Menu

رواية عائد إلى حيفا: التّنقيب عن امتدادات ثلاثيّة النّص والجسد والأرض "تحت غبار الذّاكرة"

الكاتب / سمية الحاج .. دانيا مريان نقلا عن موقع الأوان

إنّ للعلاقة بين مصطلح ” العودة” والقضية الفلسطينيّة ارتباطا بديهيّا لما تمثله فكرة العودة من حلم يحمله فلسطينيو الشتات أنّى ذهبوا بعد أن فقدوا ارتباطهم الفيزيائي المباشر بالوطن.  ومن المعروف أنّ مفهوم العودة لا يقتصر على القضية الفلسطينيّة، بل يُطرح في إطار دراسات مابعد الكولونيالية بشكلّ عام، كما يرتبط بسياقات أخرى ميثولوجية مثلاً كعودة أودسيوس إلى وطنه أثيكا (باليونانية Nostos). وبالطبع لا يقف المفهوم عند المعنى الجغرافي للعودة، بل يمتد ليشمل سياقات حداثية مجازية كعودة الكاتب إلى نصوص سابقة وقد يكون خير مثال على هذه العودة الرمزية المبهمة والشّائكة قصيدة إزرا باوند (The Return) حيث تمثل عودة الآلهة الإغريقيّة بعثاً جديداً وامتداداً لا متناهياً من التأويلات النصيّة. ومع ذلك فقد تجتمع كلّ هذه الدلالات لتكوّن ذاكرة جمعيةً تُوَلِّد معانيَ وارتباطات أخرى لمفهوم العودة، وبهذا يصبح الجانب الجغرافي جانباً من المفهوم الّذي لا يمكن حصره في تعريف واحد.

من هنا يمكن القول بأن عنوان رواية غسان كنفاني “عائد إلى حيفا” يأخذ أبعاداً مختلفة للعودة عدا عن البعد الفيزيائي لرحلة الزوجين سعيد وصفية اللذين يعودان إلى منزلهما في حيفا بعد نكسة عام 1967 في زيارة لمدة يوم واحد للبحث عن ابنهما خلدون الذي فقداه في زحمة أحداث النكبة عام 1948. إن رحلة العودة تلك رحلة مجازية وسيكولوجية يجد فيها الزوجان إثناء بحثهما عن بيتهما وابنهما المفقود (أي الأشياء الّتي كانت تعني لهم الوطن) تأويلات جديدة لمفاهيم الذّاكرة والهوية والوطن. لذا يمكن وصف هذه الرواية بأنها حيز ما بعد استعماري يتجاوز حدود الجغرافيا الفيزيائية الجامدة ليُنتج ذاكرةُ جمعيةً انسيابية، أي أنها غير محدّدة بكينونة واحدة.  فالرحلة إلى حيفا هي رحلة في الذّاكرة يخوضها الفلسطيني للبحث عن ذاته وهويته الّتي فَقَدت جزءاً من خصوصيتها بعد الاحتلال والشتات وتبِعات الصدمة النفسية.  وكما هو الحال عند كتاّب ما بعد الاستعمار[1] يحمل كنفاني ذاكرة شعبه لا ليسردها  بتفاصيلها النفسية والاجتماعية والسياسية فقط، بل ليطرحها في حالة ذات امتداد in-process  لتحمل المزيد من المعاني المختلفة والمؤجَّلَة، كما عبّر عنها ديريدا من خلال مصطلحه différance.  إن إعادة انتاج الذّاكرة يولّد معانيَ مؤجلة خارج جسد النص، فالعلاقة بين الدال والمدلول هنا ليست علاقة لغوية مباشرة بقدر ما هي علاقة أيديولوجية وفكرية مؤجلة قابلة للمسح وإعادة الكتابة.

يعد تمثيل التجربة عن طريق الكتابة صراعاً مستمراً مع اللغة في محاولة لتوسيع مداها بحيث يمكن أن تلخص عصارة تجربة الصدمة وسلب الأرض.  كما أن الفجوة بين ما هو طوباوي متخيَّل في ذاكرة الفلسطيني وبين واقعٍ  جغرافي موجود على الخارطة تسبب “استحالة في تمثيل التجربة” كما هو حال الذات الملكومة الّتي أشارت لها غاياتري سبيفاك في مقالها ذائع الصيت “هل يمكن  للتابِع أن يتكلّم؟” فمن غير الأخلاقي أن يُمثِّل المحتل الذات الفلسطينية، بل يتقمص ذاكرتها.  فبعودة الزوجين إلى حيفا يجدان أن المدينة لا زالت موجودة على الخريطة كما يحفظها سعيد ولكن ذاكرة المدينة شُوِّهت بتغيير السكان وأسماء الشوارع.  يقول سعيد: “هذه حيفا إذن بعد عشرين سنة. . .أنت لا ترينها، إنهم يرونها لك”  (ص. 12،14).  فحيفا الآن قد تعرضت للتجريد من الملامح وخلق ملامح جديدة، أو كما يصفها دولوز وجاتاري reterritorialization   deterritorialization/.  لا تقتصر كارثة سعيد وصفية إذن على فقد بيتهما وابنهما بل تتفاقم المعاناة كون الزوجين الاسرائيليين ميريام وإفرات قد زعما امتلاك المكان والطفل فعاشا في نفس المنزل وحافظا على موجوداته وقاما بتبني الطفل، خلدون، ليصبح اسمه “دوف” ويخدم بجيش الاحتلال.   وهنا تبدأ رحلة العلاج من الصدمة عن طريق الرجوع في الذّاكرة لما قبل الكارثة وصولاً إلى لحظة الصدمة نفسها ومواجهتها مرة أخرى عن طريق اللغة والفهم الأعمق للمأساة.  ففي الوقت الّذي كان فيه الفلسطينيون غارقين في الماضي وفي البكاء لمدة عشرين عاماً، كان الطرف الآخر يُعدّ جيشه ويجنّد أبناءه ويطمس ملامح المكان ويؤسّس هوية جديدة له، فحيفا القديمة الآن غدت مجرّد صورة في الذّاكرة.

بعد لحظة الإدراك المفجع للهوّة ما بين الذّاكرة المُتخيّلة والواقع، يعكف الزوجان على إعادة صياغة الفهم عن طريق طرح أسئلة على غرار: هل الأرض هي المكان الجغرافي فحسب؟ تأخذ الإجابة عن هذا السؤال مراحل مختلفة في رحلة الزوجين. ففي بداية الطريق يقول سعيد مخاطباً زوجته الّتي تخبئ دموعها وراء الصمت: “ها هي حيفا يا صفية! . . .إنني أعرفها، حيفا هذه، ولكنها تنكرني” (ص. 11).  إلا أنه يدرك في آخر الرحلة أن الوطن يتخطى حدود الجسد والأرض، فالأرض قد تغيرت ملامحها،  وخلدون لم يعد فلسطينياً يحمل الذّاكرة الجمعية الّتي حملها اللاجئون،  أو يحمل اسمه العربي الذي منحه اياه والداه البيولوجيان.  وهنا يكمن الفرق بين المكان الجغرافي والمكان في حيز الذّاكرة، ولا يلتئم هذا الشرخ إلا بإدراك الفلسطيني بأن الذّاكرة حيز مرن يمكن تحويله من زاوية ضيقة غارقة في النوستالجبا، كما فعل الزوجان لمدة عشرين سنة من الصمت، إلى حالة هلامية مفتوحة على معاني متعدّدة تنقل الفرد الفلسطيني من حالة القبول بدور الضحية إلى حالة المقاتل والمناضل الذي يرى في فلسطين أبعد من المعنى المادي.  يدرك سعيد هذه الفجوة في نهاية السرد فيقول: “أفتش عن فلسطين الحقيقية. فلسطين الّتي هي أكثر من ذاكرة، أكثر من ريشة طاووس، أكثر من ولد، أكثر من خرابيش قلم رصاص على جدار السلم . . .” (ص. 74).  وهنا تصبح الرواية مساحة لوضع معالم جديدة للذاكرة، فثلاثية الجسد والنص والأرض مسودات مرنة تحتمل إعادة الكتابة، وهذا بالفعل ما استخدمه الاحتلال لمحاولة طمس الذّاكرة الفلسطينية، فيأتي النص هنا ليدعو إلى إرساء معالم الهوية الفلسطينية مرة أخرى ولكن بنظرة أكثر شمولية ووعيا. فالماضي يتمثل بخلدون الذي تهوّد والحاضر والمستقبل يكمن بابنهما خالد الذي يمثل المقاومة الّتي يحتاجها الفلسطينيون اليوم.

هكذا تصبح هنالك ثلاثة مواقع صيرورية وهي الأرض والنص والجسد  وكلّها مساحات قابلة للتغيير.  هذه الصيرورة تشي بأن الذّاكرة الّتي أراد كنفاني للنص أن ينتجها ليست نوستالجيا أو بكائية على الأطلال  بقدر ما هي إعادة تشكيل للذاكرة ونقلها من حيز الماضي إلى الحاضر والمستقبل.
وبالرغم من أن التاريخ هو جذور الذّاكرة، أي أن الماضي مهم ولا يمكن نسيانه أو تجاوزه، إلا أن هذه الذّاكرة يجب أن لا تخرج من حيز الماضي فحسب بل أن تتقدم نحو الحاضر والمستقبل الذي فيه خير للقضية الفلسطينية، أي أن تجاوز الماضي لا يعني طمسه أو نسيانه، بل جعله نقطة بداية جديدة.   وهذا ما دعا إليه العديد من كتاب ما بعد الاستعمار ومنهم الكاتبة الإفريقية-الأمريكية توني موريسون الّتي قدمت لنا مصطلح remomory  أي استرجاع الذّاكرة.  فالذّاكرة ليست ماضيا مندثرا  ولكنها تؤثر على الحاضر وتبقى موجودة في حيز ما.  تقول البطلة في رواية محبوبة   Beloved:

كنت أتحدث عن الوقت.  من الصعب على أمثالي تصديقه والإيمان به.  بعض الأشياء تذهب.  وأشياء أخرى تبقى.  كنت أعتقدها عودتي إلى ذاكرتي.  تعلمون ذلك. هناك أشياء تنسونها.  وأشياء أخرى لا تستطيعون نسيانها. ولكن هذا لا ينطبق على الأماكن.  فالأماكن تبقى هناك.  إذا احترق منزل، سيذهب للأبد ولكنه يذهب إلى هناك، إلى ذاك العالم.  ما أتذكره هو صورة تعوم هناك خارج رأسي.  أعني حتى لو لم أعد أفكر بها، حتى لو متّ، فإن صورة ما فعلت أو ما عرفت أو ما رأيت تبقى هناك.  تماماً في المكان الذي حدثت فيه.  (ص. 43)

وهكذا تتحول الذّاكرة من مجردة إلى ملموسة أو حسية، أو كما أرادها كنفاني محركاً ومحفزاً للمقاومة لا سبباً للانهزام والبكاء والقبوع في ظلمات الماضي.  فالذّاكرة في الرواية بحسب مصطلح فوكو heterotopia أي حيز مغاير يدمج الواقع مع المتخيل تماماً كالمرآة الّتي يرى المرء فيها نفسه دون أن يكون موجوداً فعليا في ذاك الحيز.  أي أن المرآة هي مكان متخيَّل كالذّاكرة، وبحث الزوجين عنه عنى غيابهما عن حيزهما الحقيقي في الحاضر ووجودهما في حيز متخيل.

أخيراً يدرك سعيد الذهاب إلى الحيز الواقعي الذي يخلق “مساحة ثالثة” خارج ثنائية المجرم والضحية ألا وهي مساحة المقاومة، فيتمنى سعيد لو عاد إلى حيفا مقاتلاً لا زائراً، ويتعزز هذا الوعي لدى سعيد بعد الحوار مع “ابنه” خلدون أو دوف الذي يؤكد لوالديه البيولوجيين أنّ “الإنسان في نهاية المطاف قضية” (ص. 68)،  ولذا فإنّ تكرار سؤال “ما هو الوطن؟  يؤكد أن الوطن ليس مساحة جغرافية فحسب، فتأتي أخيراً إجابة السؤال بأن الوطن قد لا يُعرّف بما هو موجود بقدر ما هو غائب، وهنا أيضاً نستذكر فكرة ديريدا “حضور الغياب” وكذلك هيتروتوبيا فوكو حيث المرآة تمكن المرء من رؤية نفسه حيث لا يوجد الجسد فعلياً. فيجيب سعيد أخيراُ عن السؤال بأن “الوطن هو ألا يحدث ذلك كلّه” (ص. 74).

وبهذا تكون رواية كنفاني سجلت ذاكرة الشعب الفلسطيني المكلومة على الصعيد الفردي والجمعي عن طريق قصة الزوجين سعيد وصفية اللذين عادا إلى الوطن بعد عشرين عام من الغياب لتنهال عليهما الذّاكرة مرة واحدة فيدركان أن لا جدوى من سبر أغوار الماضي والاقتيات على أحزانه دون المقاومة الّتي ستنهض بالفرد والجماعة لتؤسس ذاكرة جديدة خارج إطار المظلومية، وتشكلّ معنىً جديداً للهوية يتطلع إلى مستقبل الامة بإخراج ثاثيية النص والأرض والجسد من تحت أنقاض الماضي وفتحها على احتمالات تعيد تشكيلها، وكلّ هذا يتجسّد في أمنية سعيد الأخيرة الّتي تمتلئ بالصدق والوعي والأمل:  “أرجو أن يكون خالد قد ذهب … أثناء غيابنا” (ص. 76).

******

[1] مصطلح موارب إذ يُطبّق على الأدب الفلسطيني لأن الاستعمار ما زال قائما.

******

المراجع:

Deleuze, Gilles and Felix Guattari.  A thousand plateaus: Capitalism & schizophrenia, Brian

Massumi (trans.). Minnesota: The University of Minnesota Press, 1987.

Foucault, Michel. “Of Other Spaces.” Diacritics, Jay Miskoweic (trans.).  16, no. 1 (1986)

Morrison, Toni, Beloved. London: Vintage, 1987.

Spivak, Gayatri Chakravorty. “Can the Subaltern Speak?” Colonial Discourse and

Post-Colonial Theory: A Reader, Patrick Williams and Laura Chrisman, (eds.).  New York: Columbia University Press, 1994. Pp. 66-111.

كنفاني، غسان، عائد إلى حيفا. بيروت: لبنان.