Menu

نظام ما بعد كورونا: إصلاح أم تغيير؟

محمد السعيد إدريس

معظم الدراسات التى بدأت فى البحث عن معالم النظام العالمى البديل الذى يجب أن يفرض نفسه فى مرحلة ما بعد القضاء على جائحة "فيروس كورونا" تبدو مأزومة فى ذاتها ليس فقط لأنها وليدة الأزمة وتداعياتها ومن ثم ركزت جُل اهتماماتها على البحث فى كيفية مواجهة هذه التداعيات، ولكن، بالأساس، لأنها تغفل عن إدراك حقيقة أن الأزمة ليست مجرد أزمة قصور فى الأداء بل أزمة خلل بنيوى فى النظام نفسه، ولذلك طغت عليها دعوات "إصلاح النظام الحالى ومعالجة كوامن الخلل والقصور فى الأداء" ولم تُعر اهتماماً لحقيقة أن النظام فى حاجة إلى تغيير جوهرى وليس مجرد إجراءات إصلاحية.

مثل هذا القصور، أو الخلل فى التفكير، يمكن أن يكون مفهوماً مرحلياً على أساس أن معظم مؤسسات المفكرين والمبدعين الذين يتصدون الآن لمواجهة خطر الأزمة والبحث عن "طوق نجاة" منها هم أبناء مؤسسات هذا النظام ومن ثم هم ليسوا طرفا فى معركة البحث عن النظام البديل، لذلك نجد قضايا محورية قد غابت عن البحث مثل مسئولية التحول الذى أحدثته "العولمة" فى النظام الرأسمالى العالمى منذ اقترانه بـ "الليبرالية السياسية بأفكارها والديمقراطية بمؤسساتها"، إلى انخراطه فى ممارسات "التوحش" و"الكولونيالية الجديدة" ، ومثل مسئولية "الرأسمالية المعولمة" أو "النيوليبرالية" عن التدمير الممنهج للبيئة وللدول الوطنية ولمفاهيم السيادة الوطنية لصالح ما يسمونه بـ "السوق العالمية" التى باتت تحكمها "شركات متعددة الجنسيات" أو "شركات عابرة للقوميات"، ما أدى إلى فرض ما يعرف الآن بـ "ديكتاتورية السوق العالمية" التى جاءت مقترنة بموجة غير مسبوقة من الفساد.

التيار الإصلاحى الحريص على البحث فى سبل إنقاذ النظام القائم مشغول الآن بثلاثة قضايا أساسية تخدم كلها هدف إنقاذ النظام القائم بإصلاحه أولها البحث فى تحديد الجهة المسئولة عن انتشار الوباء الفيروسى على النحو الذى يقوم به الآن الرئيس الأمريكى دونالد ترامب وإدارته فى محاولة مستميتة للدفاع عن النفس، والدفاع عن النفس هنا ليس المقصود به الدفاع عن الولايات المتحدة بل الدفاع عن شخص دونالد ترامب وطموحه الرئاسى، من خلال البحث عن "كبش فداء" يحمله مسئولية انتشار الوباء فى محاولة مستميتة للتغطية على القصور الذى سيطر على إدارته للأزمة خشية أن يقتص الشعب الأمريكى منه فى الانتخابات الرئاسية فى نوفمبر المقبل.

فقد بدأ ترامب بالهجوم على منظمة الصحة العالمية وحمّلها المسئولية وأوقف الحصة المالية الأمريكية فى ميزانية هذه المنظمة ، ثم اتجه إلى تحميل الصين المسئولية، ووصلت به الأنانية والتمادى فى "شخصنة الأزمة" بإعلانه صراحة أن "الصين تريد خسارتى فى الانتخابات الرئاسية".

هذه القضية تهدف إلى الانحراف بمسار التفكير العالمى فى التصدى لتحديات كورونا وما بعد كورونا فبدلاً من البحث عن النظام البديل، والسعى إلى تأسيسه جرى تركيز كل الاهتمام على البحث عن المسئول عن الانتشار الوبائى وتسييس هذا المسعى بدلا من حصره فى الجهات والمؤسسات العلمية القادرة وحدها على تتبع نشأة ومسار تحرك الفيروس لمعرفة مصدره وحقيقة هل هو ضمن "الحرب البيولوجية العالمية"، وأن جهة ما هى التى صنعته وهى التى أوصلته إلى المكان الذى تريد تدميره، أم أن الفيروس تسرب دون قصد من أحد المعامل، ووصل أيضاً دون قصد إلى جهات بعينها من العالم. فبدلاً من ترك مسئولية الإجابة عن هذه الأسئلة للعلماء المتخصصين يجرى الآن تسييس هذه القضية لوضع الصين فى قفص الاتهام للحيلولة دون تمكين الصين من جنى ثمار تفوقها والحرص على إدانتها أخلاقياً للنيل من مكانتها وجدارتها بالزعامة العالمية المحتملة.

أما القضية الثانية فهى التركيز على البحث عن "مكامن الخطر" فى النظام الرأسمالى العالمى على النحو الذى تكشفت به خلال التصدى لأزمة فيروس كورونا، وليس فى جوهر أزمة النظام الرأسمالى المعولم. من أبرز "كوامن الخطر" التى  تم التوصل إليها، على نحو ما أشار كل من البروفيسور هنرى فاريل أستاذ العلوم السياسية بجامعة جورج واشنطن والبرفيسور أبراهام نيومان المحاضر بجامعة جورج تاون، هى ما يعرف بـ "سلاسل الإمداد" الناتجة عن "سلاسل الإنتاج" التى ترجع إلى واحدة من أهم معالم العولمة وهى "التخصص داخل الصناعة الواحدة" حيث أضحت عملية إنتاج مكونات صناعة معينة مثل صناعة السيارات أو الطائرات أو الأجهزة الطبية أو الكمبيوتر موزعة على عدد من الشركات فى أعداد من الدول . نوع جديد من التخصص وتقسيم العمل الرأسمالى الحديث يختلف كلية عن التخصص وتقسيم العمل السابق فى عالم ما قبل العولمة وبالتحديد عالم الاستعمار التقليدى، حيث كانت دول الشمال صاحبة المستعمرات تتخصص فى الصناعة فى حين أن دول الجنوب (المستعمرات) تتخصص فى إنتاج المواد الأولية.

هذا النوع الجديد من التخصص وتقسيم العمل داخل الصناعة الواحدة وبين أكثر من دولة خلق حالة "من الاعتماد المتبادل" بين الشركات وبين الدول غير مسبوقة، لكنها تهمشت تماماً بسبب أزمة كورونا، لأن كثيراً من الدول الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة لم تكن طرفاً أساسياً فى صناعة أجهزة التنفس الصناعى والأجهزة الوقائية ما جعلها عاجزة عن توفير ما يلزم من هذه المنتجات لمواجهة الوباء، وهى  الأزمة التى تفاقمت بسبب وقف رحلات الطيران ضمن إجراءات محاصرة انتشار الوباء. فقد أدت العولمة والتوزيع المعولم للأدوار (عمليات التصنيع وعمليات التجارة) إلى تبعية متبادلة معقدة. وهذا ما يعتبرونه "مكمن الخطر" الذى يجب أن يستبدل بآليات إنتاج وتوزيع بديلة لإنقاذ العولمة الرأسمالية، وهى محاولة تبدو مستحيلة لأنها فى ذاتها جوهر فلسفة العولمة.

أما القضية الثالثة ضمن منهج إصلاح النظام القائم فهى إعطاء أولوية لسياسات التعاون الدولى لمعالجة ما ارتكب من أخطاء فى تفاعلات الدول مع أزمة فيروس كورونا فاقمت فيها من فرديتها وأنانيتها تحت غطاء "مواجهة الخطر" من أبرز من تصدوا لمعالجة هذه القضية جوزيف بوريل منسق السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبى الذى انتقد ما اعتبره "تعامل العالم بصورة عشوائية لا تتسم بالتنسيق فى بداية مواجهة وباء كورونا الجديد" وأكد أن "السبيل الوحيد الممكن هو التآزر سويا لمواجهة الجائحة" .

وعلى الرغم من اعتراف بوريل بأن "الوباء الجديد يعتزم- أو هو فعلا- يعيد تشكيل وجه العالم الذى نعيش فيه" إلا أنه ، ومن باب الحرص على هذا العالم، نجده يركز جهده على البحث فى الخيارات الأكثر نجاعة للحفاظ على ما هو قائم وإصلاحه وتطويره للأفضل، والسبيل إلى ذلك فى رأيه، هو تقديم إبداع جديد لمزيد من التعاون والتآزر والتنسيق الدولى خاصة أن الفيروس بدأ يتحور ويطور نفسه مع الأجواء الحارة ، على  عكس مما كان متوقعاً وآخذ فى الانتشار فى أفريقيا بضراوة ما يفرض المزيد من تفعيل مؤسسات التعاون الدولى لمواجهة الخطر، ومعالجة الصراعات والحروب الدولية للتفرغ للتصدى للوباء.

ثلاثة قضايا إصلاحية مهمة يمكن أن تساعد فى إعادة ترميم النظام القائم وإصلاح العطب الكامن داخله، لكنها تبقى دون مستوى معالجة القصور الكامن فى بنية النظام القائم نفسه الذى تأكد عجزه عن مواجهة هذا النوع من المخاطر العالمية، ومن ثم سيجد العالم نفسه مضطراً للتعايش مع نظام أثبت عجزه لا لشئ إلا أنه يعد فى ذاته مصلحة للقوى التى تديره، سواء كانت شركات أم دولاً أم جماعات مصالح . وهكذا تنكشف معالم الصراع المستقبلى بين من سيقاتلون من أجل الإبقاء على النظام وبين من يعنيهم تغييره وفرض البديل الأكثر كفاءة فى مواجهة التحديات.