شكلت الانتفاضة الفلسطينية الكبرى عام 1987، محطة نوعية جديدة في مسيرة الشعب الفلسطيني، واستمرارية لنضاله وكفاحه الوطني الذي لا يمكن فصله ميكانيكياً عن مراحله المتعددة والمختلفة. فكما قد تجد مقدمات ثورة البراق 1929، في وعد بلفور 1917، ستجد مقدمات ثورة 1936 في أول مستوطنة صهيونية أقيمت في فلسطين 1882، وكما قد تجد مقدمات انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة أواسط الستينيات في جمعية الفدائية التي تأسست في عشرينيات القرن المنصرم، قد تجد أن الانتفاضة الكبرى عام 1987، كانت مقدماتها في كل ما سبقها، من ثورات وهبات وانتفاضات، أكدت على تراكم العوامل وتكامل المراحل. وأي تراكم هذا إن لم يكن تعبيره في الجيشان الشعبي الانتفاضي الكانوني، الذي رسم ملامح "واقعية" لأهدافنا الوطنية، كنا نراها نحن بعيون الصبية التي ترنو نحو حلم بات على "مرمى حجر". وأي تكامل هذا إن لم يكن هو الامتداد الطبيعي لشعب لم يتعبه طول المسير وعِظم التضحيات، من أن يجدد ذاته، ويبقي حضوره، ويجسد عنفوانه، ويكتب في سِفر التاريخ عشقه للانعتاق والحرية والدولة والعدل والمساواة والديمقراطية.
لكن يا تُرى، لماذا 1929 و 1936 و 1965 و 1987 وما قبلهم وما بعدهم من ثورات وانتفاضات لم تقد للانتصار، بل لم تخلُ من وقوع النكبات والنكسات والكوارث العظام رغم كل التضحيات الجسام؟! هل المشكلة كانت في أن فاتورة الدم التي دُفعت لا تكفي لتسديد استحقاق الظفر بالنصر، فسددت نكبات ونكسات وكوارث؟! هل كان الحلم الذي بات على مرمى حجر وَهم، نسجناه من خيال طفولي جامح؟! أم هو حقيقة كنا نقترب منها بددها ليل الاستثمار السريع الفاضح؟! هل كنا قد تعبنا من دون أن ندري، كي يذهب بنا من استثمر "لنستريح" على كرسي متهالك في قطار التسوية؟! لماذا نختزل حتى أحلامنا حد الانكسار؟! هنا بداية الحكاية التي بدأت بحلم ووقفت على ناصيته لتقاتل.
في أتون الانتفاضة:
لم أكن قد بلغت الخامسة عشر من عمري عندما، اندلعت الانتفاضة بجيشانها الشعبي، الذي كان يصعب عليّ أن أستوعبه بشكل كافٍ في عمر الصبي، خاصة أن ما جرى كان يختلف تماماً عن ما سبقه، من أحداث وهبات، كانت تجري لساعات لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، وبشكل عشوائي غير منظم، اقتصر على ذكريات وأحداث منفصلة تخص الشعب الفلسطيني وسياق نضاله ضد الوجود الصهيوني.
الانتفاضة كانت شيء مختلف: بالاسم، والشعار، والهتاف، والنداء، والتنظيم، والفعل، والإبداع، ومنظومة القيم، والديمومة، والحشد، وحتى الدم الذي بات مشهداً يومياً لا يزول، وردّة فعل المُستعمِر التي دللت أن هناك متغير جديد، لم يعهده بهذا الحجم والمستوى والاتساع من قبل. فكما كانت المفاجأة للداخل الفلسطيني، الذي أخذ زمام المبادرة، من بوابة القيادة الوطنية الموحدة، وكل من انخرط بعدها في الفعل الانتفاضي الشعبي، كانت المفاجأة للمُستعمِر الذي استنفر أدوات قمعه وقتله ليقضي على طارئ لم يكن يعلم أنه بات دائم الحضور، هكذا كانت الانتفاضة.
قد تكون بداية الانخراط بالنسبة لي من أول شرارة قُدحت في زنادها، فتفتح "الوعي" الذي اختزنته من أسرة قدحت زناد الثورة في مراحل مبكرة من عمرها، منذ أوائل سبعينيات القرن المنصرم، حيث حل والدي كما أعمامي في أكثر من معتقل وسجن صهيوني، ولسنوات مختلفة، فجُبلّت مبكراً، كما تأقلمت في أن أجد نفسي دون أن أقف أمام سؤال ترف الاختيار، منحازاً لميدان الانتفاضة، مشمراً عن ساعدي اللاتي حملّن الحجارة، كما حملت غيرها من أدوات ووسائل الانتفاضة، حيث هنا تجسيد وعي الصبي، الذي وجد نفسه في أتونها، وشب على وقع ايقاع يومياتها التي كانت تعج بالجديد.
كانت الانتفاضة، كما الوردة التي نبتت حديثاً في تربة خصبة، ساقها يزداد اخضراراً، وزهرتها تتفتح شيئاً فشيئاً، وبات احمرارها ملفتاً، خاصة أن مساحة نموها لم تعد مقتصرة على المكان الذي شيّع أهله شهداء لقمة العيش الأربعة: طالب محمد أبو زيد وشعبان سعيد نبهان وعصام محمد حمودة وكمال قدورة حسن حمودة الذين داستهم عجلات مقطورة المُستعمِر الصهيوني بالقرب من ما عرف لاحقاً "بحاجز إيرز"، حيث لبت طولكرم نداء مخيم جباليا، ومدت الجليل يدها إلى غزة، فالمرجل بات يغلي على وقع يوميات لا تنتهي من البطولة والتضحيات.
كنا ننمو ونكبر مع الانتفاضة، وكلما اخضّر عودها، تصلّب عزمنا واشتد أكثر، وكلما تفتحت زهرتها، كنا نتنسم رحيق الحرية أكثر وأكثر.. كبرت الانتفاضة وكبر حلمنا معها، وزاد عنفوان انخراطنا في أتونها، الذي لم يكن عفوياً هذه المرة، ولم يكن ثمنه قليلاً بالمقابل: سجن، وجرح، وعرق، وخوف، وقتل، ومطاردة لا تنتهي.. لكن لم يأخذنا لهيب سوط الاحتلال وقمعه، بعيداً عن أتونها، فكلما زاد، ازددنا نمواً وكبراً واخضراراً وتفتحاً، هكذا كانت الانتفاضة.
الأمل والأزمة:
كانت الانتفاضة بوابة الأمل التي تفتح وعينا الصبي معها، وأعطتنا بقدر ما أعطيناها عنفواناً، وأملاً، وزخماً، وتفاؤلاً، وحلماً، وحجراً، بحيث لم نكن نقرأ سوى لحنها، ولا نسمع سوى سيمفونيتها، ولا نرى سوى عزف فرقتها، لذلك، لم تكن لكلمة "أزمة"، أي معنى أو دلالة عندنا. فنحن لم نكن حينها من جيل الأزمة، بل كنا العكس تماماً.
الآن، أي بعد أن شب وعي الصبي، وصدمه مصطلح الأزمة، الذي ذبلت على وقعه، وردة الانتفاضة، أسترجع كلمات الحكيم التي قالها في لقاء مع اتحاد الكتّاب والصحفيين الفلسطينيين بتاريخ 31/10/1983: "لا أستطيع أن أتبنى الجملة الواردة في (سفر التكوين) التي تقول في البدء كانت الكلمة، ولكنني، رغم أي جدل حول أولوية الكلمة، أو ألوية المادة، أعتقد أننا كلنا متفقون حول دور الكلمة.. دور النظرية.. دور التحليل.. دور تحديد البرامج التي تنبثق من مثل هذا التحليل... إن خروج الثورة الفلسطينية من أزمتها، لا يمكن أن يتم، بعد توفر وضوح الرؤية.. والتحليل.. بعد الجذور والحلول، إلا بعمل نضالي تراكمي متصل ينتج بالمحصلة.. تغيير في الواقع الطبقي لقيادة الثورة الفلسطينية.. تغيير وتصحيح في الخط السياسي الذي سارت عليه الثورة الفلسطينية حتى اللحظة.. وكذلك تغيير وتصحيح خطها التنظيمي والعسكري".
السؤال: هل كانت الانتفاضة هي بمثابة العمل النضالي التراكمي، الذي سينتج بالمحصلة التغيير والتصحيح المطلوبين، وبالتالي إخراج الثورة الفلسطينية وحركتها الوطنية من أزمتها؟
كانت هي بارقة أمل، على هذا الطريق.. نعم، لكن يبقى السؤال الذي يلقي بالمسؤولية: هل أحسنا الإمساك ببارقة الأمل تلك، لنخرج من الأزمة؟! وأقصد هنا القوى التي وعت حجم ومستوى الأزمة في ضوء طبيعة القيادة وموقعها الطبقي، أم أن بارقة الأمل التقطتها القيادة الطبقية ذاتها، لتخرج من أزمتها هي، لحساب أجندتها ومصالحها الخاصة؟!
الأمل في حينه، لم يكن يترك لنا مجال لسؤال الأزمة أو حتى التفكير به من الأساس، لأنه لم يكن وارد في قاموس الانتفاضة أصلاً، فأخذتنا كلمات: "الدولة على مرمى حجر" بعيداً، ولم نفكر كثيراً: أي دولة تلك المقصودة؟! ما شكلها وكيف مضمونها؟! والأهم بأي طريقة ستقام؟!
الأزمة في حينه، كانت مستمرة جنباً إلى جنب مع الأمل، رغم حالة الافتراق التي بدت بينهما في البدايات، إلى أن سيطرت الأزمة، وبات لها اليد الطولي في تحديد مسار الأمل، والشكل الذي ستكون عليها معالم "الدولة" التي كانت على مرمى الحجر أو الأمل في البدايات، وغدت على مرمى الأزمة فيما بعد..!!
كشف العورات:
لا يجب أن نخجل من استخدام مفردات قد نخدش حياء البعض بها، فلا شيء أكبر من أن نخدش دماء الشهداء، ولا شيء أكبر من أن نخدش حرية الأسرى، ولا شيء أكبر من أن نخدش جراح المصابين، ولا شيء أكبر من أن نخدش آهات الثكالى والمحرومين، ولا شيء أكبر من أن نخدش حقوق ملايين الفلسطينيين، الذين التقطوا بارقة الأمل (الانتفاضة)، وشبوا في أتونه على طول وعرض الوطن، كما في مواقع اللجوء والمنافي، وتمسكوا بناصية الحلم، ولبسوا معه ثياب العزة والكبرياء، وذادوا عنه بالمهج والأرواح والمال وسني العمر وكل ما هو متاح، لكن في الوقت الذي كان هناك من تسربل بلباس العزة والكبرياء من بوابة الحلم والأمل، كان هناك من يتعرى طواعية، على أبواب الأزمة والوهم، وكلما تعرى أكثر ازدادت أزمته أكثر، كما وهمه أيضاً.
كانت الانتفاضة، محطة نوعية جديدة نعم، سواء في كونها محطة نضالية مهمة وكبيرة في مسيرة الشعب الفلسطيني من ناحية، ومن ناحية أخرى، في كونها كشفت عن عورات القيادة المأزومة بحسابات التنظيم والمستوى والسياسة وميزان القوة والمفاوضات. فالتعري كان قد أصاب "الدماغ"، قبل أن يتمدد منه، ليكشف عن باقي عورات الجسم القيادي. لا أعرف لماذا استحضرت غسان كنفاني عندما قال: "فــي الوقــت الــذي كــان ينـاضــل فيــه بعــض النــاس.. ويتفــرج بعــضاً آخــر.. كــان هنــاك بعــضــاً أخــيــر.. يقــوم بــدور الــخــائــن"..لكن ما أعرفه إنه كان مُحقا.
بالعودة للحكيم مرة أخرى، حيث يقول في كلمة له في شباط 1992: "صحيح إننا لم نقع في التقدير السريع والخاطئ الذي قال أن الدولة أصبحت على مرمى حجر وقاب قوسين أو أدني، وسجلنا بوضوح أن هذه مهمة كفاحية شاقة وطويلة، غير أننا سجلنا كذلك أن الفارق ما بين المرحلة التي أعقبت الانتفاضة والمراحل السابقة لها، أن شعار الدولة انتقل من حيز الإمكانية التاريخية إلى حيز الإمكانية الواقعية، فهل هذا التحليل سيما على ضوء التطورات الانعطافية التي حدثت بات كافياً؟
إن شعار الانتفاضة هو الحرية والاستقلال، وهذا الشعار يجب أن يبقى مرفوعاً ومستمراً، وما عدا ذلك، فإن النظرة للانتفاضة وتحليل احتمالات تطورها واستكشاف آفاقها ومستقبلها يصبح خاضعاً للأجوبة والنتائج التي سنقدمها".
كان وعي الحكيم والجبهة، حاضراً وبقوة، في أتون الانتفاضة، كما "أتون" مؤتمر "مدريد للسلام" الذي عقد قبل أشهر معدودة من كلمات الحكيم السابقة، لذلك لم يجانبه الصواب عندما قال: "إن قضيتنا الوطنية، تتعرض في الظروف الراهنة لمخاطر جدية وحقيقية من خلال العملية السياسية الاستسلامية الجارية في واشنطن. فالإدارة الأمريكية تقدم حلاً تصفوياً للقضية الفلسطينية، يقفز بصورة واضحة عن حق تقرير المصير والدولة والعودة، ويتحدث بصورة مبهمة عن حقوق سياسية للفلسطينيين غير واضحة المعالم والأبعاد، ويأتي هذا الحل التصفوي في مسلسل متغيرات وموازين قوى مائلة بصورة ساحقة لصالح الإمبريالية والكيان الصهيوني".
اليمين والاعتراف المستحيل:
فكرة الاعتراف "بإسرائيل" لم تكن جديدة، ولم تتزامن فقط مع اندلاع الانتفاضة، فلقد نبتت في بعض الرؤوس منذ بداية الغزو الصهيوني لفلسطين، كانت تتردد خفية إلى أن ظهرت صريحة حينما حان وقت ذلك، ولعل أول ظهورها كان دعوة البعض للاعتراف بالقرار 181 لعام 1947، الداعي لتقسيم فلسطين، وتكررت بعد هزيمة عام 1948 والنكبة التي ترتبت على وقع أحداثها، كما تكررت فكرة الاعتراف بعد هزيمة 1967، وقبول قرار 242 لعام 1967، رغم قرارات قمة الخرطوم: لا صلح، لا تفاوض، لا اعتراف.
فقبل أن يعلو صوت البعض ويشهر موقفة صراحة، بضرورة الذهاب نحو الاعتراف، كانت الثورة من خلال المنظمة، قد أصبحت جزءاً أصيلاً في جامعة الدول العربية، حيث تكون ملتزمة بما تلتزم به دولها، وعلى وجه الخصوص، عدم التدخل في شؤون بعضها البعض والضمان المتبادل لأمنها الداخلي –رغم أن دور الثورة الفلسطينية أن تُثوّر الوضع العربي، لا الخضوع لنظامه الرسمي- حيث استمعت لرئيس أو أكثر في أروقتها يدعوها للاعتراف "بإسرائيل".
بعد أن خرجت الثورة الفلسطينية ومنظمتها طريدة ومذبوحة ومتعبة من الأردن، نتيجة مجازر أيلول عامي 70 – 1971، علا صوت الدعوة أكثر، وبات فجاً أكثر أيضاً، خاصة، أن القوى والدول التي ضربت الثورة هناك وأدخلتها في أتون الحرب الأهلية فيما بعد في لبنان، هي ذاتها ضمن من اعترف بها، ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني، فهل كان هذا استكمال لعملية الذبح من بوابة غسل اليد من القضية التي أصبح مصيرها بيد ممثلها الشرعي في جامعة عربية، كانت تذهب نحو تأكيد شرعية الوجود الإسرائيلي على الأرض الفلسطينية، من بوابة الضغط والتضييق على الثورة/المنظمة، وإدخالها في صراعات مهيأة لها بسبب سوء أوضاعها الداخلية، خاصة القيادية منها؟!
قد يعتبر البعض أن وجود المنظمة في الجمعية العامة للأمم المتحدة بصفة مراقب، منذ أواسط السبعينيات نصراً لدبلوماسية قيادة الثورة الفلسطينية – وقد يكون كذلك-، لكن من جهة أخرى، كان يجب أن نرى أن هذه الجمعية، جمعتنا نحن وإسرائيل التي اعترفت بها مبكراً عضواً كاملاً، تحت سقف واحد، ومطالبين أن نلتزم بميثاقها، بحيث لا "نستولي" على الأرض بالقوة، ولا نعتدي على دولة عضو، ونحترم قراراتها التي تعترف بإسرائيل، وتدعونا لذلك، وإلا كيف يمكن أن نفسر أننا التزمنا حرفياً بميثاقها ومقراراتها، في حين أن إسرائيل لم تلتزم بميثاق كما لم تلتزم بمقررات؟!
غير أنه في الفترة من 1975 – 1979 حلت بالنظام الرسمي العربي، أبشع هزيمة نكراء وأكثرها تدميراً في تاريخه، التي وفقاً لقانون تراكم المراحل وتكامل العوامل، نجد مقدماتها في سايكس بيكو 1916، ووعد بلفور 1917، وهزيمة الثورة الكبرى 36-1939، ونكبة فلسطين وقيام إسرائيل 1948، وهزيمة/نكسة 1967، ومجازر أيلول 70- 1971، وحرب أكتوبر 1973، والحرب الأهلية اللبنانية 1975، وغيرها من أحداث تاريخية فارقة في تاريخ شعبنا وأمتنا وطننا العربي، أوصلت نتيجتها للاعتراف الرسمي من قبل النظام المصري الساداتي بإسرائيل، وتوقيع معاهدة صلح كامب ديفيد، لتفتح الطريق لمشروع التسوية الفعلي، الذي رفضته وقاطعته منظمة التحرير الفلسطينية، كجزء من جبهة الصمود والتصدي العربية، لكن ما أن وقع "زلزال" بيروت عام 1982، لم يجد "الختيار" بداً أمامه، سوى الإعلان أنه ذاهب إلى القدس ، وهذه لا يمكن أن يدخلها فاتحاً، إلا من بوابة النظام الساداتي، الذي كسر الطوق عنه في عام 1983، وانفرط بعدها عقد جبهة الصمود والتصدي. ففلسطين توحد وتفرق في آن..!
لذلك لا غرابة إن كان حصاد الانتفاضة، الأمل الكبير، الذي جعل الدولة على مرمى حجر، بمنطوق قيادة الثورة المأزومة، أي قيادة اليمين، التي "تحالفت" سلاماً في مدريد مع اليمين -الليكود- في "إسرائيل" أيضاً، وختمته رسمياً في أوسلو بتحالفها مع اليسار -حزب العمل- الذي أعلنت له "اعترافها المستحيل"، مقابل حكماً ذاتياً، بقي على مرمى حجر، على أمل أن يغدو "الدولة" التي نظّر اليمين وبعض اليسار باعتبارها قيد التحقق، فهي الحلم والأمل ونهاية لمعاناة امتدت عشرات السنين بالنسبة لهم.
هل كان اتفاق أوسلو وحكمه الذاتي واعتراف اليمين المستحيل بإسرائيل، خاتمة ضرورية؟ أم هي التعبير الفاضح عن الأزمة، التي كشفت العورات، وأكدها الاعتراف، وواقع الحال الذي ازداد سوءً وانقساماً وبؤساً وتمزقاً ومأزقاً طال من عمره استفحال أزمة اليمين، وعمق أزمة البديل؟!
عن البديل المطلوب:
إننا بحاجة لكل الطاقات، وهذا شأن لن يتحقق إلا عبر وعي القوى التي تطلق على نفسها أنها ديمقراطية، وجودها (أي الطاقات) موضوعياً ودورها ووظيفتها الاجتماعية، وإن لكل منها قيمة مطلقة بذاتها، أي ليس على حساب أو من حساب ما عداها. هنا تأتي مكانة الرؤية التاريخية - نظرية الصراع أي ما فوق الماضي والمستقبل - الذاكرة والنسيان - الواقع والأيديولوجيا - المادي والمعنوي.. الخ. بمعنى أن تكون هذه جميعاً وفي آن وعلى نحو تكاملي وتراكمي وايجابي، ينهى وإلى غير رجعة ذهنية وسياسة القطيعة والقطع والبدء دائما من نقطة الصفر.
هنا يقع الدور التاريخي الذي مطلوباً أن تقوم به هذه القوى، بحيث نكون أمام رؤية جديدة مختلفة نوعياً. وبهذا المعنى، يمكن تحديد البديل المطلوب لا المفهوم السائد للبديل، والقائم على أن ما هو ضد "الرسمي" هو البديل الصواب. فلقد أصبح لدى شعبنا خبرة طويلة جداً، وقد تعلّم أن يولي فلسفة السؤال، نفس الأهمية التي أعطاها ويعطيها للجواب وشروطه. وعلى هذا الصعيد، فإن سؤال البديل مستغرق في أسئلة تقييدية ليس أقلها: أي بديل ولمن ولماذا؟
إن البديل المطلوب هو بديل ديمقراطي، ليس ضد ما عداه، بل فوقه وخلاصة وحدة العناصر الايجابية مع نفسها، أي القادر على إطلاق كل الفعاليات وحفظ مكانة ايجابية ومتقدمة لها.
إننا أمام حالة ديمقراطية فلسطينية أصيلة ومتأصلة، نجدها في بعض الأطر الفلسطينية القائمة لكنها أيضاً خارجها أكثر، بل ربما، خارج الحدث السياسي المباشر. هذه الحالة، هي من الاتساع والقوة والتأصل بحيث تشكل قاعدة مضمونة لأي بديل، لابد وأن يكون وبالضرورة ديمقراطياً. بديل مطلوب، ولكنه قطعاً لن ينشأ من الفراغ، مكتملاً بين ليلة وضحاها، فالتاريخ، بل كل ما يمت له بصلة، لا يتشكل على هذا النحو من الخفة.
بمقدار ما يلقي هذا الكلام من مسؤولية على عاتق القوى الديمقراطية وفي المقدمة منها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ، إزاء ما عداها، فإنه يلقي على الحالة الديمقراطية مسؤولية إزاء الجبهة والخطوات التي قطعتها على طريق بلورة البديل، ليس للآخرين فحسب كما قد يذهب الاعتقاد، بل لنفسها أيضا، كونها جزء أصيل ومسؤول بالكامل عن خيار/ نموذج منهجي وعلمي وصل ومعه القضية الوطنية بين مهزوم ومأزوم.
بكلمة محددة، إنها (أي القوى الديمقراطية) أمام وظيفة من طبيعة وطنية، لا مجال لتستمر فيها وتنجح، إلا ضمن أفق وطني ومسؤولية وطنية ومشاركة وطنية.