Menu

علي فرزات.. "الجوكر" عاريًا

وليد عبد الرحيم

لا يحق للمرء أن يصنف الناس, وإنني بالتأكيد ممن لا يحق لهم ذلك أيضاً, لكن الجهد النقدي يتعدى كونه تعبيراً عن رأي ذاتي, بل يفرض الرأيُ ذاتَه وفحواه على كل من يقدم نفسه كأديب أو فنان أو مثقف, هذه بديهة أولى يمكن اعتبارها قاعدةً, ومن حق أصحاب الرأي والشأن, تحديد مواقفهم اتجاه حالاتٍ أو تكتلاتٍ أو أحزاب أو أنظمة, بل إن ذلك من واجبهم, هذه بديهية ثانية، أما ما لا يجوز لمن يُقدِّم نفسه كشخصية عامة هو أن ينظر بعين الفرد من ضِمن عينِ غريزة القطيع, لأن غريزة القطيع كما تصنفها التعريفاتُ السيكولوجية تتمكن فقط من شخصيات البدائيين وبالتالي من شحيحي ومحدودي الثقافة, والثقافة الواسعة العميقة شرطٌ أول لتطور الفنان والأديب.

مناسبة هذه المقدمة هي ما قرأتُ على صفحة المدعو "علي فرزات" الذي يُروَّجُ ويعتبر نفسه فناناً كبيراً, وبالتالي يجب أن تنطبق عليه شروطُ ومناقب الشخصية المبدعة، أو لنقُل مكوِّنات شخصية وروح الفنان الحقيقي مع تفهم كل التناقضات والشطحات الثانوية وضروب الاستثناء.

... لا أستعرض عادةً صفحته الشخصية, فبالنسبة لي - وبوضوح- لا أراه فناناً حقيقياً وهذا هو رأيي الشخصي منذ الثمانينات, كما لا أراه صاحب رأي أو مثقفاً حقيقياً فلهذا مواصفاته وعلاماته ومقوماته أيضاً، وبالمناسبة ليس هناك أي عداء شخصي فيما ورد أو ما سوف يرد وإنما هو رأي نقدي وربما هو سياسي محض.

... ذات يوم, وكنَّا نجلس في مكان حميمي في دمشق يدعى "الرواق" كان ذلك في نهاية الثمانينات وأول التسعينات, تقدمتْ إلى طاولتنا إحدى الصديقات الفنانات السوريات الهادئات عادةً, لكنها في تلك اللحظة كانت متوترةً لأمر ما, سحبتْ كرسياً وجلست معنا إلى الطاولة حيث كنا نجلس مجموعة من الفنانين والكتاب, ولم تنتظر الجلوس, فلتوترها الشديد قالت: (غريب هذا علي فرزات, أقسم بأنه يقبض من الموساد)!.

استنكرنا ذلك وهدأناها بأن أخذنا المسألة على محمل المزاح, لكنها أصرَّت وتابعت استغرابها وغضبها من أنه " يحقد على الفلسطينيين كشعبٍ لا على منظمة أو ساسة مثلاً، ولا بناءً على عقدته النفسية من ناجي العلي فحسب, بل ويُجلُ اليهود!", وعبّرتْ عن اعتقادها إضافةً بأنه من أصول يهودية... - للعلم، أرفضُ شخصياً هذا التحليل العِرقي البوليسي-. وللأمانة والتاريخ أخذنا المسألة كلها وقتَها ضحكاً بضحك.

حدثَ أثناءها أنْ غزا العراقُ الكويت َ, وليس سراً أن الشعوب العربية عموماً وقفت مع العراق, ليس كراهية بالكويت الشقيق المظلوم, بل بأمريكا وبريطانيا والصهيونية, وليس تأييداً لصدام بل حفاظاً على قوة وكرامة العرب والعروبة, إلا جوقة من الانتهازيين وعلى رأسهم "علي فرزات" ، الذي هرول – عبر قنوات خاصة لن أذكرها الآن- ليقدم خدماته للصحف الكويتية الغاضبة التي انتقلت آنذاك للصدور في القاهرة, فباتَ يرسم لها رسومات تضلل الناس عن حقيقة العدوان الأميركي الصهيوني, وتفعِّل الأحقاد بين أقطاب العرب، كما وتهاجمُ -أكثر مما تُهاجم صدام - الشعبَ الفلسطيني كشعبٍ بأسره لا كقادةٍ مثلاً، تمهيداً خبيثاً لما حل بهذا الشعب لاحقاً في الكويت.

كان من الممكن أن يرسم غضباً من صدام لمهاجمة الكويت الدولة الشقيقة, والتعاطف مع المظلوم, لكن، هل من يذكر رسماً واحداً لعلي فرزات يتعاطف مع نصف مليون طفل عراقي قتلوا في العدوان الصهيوني الأميركي, هل يستنكر في رسوماته المُفتعَلة موقفاً إرهابياً لا أخلاقياً صدر من أمريكا و"إسرائيل"!

في الواقع فإن "علياً" صار حينها يتقاضى مبلغاً مقطوعاً بالدولار عن كل رسمة كاريكاتورية, والأدهى من ذلك أنه كان يرسم بناءً على ما يلقنونه تلقيناً حرفياً ما يجب قوله في اللوحة!, وهذه وحدها تنزع صفة الفنان الحقيقي عنه, لأن الفن ضربٌ من الإبداع يشترط الحرية الفردية أولاً, ويترفع عن القيام بما لا يبتكره مُنتجه, أو لنقل كل ما لا يصدر عن ذاته الجوَّانيَّة، وألا يكون النتاج الفني مراعاةً لأي كان، ولا أن يكون شَرطُهُ مأجوراً.

... لاحظت مؤخراً بأن أصدقاء عدة ينتقدون ويشتمون الرجل, فدخلت صفحته لأول مرة في حياتي, لأجد هجوماً منظماً هادفاً على الكل الفلسطيني, بل على القضية ذاتها, القضية التي يعرف ويقرُّ العالم بأسره بأنها قضية عدالة وتاريخ وقضية مستقبل للإنسانية الحُرة بأسرها, ولحريتها وديمقراطيتها ورِفعتها.

وبتحريض سطحي ساذج يقول حرفياً على صفحته: (أيها السوري, اعرف عدوك من صديقك, محمود عباس ..., آية الشيطان اسماعيل هنية... الميلشيات التي تقتل السوريين داخل سوريا....) ويعدّد الفصائل التي تقاتل إلى " جانب النظام".

وفي بوست آخر " كل مين من جماعة عباس وهنية وسماسرة السياسة والخطابات العنترية, كل واحد منكم يقلع شوكه بإيدو, إلي فينا ب سوريا مكفينا, إلي بيعمل بإيدو الله يزيدو...."!!! ويضيف موجهاً كلامه للشعب الفلسطيني (لك ما بتخجلوا على حالكم وإنتو عم تشوفوا فصائلكم عما يقتلوا السوريين...) طبعاً هذه الكلمات كانت قبل ذلك أشدَّ وقاحةً وغباءً وسطحيةً، لكنه عاد فصاغها وعدلها لمرَّتٍ عدةٍ ولطَّفها حتى بدت بهذا الشكل!.

لم يذكر" فرزات" للحظة بأن الفلسطينيين كالسوريين أصابهم في هذه الحرب ما أصاب كل السوريين من مآس تهجير وموت وفقر ووو...، - بل وحتى من زاوية رؤيته ذاتها وانطلاقاً من موقفه أيضاً- لم يذكر بأن الفلسطينيين السوريين منهم من هو في هذا الطرف ومنهم من هو في الطرف الآخر, وبغض النظر عن رأيي بخصوص كل هذا الجنون والمؤامرات والاستقطابات والعنف والإرهاب والمآسي التي لا حصر لها فإن من الفلسطينيين من قاتل مع الجيش ومنهم من قاتل مع الإرهابيين حتى، إنهم كالسوريين تماماً, لأن العامل التاريخي والاجتماعي والرابط الكُلي الأزلي بين الفلسطيني والسوري لا يمكن فصله أو الفكاك منه, فالفلسطينيون يعتبرون أنفسهم سوريين ويعتبرون فلسطين الجزء الجنوبي من سوريا، والسوريون بدورهم يعتبرون فلسطين جنوب سوريا، وهذا واقع حتمي – وبالتالي من الطبيعي لكليهما أن يكون فيهم من هم في هذا الطرف أو ذاك بغض النظر- الآن- عن صحة أو خطأ الموقع.

لا يذكر فرزات مثلاً سرقة النفط السوري من قبل الولايات المتحدة, ولا تآمر قسد الانفصالية ولا احتلال الجولان ولا اسكندرونه, ولا مؤامرات تدخل تركيا والغرب والنازية الصهيونية, كلهم لديهم المشروعية في ذلك برأيه إلا الفلسطيني المولود أصلاً في سوريا الحالية، والذي يرتبط بكل أنواع ومفردات العلاقة مع السوري منذ آلاف السنين.

طبعاً ولاستكمال المشهد- الوظيفة، على صفحته ذاتها يبدي إعجابه بسيده وسيدِ مانحيه" ترامب"، لمرات عدة، وبخاصة بالتوافق الزمني مع إعلان صفقة القرن الصهيونية!.

جاء هجوم فرزات في لحظة صفقة القرن موظفاً إذن, مما يثير ما هو أكثر من الشبهات بكل تأكيد, محاولاً بخبث ساذج غبي مكشوف دق إسفين بين أبناء الشعب الواحد الذي فرقته سايكس بيكو وفشلت الأيامُ اللاحقةُ في ذلك.

... على سبيل المثال، قاتلت حماس مع المعارضة, وكذلك بعض الأفراد والمجموعات الأخرى من الفلسطينيين, منها النصرة وداعش التي أعدمت العديد من الفلسطينيين والسوريين بخاصة في مخيم اليرموك بحجة معلنة هي "التعاون مع النظام" كان السبب رفع علم فلسطين أو شتم اليهود! ودُمر اليرموك وعدة مخيمات, وشُرد نصف الفلسطينيين إلى أوروبا, كانوا يموتون في طريق الهجرة البحرية والبرية كالسوريين تماماً وفي آنٍ معاً...

اليوم نحن هنا - وأنا في دمشق لم أغادرها قط – وقد عانينا من حصار الغرب المجرم الذي يمتدحه فرزات, كما من تآمر أصحاب استرزاقه ترامب ونتنياهو وو...

عانينا من قلة ذات اليد, من أسس الحياة اليومية، من الكهرباء والغاز, الخبز, القذائف والصواريخ والتهجير، وذقنا برداً وخوفاً على أطفالنا لم يذقه أحد هنا من قبل, أعني بـ " نحن" السوريين والفلسطينيين في آنٍ معاً.

لم يسعفه حتى ذكاء التباكي والتعاطف مع الفلسطيني كالسوري, فهمش معاناته بعنصرية مريضة، بل حاول بغباء وسطحية مفرطين وصفه بأنه " يقتل السوريين" ولم ير بالتالي سوى بضعة فصائل قاتلت هنا أو هناك، وكان يفترض– أعني من خلال موقفه المعلن ورأيه- أن يُشيد مثلاً بمن قاتل في الطرف الذي يؤيده هو لكنه لا يفعل قط!، مما يوضح الهدف الوظيفي بالتكليف، وقد جاء ذلك بلغة ركيكة شوارعية سوقية، تعبر عن ثقافة ضحلة، وبمفردات متخلفة لا تليق بمن يصنف نفسه فناناً بل حتى مواطناً سورياً محترماً.

العقدة الأساسية لدى فرزات منذ نشأته كانت كراهيته وحقده بسبب تفوق ناجي العلي فنياً ونجومياً, وهو ما ترسب في شخصيته عميقاً حتى تحول إلى مرض نفسي يسمى سيكولوجياً بـ"الشعور بالدونية", هذا أولاً، أما السبب الثاني فكان عبادة الدولار، الذي دفعه للاسترزاق خلال التسعينات على عظام أطفال العراق وجوعهم وتدمير الحضارة الإنسانية من أجل حفنة من الدولارات، ولكنْ، لمَ يقول ذلك اليوم تحديداً ووقتياً؟

سأورد هذه المعلومة المُلفتة للانتباه: قبل أسابيع فقط دعم اللوبي اليهودي الصهيوني في هولندا ترويج ووضع اسم علي فرزات وبث رسومه في المناهج الدراسية الهولندية! ويبدو أنه يبحث عن طريقة لتعميق الولاء - على أقل تقدير- واستمرار العلاقة النفعية مع اللوبي, وهنا سأقدم نصيحة له بالقول إن ذلك سوف يُسقطه أكثر في وحل العمالة والتبعية والانحطاط, والأفضل له أن يطور أو يحاول الارتقاء بحسه الإنساني والأخلاقي فينعكس ذلك ويرتقي برسوماته, فرصيدا الفنان هما الثقافة والحس الإنساني, وليس التقنيات والصنعة فحسب, وهنا أود الإشارة إلى رأيي الشخصي كمتذوق بأن لوحاته كلها تُصنع بتقنية افتعالية ميكانيكية عالية الجودة, لكنها فاقدة للحس الفني الإبداعي الإنساني العميق، وهو سبب فشله باللحاق بناجي العلي ذي التقنية الأقل حِرفية لكن الأرقى حسياً وإنسانياً وإبداعيا بالضرورة..

لنتخيل هنا كيف أنه يتهكم على سوريا- وطنه- بل ويتشفى بها، ويورد خريطتها الجغرافية وأعلام دول عدة تسيطر على مناطقه بسخرية شامتةٍ لا يمكن لسوري حقيقي قبولها مهما كان موقفه إلا إن كان....

التبعية والعمالة للعدو- عدو شعبنا بأسره- لن تجدي أي فنان نفعاً, ستدر عليه بعض الدولارات نعم, لكن ذلك الدولار سوف يُصرف ويزول، ويزول صاحبه، ذلك ما تقوله كل تجارب الأدب والفن عبر التاريخ.

مرة أخرى لنلاحظ كيف أن ناجي العلي لقناعته وحسه الوطني والقومي تفوق حسياً وليس تقنياً، ولنلاحظ كيف أن العالم يُشيدُ به كل يوم على الرغم من عشرات السنين على اغتياله, فكيف ينجح فنان لديه منسوبٌ عالٍ من الحقد المترافق مع مرض غريزة القطيع؟!.

لقد اكتسب علي ثقافته من المقاهي والصالونات, فنانو ومثقفو دمشق المعاصرين يعلمون ويذكرون ذلك جيداً، ومن يراجع مسيرة لوحاته المقلدة الصماء الميكانيكية يجد أصولها في صحافة الأوروبيين في الخمسينات والستينات، بخاصة الصحف الفرنسية والاسبانية والإيطالية.

كل كلماته الراهنة تتوافق مع "سوريا الجديدة" الصديقة للصهيونية والمعادية للحق ولشعبها وحقوقه, "سوريا الجديدة" طبعاً تلك التي بلا جولان ولا كرامة بحسب جهود وتعليمات سيده ترامب.

ختاماً، أنصح "علي" أن يكون فنان وطنه لا موظف أعدائه، كما أنصحه بالقراءة وتثقيف ذاته وسماع الموسيقى لتطهير روحه من رجس النفعية، فالفن دون رسالة إنسانية وأخلاقية لن يكون فناً، هكذا يمكن أن يخرج من التُرهات والسقطات التي أوقع نفسه بها إن كان هناك وقتٌ متاحٌ بعدُ، أو بابٌ للخروج.