Menu

خاصماس ودم ومستوطنات: التجارة القذرة

بوابة الهدف - أحمد مصطفى جابر

ليس "Blood Diamond))" أو الماس الدموي، الماس الملطخ بالدم، مجرد اسم لفيلم سينمائي شهير، بل هو دلالة على جريمة عالمية مستمرة، تغذي وتتغذى على العنف المستشري في مناطق إنتاج هذا المعدن الكربوني النفيس.

قطع نفيسة من الكربون المتحجر عبر ملايين السنين، يتحلى بها الناس حول العالم، دون أن يتمكنوا من لمس لزوجة الدماء عليها أو رائحة هذه الدماء، دماء عشرات الآلاف من الفقراء المعدمين من ضحايا الصراعات الدموية، التي يعززها الشره الرأسمالي، لمزيد من الأرباح، على حساب الضحايا الذين لايستفيدون شيئا من عائدات هذا المعدن الذي تفيض به بلادهم.

قصة الماس، تشبه قصة النفط في العصر الحديث، وتشبه قصة الشاي في القرن الثامن عشر، وقصة أي منتج في بلد فقير يريد المستعمر الاستحواذ عليه فإن لم يكن سلما فحربا، وإن لم يكن بالاحتلال المباشر، بتحويل هذا البلد إلى جحيم يمكن هؤلاء من شركات عالمية مدعومة بأنظمة ناهبة من الاستحواذ على خيرات هذا البلد بحرب وقودها أهله وأصحاب الثروة الشرعيين.

وهذا النص، الذي يعتمد على التقارير الرسمية والصحفية العالمية، لن يناقش تاريخ تجارة الماس عموما، بل سيناقش الدور الصهيوني في هذه التجارة، وسيتتبع خيوط الممارسة "الإسرائيلية" الجشعة للوصول إلى الماس بأبخس الأسعار وتحويله إلى تركيم رأسمالي يدعم الوحشية الصهيونية، يدعم الاحتلال والاستيطان والقمع الدموي للشعب الفلسطيني.

اقرأ ايضا: تجارة السلاح الصهيونية: كيف يشارك الكيان ويدير عمليات الإبادة والقمع حول العالم

وسنرى كيف أن مصطلح "أبخس الأسعار" مصطلح مبالغ به، فالكيان يدفع الفتات، ليس للشعوب المعنية بل للجماعات المسلحة المتصارعة على ما تبقيه لها الشركات العالمية، يدفع سلاحا وأجهزة قمع تعزز عملية الفتك والاستنزاف البشري، فتكون الجريمة التي ترتكبها هذه الدولة المارقة "إسرائيل" عابرة للقارات، مستدامة و معولمة تتغذى على نتاجها بكل معنى الكلمة، تماما كما هو حال تجارة السلاح الصهيونية وبارتباط وثيق معها.

مؤخرا، ألقت موظفة شابة بنفسها من شرفة مكتبها في شركة ماس كبرى في تل أبيب، في البداية وصفت الحادثة بأنها انتحار، ثم بدأت التقارير تتدفق، وصولا إلى اتهامات بالقتل، تعززها ادعاءات الإدارة أن المحاسبة المنتحرة أو المنحورة كانت متورطة في عمليات تهريب وغسيل أموال، أو من الجهة الأخرى أنها كشفت عن مثل هذه العمليات.

هذا الخبر، كان يمكن أن يمر بسهولة في ظرف عادي، ولكن من جهة يواجه أكبر رجال الماس "الإسرائيلي" ملاحقات من قبل الشرطة لتهم تتعلق بغسيل الأموال والتهرب من الضرائب وغيرها، ويبدو أن لانتحار الموظفة أو نحرها علاقة وثيقة بهذه التحقيقات، ومن جهة أخرى تواجه صناعة الماس "الإسرائيلية" سلسلة من الفضائح متعلقة تحديدا، بالتورط في جرائم حرب، وغسيل أموال.

التجارة القذرة بين إسرائيل والولايات المتحدة

ليس الماس طبعا هو التجارة الوحيدة بين الكيان الصهيوني والولايات المتحدة التي توصف بأنها "تجارة قذرة"، فصفققات السلاح هي أكثر قذارة وخطورة، ناهيك عن التجارة والألاعيب السياسية المشتركة، ولكن في سياق بحثنا، فمن المعقول القول أن تجارة الماس ليست مشكلة بحد ذاتها، لكن تغدو كذلك، عندما يكون مصدره الجريمة والإبادات الجماعية والاستغلال المشين في أفريقيا، واستخدام المال الناتج عنه أيضا في الإثراء الفاحش من جهة ولتمويل المجرمين من جهة أخرى، وكل هذا على علاقة وثيقة بالشراكة الاستراتيجية والأمنية والتجارية بين الكيان الصهيوني والولايات المتحدة الأمريكية.كتب المحلل الأمريكي كين روبرتس وهو أيضا رئيس شركة وورلد سيتي، أنه إذا كان لديك ماسة على إصبعك أو دفعت مبلغاً ما لوضع ماسة في إصبع شخص ما "فهناك احتمالات جيدة أنك كنت تدعم التجارة بين الولايات المتحدة وإسرائيل"، وهذا أيضا قد لايكون مشكلة، ولكن المشكلة هي أن هذه التجارة، تساهم بشكل كبير جدا ليس فقط في تمويل الانتهاكات الصهيونية لحقوق الإنسان الفلسطيني، ما يجعل الولايات المتحدة متورطة في هذا المجال –كما في جميع المجالات المتعلقة بالجرائم الصهيونية- وأيضا أن الولايات المتحدة تساهم بالنسبة الأكبر في تبييض الماس الصهيوني المصقول وإخفاء آثاره لتسهيل دمجه في السوق العالمي، وهي عملية مماثلة تماما لعمليات غسيل الأموال.

ولمزيد من التفاصيل حول هذه التجارة، فقد لاحظ كين روبرتس في المقال الذي كتبه عام 2017 أن أهم صادرات الكيان الصهيوني إلى الولايات المتحدة هي الماس، والعكس صحيح أيضا، وبالتالي يتساءل في المقال نفسه ما إذا كان دونالد ترامب، في الرحلة المباشرة التي قام بها من الرياض إلى تل أبيب قد ناقش وضع هذه التجارة، وتراجعها كما سنلحظ بعد قليل، مع العلم أنه بالنسبة للولايات المتحدة جاء الماس في مرتبة خارج العشرة الكبار من مواد التصدير، تحديدا في المرتبة 11، ولكن يجب الانتباه هنا أننا نتحدث عن عناصر تصدير تضمها القائمة الأمريكية ويتم تصنيفها بلغت أكثر من 1200منتج، بالتالي فإن الترتيب 11 أو 12، هو ترتيب متقدم جدا على سلم يضم 1200 منتجا كما ذكرنا.

وبتفصيل أكبر بلغ إجمالي تصدير الماس الأمريكي عام 2016 أكثر من 19.5 مليار دولار فيما كانت صادرات هذا المعدن الثمين تبلغ 23.9 مليار دولار، وفقا لتقارير شركة وورلد سيتي.

يضيف روبرتس في تقريره أنه حتى العام 2016 وبأثر رجعي لربع قرن على الأقل كانت "إسرائيل" تقود تجارة الماس من وإلى الولايات المتحدة، حيث ما لايقل عن 30% من جميع الماس المستورد إلى الولايات المتحدة كان يأتي من"إسرئيل"، وبلغت النسب أحيانا أكثر من 49% طوال سنوات 2005-2007.

ومزيدا من الأرقام لتوضيح انخفاض التجارة الذي ذكرناه آعلاه، تفيد المعلومات المتداولة والتقارير الاقتصادية أن صادرات الماس الصهيوني تراجعت بنسبة مذهلة منذ العدوان الصهيوني على غزة عام 2014 لتبلغ 45% فقط من نسبتها المعتادة، حسب تقرير كتبه شون كلينتون في الميدل ايست مونيتور، مطلع هذا الشهر، ذلك العدوان الذي للتذكير أودى بحياة 2200 شهيدا فلسطينيا على الأقل بما فيهم 550 طفلا أو أكثر.

هذا الانخفاض الكبير في منتج التصدير رقم 1 في الكيان الصهيوني أدى إلى عملية متدحرجة، حيث انخفضت الصادرات الصناعية الكلية بنسبة 22% ما بين عامي 2014 و2017، ووفقا للبيانات الصادرة عن مركز التجارة، كانت صادرات "إسرائيل" الصناعية في عام 2017 أقل بشكل قابل للتسجيل مما كانت عليه في عام 2010.

طبعا، ذهب المحللون في "إسرائيل" وغيرهم أيضا إلى قراءة البيانات بطريقة تربط انخفاض صادرات الماس بتراجع الطلب العالمي وعلى العولمة والتجارة المفتوحة، ولكن هذا الانخفاض المفاجئ ينبؤ أن للتحليل اتجاه آخر لم يتم سلوكه ويظهر أن ثمة أمورا مخفية أكثر لابد من التدقيق فيها.

تقارير شركة " دي بيرز" السنوية، وهي شركة تعدين متعددة الجنسيات وتستحوذ على أسواق الماس، أظهرت على العكس من الادعاءات السابقة، بأن حالة السوق العالمية تظهر زيادة الطلب بشكل طفيف على مدى السنوات الخمس الماضية، أكثر من ذلك فقد كانت حالة "إسرائيل" في انخفاض الصادرات، متفردة، ولم يتم تسجيلها في أي بلد آخر، خصوصا أن صناعة الماس البلجيكية والمرتبطة تحديدا بتجارة الماس الخام والصلب من وإلى "إسرائيل" تراجعت هي الأخرى وتأثرت بالتراجع الحاد في صادرات "إسرائيل" وفي الوقت نفسه، كسبت الهند حصة في السوق، وفي عام 2016، للمرة الأولى على الإطلاق، بدأت برفع صادراتها من الماس.

قبل هذه الأرقام، بالعودة إلى 2006 مثلا كان الموقع الإلكتروني لوزارة الخارجية "الإسرائيلية" قد أعلن أن إجمالي صادرات إسرائيل من الماس بلغ 13 مليار دولار في عام 2006، حيث احتلت الولايات المتحدة المرتبة الأولى في قائمة الدول المستوردة، وشكل الماس 63% من الصادرات "الإسرائيلية". وتبع ذلك هونغ كونغ، التي شكلت 14%، وسويسرا بنسبة 11%، ورغم أن "إسرائيل" تنتج حاليا معظم الماس المصقول في العالم، حيث تصل إلى 40%، فإنها لا تزال تسعى إلى الاستيلاء على المزيد من البلدان الأفريقية، وقد سبق لها عام 2007 أن وقعت اتفاقية مع ليبيريا، تنص على أن ترسل "إسرائيل" خبراء لمساعدة ليبيريا في البحث عن الماس.

ولكن هذا بدأ يتغير عام 2016، كما قلنا مع تراجع "إسرائيل" وصعود الهند في هذا المجال، حيث أصبحت الهند أكبر مورد للماس إلى الولايات المتحدة وانزلق الكيان الصهيوني إلى المرتبة الثانية، بنسبة أقل من 30% في جميع الوراردات لأول مرة.

فمن إجمالي 23.9 مليار دولار هي مبلغ واردات الولايات المتحدة من الماس عام 2016 كانت حصة الهند 36.07% وهو رقم قياسي للهند التي تتجاوز الـ30% للسنة الرابعة على التوالي، فيما بقي مستوى "إسرائيل" عند 29.6% مقارنة مع 40.58% عام 2012. مع العلم أن بلجيكا تجاوزت أيضا الـ40% في العام 2016 وإلى حد ما هونغ كونغ أيضا.

وقد تم تصنيف الكيان الصهيوني كشريك تجاري للولايات المتحدة في المرتبة 22 عام 2016 وهو ترتيب أفضل مما كان عليه عام 2015، وبلغ إجمالي التبادل التجاري 35.4 مليار دولار بينما جاءت المملكة العربية السعودية في المرتبة 23 بانخفاض مرتبتين عن العام 2015، مع العلم أن ترتيب "إسرائيل" قبلها بخمس سنوات في العام 2011 جاء في المرتبة 26 والسعودية في المرتبة 12.

ولكن ثمة فارق أساسي بين "إسرائيل" والسعودية وغيرها أيضا من البلدان، يجب التنبيه له لضرورته في قراءة الفقرة السابقة، ففي حين تهيمن تجارة النفط على صادرات السعودية وبعض البلدان الأخرى، فإن "إسرائيل" تعتبر موردا أساسيا لفئة رائدة من الأدوية وتحتل المرتبة الخامسة في هذا المجال بعد إيرلندا وألمانيا وسويسرا والهند، وهي تجارة ارتفعت إلى 14.66% حتى نهاية 2017، في وقت يمثل فيه الماس "الإسرائيلي" أقل بقليل من 40% من جميع واردات الولايات المتحدة، وبالعكس، تمثل صادرات الولايات المتحدة من الماس إلى الكيان أقل من 30% من جميع شحناتها الخارجية، وهذه المركزية للماس في التجارة "الإسرائيلية" تفسر أثره على الانخفاض العام لمجمل الصادرات الصناعية.

تجارة مغموسة بالدم:

لايمكن التغاضي عن أن تراجع تجارة الماس "الإسرائيلية" باعتبار أن مجوهرات الماس، هي منتجات تستهلك بشكل شخصي من الزبائن، مرتبط بشكل كبير بوعي متزايد لدى المنظمات المعنية وبوعي جمهور المستهلكين، بحقيقة علامتها التجارية المميزة الملوثة بالدم، كما هو حال منتجات المستوطنات، وهو ما أبرزته الحملة العالمية للمقاطعة وسحب الاستثمارات والعقوبات، التي كشفت بشكل واضح العلاقة بين صناعة المجوهرات والماس على وجه الخصوص بانتهاكات مشينة لحقوق الإنسان تمارسها دولة الكيان ويتم تمويلها بدرجة كبيرة من خلال هذه التجارة، وكذلك أيضا لايمكن تجاهل ارتباط انخفاض الصادرات بنسبة 6% خلال العام 2018 بجرائم الجيش الصهيوني ضد الفلسطينيين في قطاع غزة في إطار مسيرات العودة الكبرى.

وللرد على تردي سمعتها في هذا المجال، ولأن شراء الماس كما قلنا قرار شخصي للزبائن، تقدم "إسرائيل" ميزات إضافية غير مسبوقة للمستثمرين تتراوح بين تغطية تكاليف الانتقال الجوي، وتكاليف الإقامات الفندقية في محلولة لجذب المشترين إلى تل أبيب في ظل صمت المنظمات غير الحكومية ومنظمات حقوق الإنسان باستثناء ما قامت به منظمة بتسيلم.

حيث رغم هذا الصمت كان الفضل عام 2012 يعود لجماعة بتسيلم في الكشف عن إحدى أكبر الفضائح في تجارة الماس "الإسرائيلي"، حيث كشفت علاقة الرعاية بين مجموعة شتاينميتز دايموند (SDG) وعلامتها التجارية "تيفاني" ولواء جفعاتي المتهم بارتكاب جرائم حرب وهو المسؤول عن مذبحة عائلة السموني في غزة عام 2009.

لكن هذا لم يمر بسهولة، فعندما عرضت مجموعة دي بيرز التي تملكها شركة أنجلو أمريكان مجموعة من الألماس تخص شركة "شتاينميتز" في برج لندن تكريماً لليوبيل الماسي في إنجلترا، جرت احتجاجات كبيرة خارج المعرض من قبل نشطاء حقوق الإنسان، وقام حينها أحد أفراد عائلة السموني بتسجيل مقطع فيديو يدعو إلى طرد الماس الدموي، وبالفعل، بعد عدة شهور تم سحب هذه المجموعة بدون ضجة وبعد ذلك لم يسمع عنها أحد أي شيء، ولكن يظهر في متابعتنا أن للقصة بقية: في يناير 2013، تم إرسال رسالة مسجلة إلى الرئيس التنفيذي لمجلس إدارة سوثبي ومجلس الإدارة ينبههم إلى الأضرار التي لحقت بسمعتهم والمخاطر التي تتعرض لها علامتهم التجارية بسبب شراكتهم مع مجموعة شتاينميتز.

بعد ذلك بشهور في جنيف، في مزاد تمت تغطيته عالميا، عرضت دار سوثبي للمزادات العلنية ماسا يخص شتاينميتز، وهو عينة ماس تم شراؤها من قبل مجموعة من المستثمرين بقيادة إسحاق وولف مقابل رقم قياسي عالمي يبلغ 83 مليون دولار، و لم تذكر الدعاية والتداول قبل المزاد أي دلالة على أن الماس قد شوه بالارتباط بجرائم الحرب في غزة، وبعد أربعة أشهر من المزاد، تم الكشف عن أن المستثمرين تخلفوا عن سداد ديونهم، واضطرت سوثبيز إلى أخذ الماس إلى المخزن ما كلفهم الملايين. وفي نيسان/ أبريل 2017، وفي حدث أكثر هدوءًا، بدون ضجة إعلامية، تم بيع الماس الدموي في مزاد في هونغ كونغ واشترته شركة Chow Tai Fook مقابل 71 مليون دولار.

إسرائيل المستورد والمصدر الأكبر: من أين وكيف تأتي بالماس الخام؟

الجواب بسيط ومعروف، من دول أفريقية مثل جنوب أفريقيا وليبريا والكونغو وساحل العاج وغيرها، كما من روسيا وكندا ولكن في أفريقيا بالذات، ترافق الماس مع السلاح، حيث يتم استيراده من جماعات تعتبر شريكة مباشرة بالمذابح ضد المدنيين للحصول على الماس، تدفع "إسرائيل" سلاحا غير شرعي وتحصل على الماس في المقابل، في تجارة خارج كل قانون مقبول، فالكيان ليس بحاجة إلى المال لتمويل مشترياته من الماس، السلاح في مقابل الماس هو الوصفة المضمونة التي تساهم في حصول الكيان على مايريده، وتحصل الجماعات المسلحة على ما تريد من سلاح صهيوني يتسبب في إراقة الدم المستمر في الدول الأفريقية المعنية التي تنهشها النزاعات والتمردات والحروب الأهلية، عبر تجارة بات معروفا أنها تقتل عشرات الآلاف سنويا في بلدان المنشأ، حيث ترتبط صفقات الماس بشكل لا لبس فيه بصفقات السلاح القاتل وتمويل الحروب الأهلية والجماعات المقاتلة، ما تسبب في وصف تجارة الماس الأفريقية بأنها "تجارة قذرة"، ويطلق على الماس القادم من هناك "الماس االدموي" حسب اتهام رسمي من الأمم المتحدة، لأنه غارق فعليا بدماء عشرات الآلاف من الأفارقة كما في سيراليون والكونغو وأنغولا.

كيف صعدت "إسرائيل" في تجارة وصناعة الماس؟

يصدّر الكيان الصهيوني حاليا أكثر من خمسين مليار دولار سنويا من الماس، ولكن هذا الأمر يستند إلى تاريخ طويل وليس طفرة، حيث يعود التفوق الصهيوني في هذه الصناعة إلى ثلاثة عناصر، أولها العلاقات المميزة مع نظام بريتوريا العنصري في حينه والسابق أصلا على قيام الكيان الصهيوني، وأيضا تجاهل الكيان للقوانين الدولية الناظمة التي تمنع التجارة القذرة، المرتبطة بصناعة وتصدير السلاح، والسبب الثالث الأهم برأينا أنه من المعروف أنه في الحظر المهني على اليهود منذ العصور الوسطى في أوربا تم إعفاء الماس والذهب من هذا الحظر، ما أدى إلى ظهور طبقة يهودية كبيرة متمرسة في هذا المجال، تم استثمارها بشكل مناسب من الحركة الصهيونية بعد المؤتمر الصهيوني الأول في بازل في سويسرا الذي انعقد عام 1897، حيث كانت معضلة التمويل إحدى أهم المعضلات الني نوقشت في المؤتمر والتي طرحها هرتزل بنفسه، وبينما تسرد القصة العامة، تضامن اليهود وقصة التبرعات اليهودية التي دعمت وأنشأت الكيان الصهيوني والحركة الصهيونية إلا أن هناك وجه آخر للقصة غير متداول، فبتوجيه من الحركة الصهيونية وتحت إشرافها أنشأ إدموند روتشيلد المليارير اليهودي المشهور، [وهو قريب ليونيل والتر روتشيلد الذي حاز على رسالة بلفور الشهيرة (وعد بلفور)]، أول مصنع للماس في مستوطنة بتاح تكفا في فلسطين المحتلة، عام 1937، وتم استقدام خبراء الماس اليهود من أوربا من بلجيكا وهولندا للعمل في هذا المصنع. فيما بعد نشأت مصانع أخرى للماس في فلسطين، أهمها في رامات غان (حيث مقر بورصة الماس حاليا)، تم جمعها في ما يسمى "اتحاد صناعات الماس الإسرائيلية" الذي ازدهرت أعماله بشكل كبير بعد احتلال ألمانيا للعديد من المدن الأوربية التي كانت تعتبر مراكز لتصنيع الماس، وهجرة العاملين في هذا المجال إلى فلسطين المحتلة.

وقد ألقى نيكي اوبنهايمر رئيس مجموعة (دي بيرز واوبنهايمر) لاستخراج وصناعة الماس مزيدا من الضوء في خطاب له عام 2003 في تل أبيب، ضمن فاعليات مؤتمر الماس العالمي ال32 وشرح فيه كيف وافق جده الأكبر إرنست اوبنهايمر على نقل شحنة أول صفقة ضخمة من الألماس الخاص بمساعدة إدموند روتشيلد من لندن إلى مستعمرة ناتانيا سنة 1940.

بعد تأسيس "إسرائيل" اهتمت الدولة بشكل خاص بهذه الصناعة والتجارة، حيث ازدهرت ونمت بشكل كبير، وتطورت تقنياتها ومعداتها، استنادا إلى الخبرة التاريخية، لدى هذه الطبقة من الصنّاع، ما حول "إسرائيل" إلى مركز عالمي، حتى أن موقع رئيس الاتحاد العالمي لبورصات الماس قد تم شغله عدة مرات من قبل "إسرئيلي".

وتشير التقارير أن صناعة الماس وتصديره في الكيان الصهيوني تساهم بشكل جوهري في ميزانية وزارة الحرب، إذ بلغت هذه المساهمة أكثر من مليار دولار اعتبارا من 2012، كما بلغت إيرادات هذه التجارة 30% من إجمالي الدخل القومي عام 2011، وكانت تجارة الماس الخام والمصقول في الكيان تجاوزت 9.2% عام 2014 من الصادرات. واعتبارا من 2012 يسعى الكيان الصهيوني إلى استخراج الماس محليا، عبر اختبارات جيولوجية قرب مدينة حيفا من خلال شركة شيفا يميم.

السمة الخاصة في تجارة الماس الصهيونية أن الغالبية العظمى من التجار هم جنرالات سابقون في جيش الاحتلال، وعملاء سابقون للموساد، يعملون في هذا المجال جنبا إلى جنب مع تجارة السلاح كموضوعين مرتبطين ومتكاملين، وتستخدم هذه الأموال لتمويل المستوطنات بشكل كبير، وأبرز مثال على ذلك الملياردير الإسرائيلي ليف ليفيف، وهو يهودي من أصل روسي كان ضابطا في الجيش الصهيوني يعمل في أفريقيا، وهو حاليا أحد أهم القادة في صناعة الألماس والتجارة في العالم وممول كبير للمستوطنات ورئيس صندوق "الأرض الإسرائيلية"، وهي منظمة يهودية يديرها متطرفون يهود يهدفون إلى سرقة الأرض الفلسطينية عن طريق العنف.

كيف تزور "إسرائيل" شهادات المنشأ لتغطية التجارة القذرة؟

تظهر التقارير أن "إسرائيل" تتبع العديد من الأساليب للاحتيال على القانون الدولي، في محاولة يائسة لتبييض سمعة انتاجها من المس المصقول، وهي في هذا تستهدف أمرين متكاملين، الأول إخفاء آثار بلد المنشأ الأصلي التي يمكن الوصول إليها من الماس الخام، عبر صقله، والثاني إعادة إدراج ماسها المصقول بعد إخفاء العلامات الأصلية بصقله، في السوق العالمية ما يجعل من المستحيل تتبعه.

من أبرز الوسائل استخدام "إسرائيل" لنظام دولي، وضع أًصلا لتتبع الماس المشبوه وتأكيد بلد المنشأ، وهو خطة كمبرلي التي أنشئت عام 2000 كخطة عالمية تهدف للتدقيق في شهادات المنشأ الخاصة بالماس في محاولة لتتبع "الماس الممول للصراعات" ومنعه من دخول سوق الماس الخام التزاما بقرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 55/56، ولكن تبين لاحقا أن هذه الاتفاقية انحرفت عن أهدافها وأصبحت تستخدم لتبييض الماس القذر وإصدار شهادات له بأنه خال من الصراعات، وقد تبين أن الكيان الصهيوني استخدم هذا الانحراف حتى أقصى حدوده.

وبدون الخوض في صراعات كمبرلي والنقاشات حولها وما يفعله نشطاء حقوق الإنسان لإعادة العملية إلى مسارها، فمن يمكن القول أن عملية كمبرلي لن تكون مجدية إذا لم يتم على الأقل توسيع تعريفها للخام المشبوه بإدراج الخام الممول للعنف وانتهاكات حقوق الإنسان حتى لو كان مصقولا في اللائحة السوداء، وهو ما يجب أن يطال الماس المنتج في "إسرائيل".

في الحقيقة إن الكيان الصهيوني طالما استخدم خطة عملية كيمبرلي لتغطية ماسه الدموي، فهذه الخطة قد انحرفت عن أهدافها فعليا وأصبحت هي الأداة الرئيسية التي تسهل تجارة الماس الدموي الجارية. فعلى الرغم من أن الخطة تقتصر صلاحياتها عمداً على حظر الماس الخام حيث يقتصر تعريف كمبرلي حاليا بالنسبة للمال القذر على الماس الخام "المكتسب من خلال العنف المنهجي واسع النطاق، والعمل القسري، وأسوأ أشكال عمل الأطفال، أو من خلال انتهاك للقانون الدولي فإنه بموجب هذه الفجوة سيظل الماس الخام الذي يمول الأنظمة المذنبة بارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان قانونيًا تمامًا.

و صائغو المجوهرات يستخدمون هذه الفجوة في التعريف للمطالبة باعتبار ماسهم خال من النزاعات بعد صقله وإعادة تدويره ودمجه في سوق الماس الشرعي بشكل لايمكن بعده تتبعه، وهذا ما يفعله الكيان الصهيوني، الذي عارض دائما توسيع الاتفاقية لتشمل الماس الذي يمول انتهاكات حقوق الإنسان.

للأسف فإن الإصلاحات التي عرضت في اجتماع كمبرلي في بروكسل الأسبوع الفائت لم ترتق إلى مستوى طموحات منظمات حقوق الإنسان والمجتمع المدني، وبقيت هناك فجوة كبيرة تغطي على الماس الاذي يمول جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية من قبل الأنظمة المارقة . كما هو معروف فإن قصور كمبرلي يضع علامات استفهام كبيرة على الهدف الفعلي منها، ولكن هذا القصور لايعفي المستهلكين النهائيين من المسؤولية، فهؤلاء في النهاية هم من تعتمد عليهم هذه الصناعة بأكملها، ومن حقهم معرفة مدى قانونية ما يشترونه من مجوهرات، ومن حسن الحظ أن الوعي العالمي يزداد في هذا المضمار. وإلا فإن صناعة الماس ستواجه أخطارا كبيرة إذا استمرت عملية كيمبرلي بتسهيل التجارة في الماس القذر.

واستتباعا لهذا فقد طالب نشطاء أوربيون بطرد "إسرائيل" من الاتفاقية، وحظر صادراتها من الماس ومن المحتمل أن يتم النظر في هذا الأمر في اجتماع هيئة تنظيم الماس في أنتويرب في الأسبوع القادم.

وبناء عليه قالت التقارير أنه وبسبب تورط صناعة الماس الصهيونية في جرائم حرب وأعمال عنف ضد الفلسطينيين وتمويل الاستيطان في أراض محتلة، فإن رئيس الاتحاد الأوروبي لعملية كيمبرلي، هيلد هاردمان، يسعى إلى تعليق فوري لعضوية "إسرائيل" من عملية كيمبرلي إلى حين إجراء تحقيق كامل ومستقل وشفاف عن تصرفات القوات الصهيونية في غزة بين 30 مارس 2018 و 8 يونيو 2018 والجرائم المرتكبة ضد الفلسطينيين في مظاهرات العودة الكبرى في قطاع غزة.

الطريقة الأخرى التي تستخدم هي تغيير الملكيات ونقل العلامات التجارية، حيث في محاولة لتغطية الآثار تم الكشف عن أن بيني شتاينمتز باع حصته في SDG إلى شقيقه دانيال وتم تغيير اسم الشركة إلى Diacore. ويعتقد بعض المراقبين أن هذا كان بهدف فصل العلامات التجارية الرائدة بما في ذلك الماس تيفاني، دي بيرز، دار سوثبي للمزادات وفورافر ميركر عن ن العلامة التجارية شتاينميتز التي ساءت سمعتها وستظل مرتبطة دائما بالجريمة ومجزرة آل السموني.

ولكن رغم أن علامة تيفاتي فصلت عن شتاينمتز فإنها لا تزال تخفي هوية الشركات التي تشتري منها 25 إلى 35 في المائة من ماسها المصقول. ولذلك، لا يمكن لعملاء تيفاني أن يعرفوا من أين تأتي مجوهراتهم كما ألمح رئيسها التنفيذي الجديد أليساندرو بجليونو في تقرير الاستدامة لعام 2017.

الطريقة الجديدة في مصفوفة الخداع استخدام تقنية تسمى blockchain لتسجيل جميع المعاملات التي تتعلق بالماس رقميا من السوق إلى السوق. ففي حين أن التكنولوجيا لديها القدرة على تزويد المستهلكين بالمعلومات اللازمة لاتخاذ قرار مستنير حول المصدر الأخلاقي للماس، فإن المعلومات التفصيلية ستكون متاحة فقط "للمستخدمين المصرح لهم"، حيث أن "ضوابط الخصوصية" ستمنع المستهلكين من الوصول إلى "البيانات الحساسة".

في هذه الظروف فمن العادل مطالبة منظمات حقوق الإنسان وحركة المقاطة التركيز أكثر بشكل شخصي على زبائن الماس الصهيوني، إذ أنه وعلى عكس الإلكترونيات والمستحضرات الصيدلانية والمواد الكيماوية والسلع الأخرى التي تصدرها "إسرائيل"، يعتبر الماس عملية شراء شخصية وشاملة للغاية للمستهلكين الأفراد. ومعظم الناس الذين يشترون الماس لا يعرفون سوى القليل عن محنة الشعب الفلسطيني، لكن عندما يوضعون على محك آلاف الدولارات مقابل قطع من الكربون المصقول فإن من المناسب اعتبار أنهم سيأبهون للأمر إذا تبينت لهم الحقائق.

ثمة تجارب مفيدة في هذا السياق في أفريقيا حيث أن عقودا من الدعاية حول الفظائع المرتبطة بتجارة الماس في أجزاء من أفريقيا قد دفعت الجمهور إلى رفض الماس الملطخ بالدماء لأسباب أخلاقية وأسباب أخرى تتعلق بالضغوط والأزمات و الجواهريين يعرفون ذلك جيداً ولا يستطيعون تحمل تلطيخ صورة علامتهم التجارية وسمعتهم التي شوهت من خلال ارتباطهم بدماء وفظائع جرائم الحرب الصهيونية في فلسطين أو غيرها من الأنظمة المارقة في أفريقيا .

أخيرا:

وعلى الرغم من أن الكيان الصهيوني لايملك حتى الآن مناجم ماس خاصة به إلا أنه يعتبر كما ذكرنا مركزا تجاريا مهما تبلغ قيمته الإجمالية 19.4 مليار دولار، وتمثل الماسات الدموية القادمة من إسرائيل حوالي 30 في المائة من حصة السوق العالمية من حيث القيمة.

وما زال الكيان الصهيوني قادرا حتى الآن على التهرب من المعايير الدولية بسبب قدرته على الاحتيال من جهة وقصور هذه المعايير وانحرافها من جهة أخرى، يبقى القول أن بلدانا عربية تعتبر من مستهلكي الماس الصهيوني مثل لبنان، وكذلك مستهلكين للعلامات المتورطة في جرائم حرب كما تونس ولبنان و مصر والإمارات وغيرها، وما زالت الرقابة العربية قاصرة أو ممتنعة عن ملاحقة وتطهير الأسواق العربية من هذا المنتج الدموي، ما يعتبر مساهمة مباشرة في جرائم الحرب الصهيونية (ضد الشعب العربي الفلسطيني)، وفي سفك دماء عشرات آلاف الأفارقة سنويا.