة من الاتجاه الديني إلى الاتجاه الأدبي، فقام المترجمون بنقل روائع الأدب الغربي إلى الثقافة العربية الأمر الذي أسهم في انطلاقة النهضة الأدبية والارتقاء باللغة العربية، وبث روح الحياة في جسد الثقافة العربية بعد فترات طويلة من الجمود الفكري والتراجع المعرفي، فقد قام المترجمون في هذه المرحلة المبكرة بإغناء العربية بأساليب جديدة وثروة لغوية هائلة. وقد ساعدت مجموعة من العوامل على الاهتمام بالترجمة في ذلك الوقت المبكر، ولعل أهمها انتشار المدارس الإرسالية لروسيا القيصرية في مختلف مدن فلسطين منذ منتصف القرن التاسع عشر، ولاسيما الدور الكبير الذي قامت به المدرستان الروسيتان في الناصرة وبيت جالا، كما أن الإرساليات الكاثوليكية والبروتستانتية قد ساهمت في تعليم اللغات الأجنبية، فضلا عن الإرساليات والبعثات التعليمية الخارجية من أبناء فلسطين لمتابعة دراساتهم العليا، وهكذا نشأت طائفة من أبناء فلسطين تتقن اللغات الروسية والإنجليزية والفرنسية والألمانية([2]).

بدأ النشاط الترجمي الفلسطيني مبكرًا رغم صعوبة الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتعود بداية الإسهام الفلسطيني في حقل الترجمة إلى عام 1860 حيث تُرجم كتاب “مرشد الأولاد” لـفرانسيسكو سوافيواس” الذي ترجمه “يوسف دباس اليافي”، ثم شهد أواخر القرن التاسع عشر قفزة في مجال عمل الترجمة بفلسطين بإنشاء “خليل بيدس” صحيفة “النفائس العصرية”([3]) التي اعتمدت اعتمادًا كليًّا على الترجمات ولا سيما من اللغة الروسية([4]).

إن المترجمين الفلسطنيين هم أول من عرّفوا القراء العرب على رواد الأدب الروسي أمثال بوشكين، وتولستوي، وتشيكوف، وديستويفسكي، وتورغنيف وغيرهم، وهذا يرجع لجهود الرواد الأوائل الذين كانت ترجماتهم تجوب الوطن العربي لأسبقيتهم في المجال الترجمي من اللغة الروسية للعربية أمثال خليل بيدس، وسليم قبعين، ونجاتي صدقي، وكلثوم عودة، وبندلي الجوزي([5]). ثم بعد ذلك بدأ الاهتمام بالترجمة من اللغات الأخرى ولا سيما الألمانية، فقد ترجم بندلي الجوزي كتاب “الأمومة عند العرب” عن الألمانية عام 1902 وطبعه في روسيا.

 ويلاحظ قلة الترجمة عن اللغة التركية على الرغم من إنها كانت لغة متعلمي تلك الفترة، وربما كان السبب يعود إلى  “ضآلة ما تقدمه هذه اللغة من زاد للمثقفين المتطلعين إلى التغيير والتحديث من جهة وإلى شعور القوميين العرب من جهة أخرى بالتفوق على الأتراك و ثقافتهم وبأن ما تحمله اللغة التركية من زاد إنما هو مستمد أصلا عن اللغة العربية”([6]) ومن أوائل من ترجم عن التركية فهمي الحسيني ورأفت الدجاني، ثم اختفى تدريجيًّا الاهتمام بالترجمة التركية. وقد تحول مسار الترجمة للغات الأخرى  كاللغة الفرنسية التي يعد “روحي الخالدي” من أوائل من اهتموا بالترجمة عنها ولاسيما في كتابه الرائد “تاريخ علم الأدب عند الإفرنج والعرب وفيكتور هوجو” 1902، والكتاب يعتمد على الترجمة اعتمادًا قويًّا، إذ قدم الخالدي نماذج عدة مترجمة ولا سيما لأدب “فيكتور هوجو”، ثم جاءت إسهامات المترجم الفذ “عادل زعيتر” الذي  أتقن التركية والفرنسية والإنجليزية، وقد ساعده تأهيله العلمي في باريس اختيار روائع الكتب الفرنسية في مختلف المجالات وترجمتها للعربية، وقد ركز على أعمال الكتاب الكبار مثل “مونتيسكو”، و”روسو”، و”فولتير”، وترجم “ما يشبه الأعمال الكاملة لـ “غوستاف لوبون”.

 ثم ظهرت الترجمة عن اللغة اليونانية ورائدها كان “جورج الخوري” فقد كانت طقوس الكنائس الأرثوذكسية تجري باللغة اليونانية، ومن ثم دعت الحاجة للترجمة عن اليونانية([7])، أما اللغة الإنجليزية فلم تكن في صدارة اللغات الأوربية التي ترجم عنها الفلسطينيون في فترة الريادة وحتى النكبة، فالترجمة عنها ليست ذات شأن؛ فالترجمات عن الإنجليزية في ذات الوقت لا تقارن بغزارة الترجمة عن الروسية أو الفرنسية، حتى ثلاثينيات القرن العشرين ولم يظهر سوى اسم “وديع البستاني” (1886-1954) في هذه المرحلة المبكرة، وكما أشار “يوسف الخطيب” في كتابه “حركة الترجمة الفلسطينية” أن بواكير الترجمات الفلسطينية عن الإنجليزية قد نُفّذت وطبعت  خارج فلسطين، فوديع البستاني طبع ترجماته بالقاهرة، كما أن الرائد الأول للترجمة عن الإنجليزية “أحمد شاكر الكرمي”  (1894- 1927) كان يعيش بدمشق([8]). وحتى نهاية فترة الانتداب البريطاني على فلسطين 1947 لم يكن للترجمة عن الإنجليزية دور كبير، فقد اتخذت هذه الترجمات منحى وظيفيًّا أو تعليميًّا أو علميًّا، ومن المترجمين الذين ترجموا عن الإنجليزية  في تلك الفترة محمد يونس الحسيني (1910-1952)، وحسن صدقي الدجاني (1890-1938)، وبولس شحادة (1882-1942)، وجبرا نقولا (1912-1974)، وخليل السكاكيني (1878-1953)، وعنبرة سلام الخالدي، وأسمى طوبي، وغيرهم([9]).

وقد تنامى الاهتمام بالترجمة عن اللغة الإنجليزية بعد أن تخرج جيل فلسطيني جديد من  الكليتين العربية والرشيدية في فلسطين، فأصبحوا مترجمين متخصصين في اللغة الإنجليزية في عقد الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، مثل جبرا إبراهيم جبرا، وإحسان عباس، ومحمد يوسف نجم، وسلمى الخضراء الجيوسي، وسميرة عزام، وتوفيق صايغ وعيسى بلاطة، ويوسف الخطيب، وحسام الخطيب وغيرهم.

 

([1]) بركة، بسام، الترجمة إلى العربية: دورها في تعزيز الثقافة وبناء الهوية، سلسلة دراسات، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، قطر ، أكتوبر، 2002، ص10.

 ([2]) انظر: شوملي، قسطندي، رواد حركة الترجمة في فلسطين، بحث منشور  على الرابط: https://scholar.najah.edu/sites/default/files/conference-paper/pioneers-translation-movement-palestine.pdf

 ([3]) أصدرت في طبعتها الأولى تحت اسم “النفائس” وقد صدر العدد الأول من ” النفائس ” يوم الأحد 1 تشرين الثاني نوفمبر سنة 1908 في مدينة حيفا، وانتقلت إلى القدس عام 1911، وتوقفت مدة الحرب العالمية الأولى، ثم عاودت نشاطها حتى أواسط القرن العشرين، وكانت تصدر أسبوعياً , ومن العدد العاشر أصبح اسمها النفائس العصرية.

 ([4]) انظر: الخطيب، حسام، واقع الترجمة لدى أبناء فلسطين، ضمن كتاب دراسات عن واقع الترجمة في الوطن العربي، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، الجزء الثاني، تونس،  1987، ص64،

 ([5]) انظر: المرجع السابق، ص68.

 ([6])الخطيب، حسام، حركة الترجمة الفلسطينية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط (1)، 1995، ص 20.

 ([7]) انظر: الخطيب، حسام المرجع السابق، ص 20.

 ([8]) انظر: المرجع السابق، ص 21.

 ([9]) انظر: المرجع السابق، ص 26.