Menu

حسين البدري يكتب للهدف: رواية الدم الفلسطيني

حسين البدري

المقاومة ضرورة إنسانية مطلقة في تحقيق الذات الإنسانية ومشروعة في مختلف تجلياتها

محمود أمين العالم

عندما طلب مني الصديق العزيز د. وسام الفقعاوي الكتابة عن أدب المقاومة استدعت ذاكرتي على الفور مقولة "فلسطين تستيقظ بعد القتال، والقتال من أجلها لا يخطئ طريق الانتصار"، الواردة في إحدى دراسات الناقد فيصل دراج التي وصف خلالها أدب الروائيين الراحلين جبرا إبراهيم جبرا بـ"لاهوت الأمل" و غسان كنفاني بـ"ميتافيزيقا التمرد الشامل".

لقد شكلت روايات "رجال في الشمس"، "ما تبقى لكم"، "البحث عن وليد مسعود" وغيرها من العناوين المهمة في الأدب الفلسطيني الإرهاصات الأولى للانتفاضة المجيدة في 9 ديسمبر 1987 وكانت بمثابة البارود الذي يحشو بنادق الفدائيين والحجارة في أيدي الصبية يرشقون بها مجنزرات العدو الصهيوني، وأبقت في الذاكرة أطياف المخيم حاضرة تملأ الوجدان العربي للحظة القادمة لا محالة، لحظة الاشتباك الشامل حين يمتشق العربي سيف أحلامه ويدق "أبو قيس، أسعد، ومروان" بعنف وغضب "جدران الخزان"، ويؤمن الفلسطيني أنه لم يخلق للعيش غريبا في الشتات أو للموت المجاني برصاص الاحتلال إنما ما يبقيه على قيد الأحلام يتمثل في "لاهوت تحرير" بصيغة واحدة لا تقبل التفاوض يفرضها حقه المسلوب في بلاده.

أدب المقاومة ليس صيغة فنية تحمل هموم الفلسطيني إلى عقول القراء فقط بقدر ما يشكل في جوهره رؤية متكاملة للعالم تتجاوز فكرة تحرير الوطن من المحتل إلى أخرى أكثر رحابة تتمسك بالمقولات الكبرى في زمن تضخم فيه حجم الصغار وصارت أطروحاتهم الخيانية تملأ الفضاء بسموم استسلامية لا حصر لها، لذلك فإن الإبداع المقاوم يعد حائط الصد الأول ضد التفريط في الحقوق التاريخية للفلسطينيين، فبدونه يكون الوجدان العربي مساحة خصبة ترعى فيها الأفكار المدعومة بالدولار واليورو والملوثة برائحة النفط المحكوم عليها بالفناء.

تندر في المجتمعات العربية للأسف في زمن الاستسلام الرسمي الذي نحياه الآن رواج الروايات التي تناقش الانتفاضة أو تحض على المقاومة بصفة عامة، فضلا عن أن الروايات التي عبرت عن الانتفاضة قليلة نسبيا، فيما أثر الشعر والقصة القصيرة والفنون التشكيلية أكثر في الوجدان الفلسطيني وعبر عن انتفاضته، كما يرى الناقد مصطفى عبد الغني في كتابه "الاتجاه القومي في الرواية"، معتبرا أن فترة الثمانينيات شهدت تحولات ثقافية كانت بمثابة رد فعل إيجابي على "انكسار السبعينيات" عبر خيار واحد يتمثل في الاتجاه النضالي الذي يتجاوز البكاء والتوسل بالتاريخ إلى ربط الواقع الاجتماعي بالسياسي، في محاولة رسم طريق الخلاص الشامل.

الملاحظة المهمة في كتاب "عبد الغني" تتمثل في صورة البطل القومي الجديد الذي تمظهر من خلال الروايات التي تناولت الانتفاضة، الذي يتحدد على أنه ليس فردا أسطوريا بقدر ما هـو جماعي آت من الجماهير وخارج بها إلى التغيير المطلوب، مبرزا نصي "زغاريد الانتفاضة" للروائي محمد وتد، و"الجراد يحب البطيخ" للروائي راضي شحاتة، ملاحظا أن الانتفاضة تحول أحد نصوصها إلى ملحمة (زغاريد) والآخر إلى تغريبة أسطورية (الجراد)، بينما يبقى الوعي الحاد أوضح الملاحظات قاطبة، بالإضافة إلى عدم وجود بطل واحد على كثرة الأبطال وغلبة أدوارهم، إذ تحولت الانتفاضة -في حد ذاتها- إلى حالة أسطورية.

في كتابه "الرواية وتأويل التاريخ" يعتبر فيصل دراج أن الرواية العربية ولدت في بدايات القرن العشرين "في شرط غير روائي لأن البرجوازية العربية لم تنجز ثوراتها، كأنها ولدت معوقة وشديدة التلعثم ومليئة بالوهن". نفس هذه الرواية الموصوفة بالنعوت السابقة من أحد أهم النقاد العرب المعاصرين أشرقت منتصف القرن وسطعت شمسها في نهايته وفارقت تلعثمها مدفوعة في أحد أوجهها بالزخم التاريخي للمقاومة والدم الفلسطيني، وبالإضافة إلى الروائيين الفلسطينيين طالعنا نصوص شديدة الثراء من أدباء عرب مثل المصري بهاء طاهر واللبناني إلياس خوري وغيرهما من كبار المبدعين الذين استلهموا من القضية الفلسطينية والمجازر الصهيونية مادة أدبية تبقى الذاكرة حية وفي حالة استنفار دائم وشاهدة على الجريمة التي ترتكب يوميا في الأرض المحتلة على يد حكام وسكان المستعمرة الإسرائيلية.