Menu

مراكز البحث أو مخازن الفكر (1 ـ 2)

كاظم الموسوي

عنوان أصبح متداولا ومعروفا بعد غموض وضبابية في الاسم والمضمون، أو في الشرح والترجمة والأهداف. ولهذا أثار أسئلة وطرح نقاشا للوصول إلى الأهمية منه أو الجدوى فيه. ورغم كل هذا الجدل هناك اعتراف واضح بأهمية كبيرة لمهمات هذا العنوان Think tanks ودوره في رسم السياسات العامة أو المحددة وطرح أفكار جديدة أو تداولها، وبروز تأثير واسع له في مخططات الحكومات والمؤسسات المتنفذة فيها والرأي العام. لعل الأهم فيه هو رسم صورة للحاضر والمستقبل، وتسهيل عملية التخطيط والتطوير أو البحث في سيناريوهات العمل والاستهداف. فأصبح العنوان مؤسسات مؤثرة ومراكز بحث ومخازن أفكار وسياسات وبرامج عملية واستراتيجية وترسم حياة شعوب ومصير بلدان. وبهذا المعنى استغل العنوان العام حسب أهداف أو مصالح الجهات التي تبنته. أو اشتغلت عليه. فمنها من قدم خدمات حقيقية للتطور والتقدم ومنها بالتأكيد تحول إلى كوارث وويلات على الشعوب والأمم.

في كتابهما المترجم إلى العربية من الفرنسية بعنوان، مراكز الفكر، أدمغة حرب الأفكار، كتب المؤلفان الفرنسيان ستيفن بوشيه ومارتين رونو، (وترجمه د ماجد كنج، ط1بيروت2009 ( عن هذه المشاكل والإشكالات والقضايا وغيرها مما يشرح أو يفسر دورها ونشاطها وفعاليتها. ومن عناوين فصول الكتاب يمكن قراءة محتوياته. حيث يبتدئ من الحرب الوقائية إلى مجموعة ضغط الأفكار، واعتبار الأفكار- لاعبا جديدا في الديمقراطية الحديثة، ومراكز الفكر تولد على أنقاض الأزمات، وأوروبا غير مجهزة لحرب الأفكار، وفرنسا- أفكار ولكن القليل من التأثير، ويختم بتصور المستقبل وخلاصة.

هذه المراكز لها تاريخها، ففي بريطانيا تأسست منذ نهاية القرن التاسع عشر، وفي أميركا منذ بداية القرن الماضي، بينما في فرنسا وأوروبا منذ عقدين أو ثلاثة، مما يعطي لكل مكان وزمان أثره وفعله في التعريف في أهمية ما قامت به المراكز أو المخازن الفكرية. وقد حصل ما حصل منها فيما يتعلق بالدور السياسي لها، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، التي لعبت دورا كبيرا في الحروب التي خاضتها قواتها. وعرفت أجهزة ومؤسسات لها مصالح وتأثير كيفية الاستفادة من نتائج هذه المراكز والمخازن. حيث كتب المؤلفان عن نشاط المراكز فيها، لا سيما في شن الحرب على العراق تحت حجة أسلحة الدمار الشامل، في الإعداد والتخطيط والاستهداف وإقناع الرأي العام بما تبنت القيادات العسكرية والسياسية من قرارات وإجراءات. وذكر المؤلفان مثالا: “مشروع للقرن الأميركي الجديد”، PNAC الذي وضعه حفنة من المحافظين الجدد، المدعومين من مؤسسات من قطاع السلاح، كلوكهيد ومارتين، في شن الحرب على العراق، كحرب وقائية ضد دولة مارقة حسب تعريفهم لها. وقدم هذا المركز بعد عام من تأسيسه، أي في عام 1998 رسالة إلى الرئيس الأميركي بيل كلينتون وضع فيها مخطط السيطرة الأميركية على العالم، وتغيير الأمم المتحدة، وإسقاط الأنظمة التي تراها مارقة.

 

وكان اثنان من بين منظمي المؤسسة هذه قد وضعا مخططا سابقا عام 1992 وقدماه إلى وزير الدفاع الأميركي ديك تشيني، عن سياسة أميركا بعد انتهاء الحرب الباردة، استند تصورهما إلى المبادأة بالرد العسكري ضد كل قوة أخرى، أو منافس آخر، وتبوؤ أميركا نحو السيطرة على العالم. وقفزت المجموعة هذه من المحافظين الجدد لقيادة مشاريع وأفكار الإدارة الأميركية للرئيس الجمهوري بوش الابن، الذي تبنى مخططاتها. وتوزع أركانها مواقع القيادة في رسم خريطة العالم السياسية والحربية والاقتصادية، من أمثال بول وولفتز، وجون بولتون وريتشارد بيرل ولويس ليبي ودوجلاس فيث وزلماي خليل زاد وأضرابهم. وكانت هذه المجموعة نموذجا لإدارة المراكز والسلطات والسياسات والمخططات والعلاقات الدولية. وفي ما قاموا به رسم صورة لمراكز الفكر وعملها التنفيذي وخطورة الترابط بينها والحكومات أو أصحاب القرار السياسي والعسكري خصوصا. وحولوا هذه المراكز إلى منتج أطروحات الرئيس الأميركي في تهديد العالم وقواه حسب المصالح الأميركية واعتبار الكرة الأرضية مساحة مباحة للولايات المتحدة الأميركية. واعتماد نظرية باسم بوش الابن في الفوضى الخلاقة وانتقاء ما يناسبها من القانون الدولي وقواعد الحرب واحتقار للأمم المتحدة أو المصالح الأخرى للدول والشعوب. وتوزع المحافظون الجدد أيضا على تأسيس أو السيطرة على مراكز فكر، المشروع الأميركي أو التراث وغيرها، وتوافقها في حدود ما حول غزو العراق وتدمير المنطقة، واصطفاف البنتاجون والرئيس بوش معهم في تنفيذ سياساتهم ومخططاتهم التي تزعم خدمة المصلحة الأميركية. وفرزوا مراكزهم ومواقعهم فيها بصفتها اليمينية المحافظة الجديدة وتمكنوا من التغلب عمليا على غيرها من المراكز الليبرالية أو المستقلة بشكل ما. وأبرزت تلك الفترة خصوصا أثر الاتجاه والتيار الأغلب في المشهد السياسي والتواطؤ بينها وبين أصحاب القرار والمال والسلاح. كما بينت الخطورة الفعلية والتأثير الكبير لها ونموذجها الذي تميز بما به عن أقرانها في البلدان أو القارات الأخرى..

رغم تعدد المراكز والاتجاهات اعتمدت أغلبها في إعلاء دورها على تركيز القوة والاختيار والتدريب وتهيئة الكادر والعقل والخبرة والتمويل ووسائل الإعلام، وإبراز المصلحة الأميركية على غيرها حتى في تجاوز ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي. ومع أن القوى الليبرالية الأميركية حاولت هي الأخرى أن تستثمر في مراكز الفكر وفي توظيفها أيضا وتمويلها بسخاء كما فعل جورج سوروس وأضرابه إلا أنها ظلت موازية أو متابعة أو مختصة في شؤون جانبية، كالأقليات أو التعليم وما شابه.

وباختصار كما أنهى المؤلفان هذا السياق عن دور المراكز كمحرك لحرب الأفكار، كتبا بأنها برهنت كمراكز أفكار أن تأثيرها يمكن أن يكون مهما. وحالة الـPNAC تظهر قدرة حفنة من “المفكرين” الملتزمين على تحديد الأجندة السياسية وتوفيق مفاهيم ورؤى العالم التي ستضع بنى العمل السياسي وتوسع عناصر النقاش السياسي العام، كما تطرحه مؤسسة كاتو إلى درجة تغيير مصير بلد أو عدة بلدان (ص (53 ليخلص المؤلفان هنا إلى أن مراكز الفكر هي رهان أساسي للديمقراطية الحديثة!.