Menu

من الوطنية إلي القومية، ومن القومية إلي الأممية

تطور الوعي بالفكرة القومية عند "جورج حبش"

أحمد بهاء شعبان

الحكيم.jpg

خاص بوابة الهدف

قراءة في حوارات "جورج مالبرينو" معه، والمُسِجَلَّة في كتاب: "الثوريون لا يموتون أبداً"*

أحمد بهاء الدين شعبان (الأمين العام للحزب الاشتراكي المصرى)

ولا في قلبي ولا عينيّا إلا فلسطين

وأنا العطشان ماليش ميّه إلا فلسطين

ولا تشيل أرض رجليّا، وتنقل خطوتى الجايّة

إلا فلسطين

أنا العطشان ماليش ميّه إلا فلسطين

عشان الأرض تتطهر، ويرجع لي الشجر والدار

على طول الحدود أسهر، ليالي ما تفارقش نهار

أنا الواقف في خط النار، وأنا اللي حلفت بالأزهر

أنا اللي حلفت بالأزهر، وبالأقصى وبأميّة

ولا تشيل أرض رجليّا، وتنقل خطوتى الجايّة

إلا فلسطين

سلاح الثوره متدرّب، على الثورة لا بد يثور

يخلّي الغرب يتغرّب، يخلّي الشرق زايد نور

وكل رصاصه بتقرب، ولادي من حواليّا

ولا تشيل أرض رجليّا، وتنقل خطوتي الجايّه

إلّا فلسطين

أنا العطشان ماليش ميّة

إلا فلسطين*

على بوابات المعابد المصرية التى صمدت صروحها العملاقة لآلاف السنين، كان المصريون القدماء يكتبون "ذكرى الرجل الطيب تبقى إلى الأبد"، و"الرجل الطيب" المقصود هنا، هو نقيض الإنسان "الشرير"، الذى يهدم القائم، ويزرع الفتن، وينشر السوء، ويعرقل أفعال الخير والنماء. إن نقيضه "الطيب" هو الذى يزرع ويبني، ويشق الطريق، ويضع أحجار الأساس، ويقف في مواجهة الظلم، ويضيء نور المعرفة والرغبة في التقدُّم، حتى يستكمل من يأتي بعده، من أبناء وأحفاد، ومحبين وتلاميذ، مسيرته، ويتحقّق الهدف الأسمى المنشود.

وبهذا المعنى الأشمل، فقد كان الرفيق " جورج حبش "، رجلاً "طيباً"، ليس بالنسبة للدائرة الضيّقة المحيطة به، من أسرة وأهل، ولا بالنسبة لمنتسبي المؤسسات النضالية العديدة التى أسسها، أو أسهم في إطلاقها، ولا حتى بالنسبة لأبناء شعبه الفلسطينى الذى أصبح رمزاً من رموز كفاحه وعلامة من علامات نضاله وحسب، وإنما علي مستوى العالم كله، الذى يحفظ لمثل هؤلاء المناضلين الكبار، مكانةً لا تتراجع، وموقعاً لا يتأخر، في صفوف المكافحين من أجل خير الإنسانية، وإحقاق العدل، ونصرة المغبونين في هذا العالم.

والحق أن مسيرة الرفيق "حبش"، منذ حداثة سِنه، وما مرَّ به من محن وتجارب، ومصاعب ومشاق، إنما كانت تدريبات تُعّده لقادم مهماته، وتجارب تؤهله لدوره التاريخى المُرتقب، وهي حفرت داخل أخاديد العقل ومكونات الوعي لديه، أُسساً ومُحددات للحركة، ظلَّت باقية حتى غادر عالمنا، وأهمها الانتماء للشعب الفلسطيني المكافح، والانحياز الكلىّ لحقه الصريح في استعاد أرضه السليبة من بين أنياب العدو الإمبريالي - الصهيوني، والانتماء الواضح للإنسانية المُكافحة ضد الظلم والإفقار والنهب والاستغلال، وفوق كل هذا: الانتساب لجماعة بشرية واحدة، يجمعها جامع من التاريخ والفكر والمصالح المشتركة، ويربط بين جماهيرها وحدة الهدف والطريق.

النشأة وحوافزها:

وُلد "جورج حبش"، كما نعرف، وكما ذكر في (جورج حبش، حاوره جورج مالبرينو، الثوريون لا يموتون أبداً، دار الساقى، بيروت ـ لبنان، الطبعة الأولي، 2009، ص: 11)، فى مدينة اللد الفلسطينية، في الأول من أغسطس عام 1925، لأبوين مسيحيين، ولأسرة تنتمي إلي "الطبقة الوسطى" العِصامية، ولأب مجتهد ويملك ذكاءً عملياً، وحِساً وطنياً، يعمل في تجارة المواد الغذائية، في اللد و القدس ويافا.

وفي طفولته المبكرة، إبان دراسته بالمرحلة الابتدائية، عاصر الإضراب العام الذى نُظِّمَ عام 1936 احتجاجاً على الاحتلال البريطاني والممارسات الاستعمارية المنهجية ضد الشعب الفلسطيني، كما تابع باهتمام الثورات الفلسطينية في أعوام 1936، 1939، وكفاح المناضلين: "عبد القادر الحسينى" و"أبو ابراهيم الكبير"، فالنضال ضد الاحتلال البريطاني "هو ما أسهم في تشكيل وعيي بأوضاعنا السياسية، وكذلك قدوم الصهاينة، تدريجياً، منذ نهاية القرن التاسع عشر، وتحديداً منذ ثلاثينيات القرن العشرين" (الثوريون،  ص: 21).

وقد شهد "جورج حبش"، في حداثة سِنّه، أهوال الاجتياح الصهيوني الهمجى لبلدته ووطنه، وعاين مأساة شعبه، وهو في عمر الثالثة والعشرين، طالباً يدرس الطب في الجامعة الأمريكية ببيروت، ورأى بأم عينيه وطنه وهو يُحتل بواسطة عصابات القتلة، وعاين بلوعة، في هذه الظروف، رحيل أخته الكبيرة تاركةً خلفها  أطفالها الستة، فانطبع في ذهنه كراهية العدوان والاحتلال والاستعمار والصهيونية، وإدراكاً واعياً بأن هذا الاستعمار له امتدادات أخرى، وتموضعات شتّى، في مختلف أنحاء الوطن العربي المُمزّق والمحتل، بل وفي العالم أجمع، الذى تتحكم فيه موازين القوى الجائرة، ومن يملك عناصرها الفاعلة.

التأسيس التنظيمي:

ومن هنا كانت انطلاقته التى انبنت على وعيٍ مُتَفَتِّحٍ للقضية، في الجامعة الأمريكية ببيروت، التى بدأ فيها نشاطه الوطني، عبر تأسيس وقيادة جمعية "العروة الوثقى" (عام 1950)، متأثراً بالمفكر القومي العربي المعروف "قسطنطين زريق"، الذى كان له بمثابة "الأب الروحى"، علي نحو ما يشرح في حواره المنشور (الثوريون،  ص: 37).

لقد تعلَّم "الحكيم" من احتكاكه بالأفكار الداعية للقومية العربية بالجامعة الأمريكية، ومن زمالته وصداقته بعديد من زملائه من شتى أنحاء الوطن العربي، الأمر الذى ساعده على استكشاف الروابط بين الأقطار العربية  وتشابه ظروفها وأحوالها، كما تعلَّم من تجربة فقدان الوطن والملاذ، التى عاشها، وكابد مراراتها، وتابع تفاصيلها يوماً بعد يوم، الترابط الموضوعى بين الوضعين: العربي والفلسطيني، وبعد استخلاص دروس نكبة عام 1948، كما يقول "الحكيم"، تبلور"المبدأ الأساسى للتنظيم" مرتكزاً على أن "الوحدة العربية شرط لا بد منه من أجل التوصُّل إلي حل للمشكلة الفلسطينية" (الثوريون، ص: 37)، وترسَّخ هذا الإيمان الذى استمر كأحد "المداميك" الأيديولوجية لفكر حركة "القوميين العرب"، ومن بعدها، كناظم لفكر " الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين "، وإن طاله بعض التعديل نتيجةً للصدمات والتبدُّلات والتناقضات التى طرأت علي أوضاع المنطقة والقضية، إيمان يقيني "بأن "الثورة الفلسطينية لا تستطيع أن تُحقق أهدافها، إلّا من خلال ترابط جدلي بين الثورتين الفلسطينية والعربية". فرغم النجاحات التى حقّقها النضال الفلسطينى، والـ 120 دولة التى استطاع النضال علي الساحة الدبلوماسية أن ينجح في جعلها تؤيد هذا النضال، كما يذكر "الحكيم"، إلّا أن هذا "لا يكفى علي الإطلاق لتحرير الوطن المحتل" (الثوريون، ص: 26).

العمل والخبرات:

ولم تكن هذه الفكرة، بحالٍ، فكرة مُستحدثة، أو وليدة خيال رومانتيكي جامح، أو تهاويم مُحَلِّقة لا أساس لها في الواقع، فقد كان مؤسسو الحركة، يؤمنون، في تلك المرحلة، "بوجود علاقة دياليكتيكية بين تحرير فلسطين والوحدة العربية، فقد كان المشروع الصهيوني، في نظرنا، مشروعاً استعمارياً يستهدف، إضافةً إلي فلسطين، الأمة العربية بأسرها، وكان علينا إذن أن نطرح، في مُقابل هذا المشروع، مشروعاً شاملاً لوحدة عربية سيكون موضوعها الأول تحرير فلسطين، الذى شكَّلَ اغتصابها مصدر جميع الشرور التى ألمّت بناط (الثوريون، ص: 38).

ومن المنطقي، في مثل هذه الحالة، أن يكون الحل في أن تُرَكِّزَ الثورة الفلسطينية علي توثيق علاقتها بفصائل "حركة التحرر العربية"، وخاصةً في "بلدان الطوق"، المحيطة بالعدو الصهيوني، "حتى تُصبح عاملاً مساعداً للتغيير في هذه البلدان، وفي حالة أن يتم هذا التغيير تصبح هذه البلدان قواعد ارتكاز للثورة الفلسطينية، تستطيع من خلالها الانطلاق لإحراز عملية التحرير" (الثوريون، ص: 26). كان هذا التصور أحد أهم دوافع الانتقال إلي خطوة جديدة باتجاه بناء تنظيم عربي أشمل، بعد عديد من التجارب الأخرى، ومنها تشكيل "كتائب الفداء" السرّية، التي تأسست في سوريا، عام 1949، بعد مُضى عام علي النكبة، ومهمتها: "تصفية القادة العرب الذين لم يحركوا ساكناً من أجل إنقاذ الفلسطينيين"، و"إلحاق الضرر بـ "المصالح الإمبريالية" في المنطقة". وقد تجسَّدت الخطوة الجديدة، عام 1951، في تأسيس حركة "القوميين العرب"، التى مثّلت خطوة أرقي باتجاه تحقيق هذه الفكرة التى أبرزها "الحكيم" بوضوح: "كنا نسعى، كشباب قومى عربي، إلي إحياء روح الوحدة العربية، من أجل الدفاع عن القضية الفلسطينية، كان هذا هو الشيء المهم الوحيد بالنسبة لنا" (الثوريون، ص: 36). ومن الطبيعى والحال هكذا، أن تتكون قيادة هذه الحركة من ممثلين لبعض الأقطار العربية، مثل "أحمد الخطيب" ـ الكويت ، "حامد جبورى" ـ العراق، "صالح شبل" الفلسطينى الأصل ـ لبنان، فضلاً عن ممثلي الشعب الفلسطينى: "جورج حبش"، و"وديع حدّاد"، وغيرهما، على أن النيّة كانت قد انعقدت علي توسيع شبكة نشاط حركة "القوميين العرب" في البلدان التي استقر العزم على النشاط بها، عن طريق توجيه أحد قيادي الحركة بالانتقال للاستقرار في إحدى هذه البلدان، والبدء في ممارسة العمل التنظيمي بها.

المسارات والتحولات:

لفت صعود نجم الرئيس المصرى "جمال عبد الناصر"، وصموده في معركة تأميم قناة السويس، وحرب العدوان الثلاثي سنة 1956، ومعركة بناء السد العالي، ومواجهة الأحلاف العسكرية الغربية، والتصدى للاستعمار في الوطن العربي وقارتي أفريقيا وآسيا، وتأسيس حركة عدم الانحياز، وغيرها من المعارك، أنظار "حبش" بشدة، فسعي إلي الاقتراب من هذه التجربة المُلفتة، التى "بعثت آمالاً عِظاماً عند حركة القوميين العرب"، بدايةً عن طريق "سامى شرف" (مدير مكتب الرئيس عبد الناصر)، ثم عن طريق "عبد الحميد السراج، (وزير داخلية الأقليم الشمالي وقت الوحدة)، ثم باللقاء المباشر، بمناسبة إطلاق مشروع السد العالي عام 1964، وبعدها عام 1966، في حفل زفاف كريمة "الرئيس"، حيث حلَّ ضيفاً على مصر، فتعرّف عليه وعلى أسرته، وانشدَّ إلي الرجل الذى كان "يجمع بين القوة والبساطة والنزاهة وطهارة النفس"، وقد أدت هذه العلاقة إلى دعم عبد الناصر للكفاح المسلح الفلسطيني، عن طريق مد حركة "القوميين العرب" بالسلاح، وبتدريب 50 فدائياً كل عام، وبمنح دراسية لطلاب الحركة. ومع كون العلاقة بـ "عبد الناصر" كانت أحد أهم عناصر تقوية اللحمة بين القوى القومية والتقدمية، وبين الحركة ومكوناتها، فقد كانت أيضاً السبب في أول خلاف بارز، بين جناحين فاعلين في حركة "القوميين العرب". الجناح الأول، ومثَّله "محسن ابراهيم" وآخرون، رأوا ـ منذ الوحدة المصرية السورية عام 1958 ـ أن الضرورة الموضوعية لوجود الحركة قد انتفت في ظل صعود "عبد الناصر" و"الناصرية"، وطالبوا بأن تُحل الحركة، علي أن يتم انضواء أعضائها إلي تنظيمات "الاتحاد للاشتراكي العربي"، حزب السلطة الناصرية الأوحد.

أمّا نحن، كما يقول "الحكيم"، ممثلاً للجناح الثاني: "فكنا نقول العكس من ذلك، إن إخفاق الجمهورية العربية المتحدة، يتطلّب منا العمل علي تصحيح الأخطاء التي وقعت فيها، من أجل السير نحو الوحدة العربية، وذلك عن طريق المحافظة علي الحركة" (الثوريون، ص: 59)

الخيبات والدروس:

كانت الممارسات البيروقراطية وسيادة رؤية ومقاربات أجهزة الأمن والمخابرات فى العمل العربي والقومى، أحد الأسباب الرئيسية لتوترات مكتومة في العلاقة بين "الحركة" و"النظام الناصرى"، وتصاعدت الخلافات بسبب تدخُّل هذه "الأجهزة" في أنشطة "الحركة" في اليمن، ويوماً بعد يوم كانت الأخطاء ونقاط الضعف فى التجربة الناصرية برمّتها تتوضح أمام نظر "الحكيم"، غير أنه ظل على تقديره العظيم لـ "عبد الناصر" وسجاياه كمناضل وقائد كبير، حتى حدثت الطامة الكبرى، بهزيمة 5 يونيو 1967، التى كان لها على وعيه ومشاعره وقع الكارثة، ثم تلاها شرخ كبير فى العلاقة بين الطرفين، حينما قبل "عبد الناصر" مُضطراً "مبادرة روجرز" عام 1970.

لقد شكّلت الهزيمة وما ترتّب عليها، كما يوضح "الحكيم": "خيبة أمل كبرى لآمالنا وأحلامنا"، لكن هذه الهزيمة لم تفت في عضده: "فلقد خسرنا معركة، ولكن لم نخسر الحرب"، أمّا صداها المباشر، وانعكاسها الأساسى، فهى، أى الهزيمة، لم تُبَدِّلَ يقينه، وإنما دفعته لتغيير أولوياته: "فمن جهتى واصلت حلمى بالوحدة العربية، غير أني أصبحت أدرك جيّداً ضرورة التركيز، قبل كل شيء، على القضية الفلسطينية، إذا كنا نريد الوصول إلي نتائج مُحدّدة" (الثوريون، ص: 73).

الحصاد والنتائج:

لقد استخلص الرفيق "جورج حبش" من هذه "القارعة" التى كان لها وقع الزلزال، دروساً عديدة بليغة، وأولها وأهمها "دروس ذلك الإخفاق الكبير الذى مُنى به النظام الرسمى العربي، أن الشعوب وحدها يمكنها أن تتحكم في التاريخ... إن الشعوب هى التى يجب، في نظري، أن تُشكّل المُحرِّك الأساسى للنضال ضد الإمبريالية وإسرائيل" (الثوريون، ص: 73).

أمّا الدرس الثاني فمفاده، أن النضال الفلسطيني المُسلّح "لابد أن يُركِّزَ علي الفلسطينيين أنفسهم، الذى يتوجب عليهم أن يُنظموا معركتهم علي أساس حرب التحرير الشعبية طويلة الأمد" (الثوريون، ص: 74).

ويبقى الدرس الثالث وهو لا يقل أهمية، ويتمثل في "ضرورة تعزيز الديمقراطية، والتوجه نحو أيديولوجيا تُعطى الأفضلية للطبقة العاملة... وقد شكّلَ ذلك خطوتنا الأولى نحو العقيدة الاشتراكية، التى اعتمدناها بعد فترة وجيزة من الزمن" (الثوريون: ص: 74)

كانت هذه الدروس الغالية، المدفوع ثمنها الباهظ من جراح وآلام بلادنا وشعوبنا، هى "خلاصة" عمر "الحكيم"، وحكمته، وهى الدروس التى حملها إلى المرحلة التالية من نضاله، بتأسيس "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين"، في 11 كانون الأول ـ ديسمبر 1967، وهي ـ في جملتها ـ الإرث الغالي الذى سلّمه إلي الأجيال الجديدة، التى سيؤول إليها مهمة استكمال رسالته المقدسة، وتحقيق أمل استرداد فلسطين، كل فلسطين، من بين براثن الإمبريالية والصهيونية.

*جورج حبش، حاوره جورج مالبرينو، الثوريون لا يموتون أبداً، دار الساقى، بيروت ـ لبنان، الطبعة الأولي، 2009.

*الكلمات للشاعر الشيوعي المصرى الكبير "فؤاد حدّاد"، ولحنها وغناها الموسيقار "سيد مكاوى".