Menu

نفحات من شخصية جورج حبش

وليد عبد الرحيم

"إنني على ثقة بأن أجيال شبابنا الصاعدة والمتتالية لن تحتاج إلى من يُلقنها ما يجب أن تفعله, فليس من حق أحد أن يصادر حقها في تحديد طموحاتها وأهدافها مستقبلاً".

الحكيم جورج حبش

يُمكن استغرابُ اكتمالِ النكبة ضمن شروطها التي باتت اليوم أكثر جلاءً من ذي قبل, استغرابٌ من حيث التوازن بين إمكانيات الفلسطيني- العربي، والصهيوني- المتنوع القومية والأعراق, ويُعني بالأخير العصابات الإرهابية الصهيونية التي حلَّت كلعنةٍ تاريخية على فلسطين بقرار ودعم دوليين ومحليين, وتواطؤ من نواحٍ شتى...

لقد صُدم الجيلُ الفلسطيني الشاب آنذاك بالنتيجة التي كانت خلاصةً ونتيجةً سيطرة شراذم غير متجانسة, سوى من الناحية الدينية البدائية المتخلفة على بلادٍ تكوَّن شعبُها مع ولادة التاريخ البشري الواعي لذاته فابتكرَ ما ابتكر من مساكن خارج المغارات الطبيعية الصخرية, والفكر والموسيقى واللغة، وبالتالي المعرفة التي ميزت هذا البلد الصغير وأنشأت تنوعه وأديانه وأساطيره وخرافاته الحكيمة.

كيف يُمكن لجيل شاب واعٍ آنذاك, أن يستقبل هذه الهزيمة الساحقة؟! هزيمة لا أصولَ أو قواعدَ لها, ولا فروع لمآلاتها أو مستقبلها, وهو ما شكَّلَ صدمة نفسية وفكرية قبل السياسية لأي كان من الفلسطينيين والعرب.

كيف لشذَّاذ آفاق أن يهزموا شعباً عريقاً متأصلاً مساهماً فاعلاً في رِفعة البشرية منذ نشأتها؟! لقد صعق هذا السؤال جيلاً كاملاً من الفلسطينيين والعرب, فكان لا بد من تثوير العقل ذاته من خلال السؤال, السؤالُ الذي يحمل في طياته وطويتهِ نكبةً أخلاقية وإنسانية وثقافية بالدرجة الأولى, قبل أن تكون سياسية أو عسكرية أو... في خضم ذلك تأسس الشابُ النبيه, ذو الشخصية الفريدة من نوعها وتركيبتها جورج حبش، الذي قال: "صنعتني التجربة, لستُ منظَّراً أكاديمياً أو مدرساً, النظرية عندي هي تفاعلٌ مع الواقع وليس فوقه, هي ضرورةٌ للفعل الثوري أثناء حركته وليست مجردَ مقولات جامدة"..

كان الحكيم جورج حبش قد درس في مدارس اللد التي ولد فيها يوم 1/ 8/ 1925 وهي مدينة هادئة, جميلة وذات عمق تاريخي متأصل, وقِدَمٍ في الأثر والتأثير, هناك خاض درسه الأول فيها طفلاً, ثم انتقل إلى الثانوية في يافا ف القدس , وهما مدينتان تعتبران من أهم وأرقى حاضرات فلسطين.

عام 1944 غادر إلى بيروت للاستمرار في التحصيل العلمي, ودرس في الجامعة الأمريكية التي تخرَّج منها طبيباً متفوقاً في العام 1951, تركها لفترة أثناء ذلك ليعود ويقاتل في فلسطين خلال حرب النكبة عام 1948, حيث عاد وقتها إلى مسقط رأسه اللد فحمل السلاح ثم تفرغ لعلاج المرضى والجرحى, حتى هُجِّر قسراً طبقية أبناء شعبه، فتوجه إلى رام الله ثم القدس فعمَّان, التي عمل فيها طبيباً بعد أن عاد من بيروت متخرجاً بعد العام 1951, حيث أنه اختص في طب الأطفال.

أُولى تجليات شخصية الطبيب جورج حبش العملية كانت علاجه للمرضى في مخيمات الأردن مجاناً, حيث افتتح عيادة للعلاج المجاني في مخيم الوحدات بمشاركة صديقه ورفيق دربه د.وديع حداد, الذي رافقه في زمالة الجامعة الأمريكية خلال دراسة الطب وشاركه الندوات والمظاهرات وتشكيل التكتلات الثقافية والأدبية داخل الجامعة الأمريكية.

دأبَ الحكيمان جورج حبش ووديع حداد على خدمة شعبهما, بخاصة بعد تأسيس جمعيات ومنتديات عدة, ثم إطلاق حركة القوميين العرب التي امتدت فروعها في مختلف أنحاء الوطن العربي مستقطبةً المئات من رجالاته البارزي الثقافة والروح النضالية, كان حبش زعيمها دون تسميته برئاستها أو أمانتها, وهكذا بدأت الحركة بتنظيم الكفاح المسلح الفلسطيني منذ بداية الخمسينيات، لكن سرعان ما اكتشف القوميون قلة الخبرة العسكرية والتقنية القتالية وعفويتها, فتم التفكير من قبل الكل الفلسطيني بإشعال ثورة عارمة, حيث أُعلن الميثاق الوطني في العام 1964 وتم تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية التي كانت الهوية الثقافية والاجتماعية والسياسية للفلسطينيين, ثم حركة فتح بعدها بنحو عام ثم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين برئاسة جورج حبش بعد أن أدرك ورفاقه إلى أن هيكلية وفلسفة وبنية حركة القوميين العرب لم تفِ بعناصر استكمال الفعل الثوري التحرري, أو نسف الواقع الذي فرضته النكبة الثانية عام 1967 باحتلال العصابات الإرهابية الصهيونية لبقية فلسطين المتمثلة بشرق عاصمتها القدس والضفة الغربية وقطاع غزة, والجولان وسيناء.

هنا قفزت شخصية حبش من مكانها الهادئ ذي الغلبة السياسية الممزوجة بكفاح مسلح, فصار العنف الثوري ضرورة لا محالة منها, وهكذا ولدت من رحم حركة القوميين العرب الجبهةُ الشعبية التي ضمَّت تشكيلات ثورية عدة، وصارت تُوصف بالراديكالية في مواقفها وممارستها الثورية, وبالإرهابية من قبل العدو الصهيوني والغرب وعملاؤهما من الأنظمة العربية.

قبل التأسيس وخلاله وبعده لوحق طبيب الأطفال المثقف الثائر في مختلف الدول, واعتقل وطورد, وكان كل ذلك يزيده تمسكاً بالمبادئ والهدف المعلن عالياً: "تحرير فلسطين", ويضيف له رصيداً شعبياً ذا احترام خاص, حتى أضحت خطابات وكتابات ومقولات حبش متداولة ليس فقط بين الفلسطينيين والعرب وحسب، بل بين مختلف ثوار العالم وبكل اللغات, كما أضحت شخصيته ممثلة لنموذج الثائر ضد الإمبريالية والصهيونية والرجعية. هكذا صار الحكيم نموذجاً مهماً في ثقافة الإنسانية الثائرة جمعاء, وحظي باحترام منقطع النظير, وقد توج هذا الاحترام بخصوصية حكيمة عقب تخليه عن الأمانة العامة للجبهة الشعبية طوعاً, ليفسح المجال أمام الجيل الجديد, الذي كان هو ذاته منه يوماً ما لحظة النكبة, تلك الفترة التي قال عنها: "إنها اللحظة الأصعب في حياتي, التي حولتني من إنسان عاشق لوطن وحياة إلى سياسي يبحث عن وطن... ذلك هو السر الذي دفعني إلى أن أوظف كل سنوات عمري لأجل استعادة هذا الوطن, ولأستعيد معه كل أحلامي وآمالي".

أراد الحكيم حبش إذاً أن يفسح المجال أمام الجيل الجديد في الجبهة الشعبية، وألا يُغلق إمكانية أن يكون هناك ما هو أفضل منه ذاته ليُنتج تجربة جديدة, وهي قمة استخلاصات الروح والعقلية الديمقراطية والاعتراف ضمناً بالأخطاء.

كان جورج حبش حزيناً في نهاية حياته, يحاول أن يدفع الآخرين للاستفادة من التجربة, هذه التجربة التي يعرف المئات كم كان خلالها إنساناً عميقاً طيباً بشكل قد لا يصدقه من لا يعرفه جيداً, فقد كان يبكي لأسباب قد لا تكون مبرراً للبكاء بالنسبة للعديدين, ويشعر بأي من أبناء شعبه, يدفع مالاً أحياناً من مخصصه الشهري لفقراء أو أحد أبناء شعبه ممن ألمَّت بهم الحياة بأوزارها.

شخصية جورج حبش بكل مراحلها, طفلاً وشاباً وأكاديمياً, طبيباً, ثائراً, مؤسساً, إنساناً, لاجئاً... كلها تحتاج لصفحات طويلة, بل لكتب دراسات لقراءتها جيداً. ليس هناك أبسط من شخصيته بين كل عظماء التاريخ, كما ليس هناك أعقد من تركيبتها العميقة التي تدفع البعض أحياناً للاستغراب من فعلين متناقضين شكلاً قام بهما الرجل, مثلاً الدعوة للثورة الجارفة العنيفة, والبكاء عند رؤية طفل مشرد فقير في المخيمات.

الحكيم جورج حبش, يمثل في كل حالٍ تلك الشخصية التي لم تُدرس كما يجب حتى اليوم, شخصية واضحة تماماً وغامضة في آنٍ معاً، صلبة وفولاذية وطيبة وبسيطة.