Menu

مآلات التغيير الديمغرافي في دول مجلس التعاون الخليجي

رضي الموسوي

نُشر هذا المقال في العدد 18 من مجلة الهدف الرقمية

تواجه دول مجلس التعاون الخليجي تحديات كبيرة في الحفاظ على مجتمعاتها من فقدان الهوية العربية، بعد أن أُغرقت بالعمالة الوافدة القادمة في أغلبها من دول جنوب شرق آسيا؛ مثل الهند والباكستان وبنغلادش والفلبين وتايلند واندونيسيا، حتى أصبح المواطن في أغلب هذه الدول أقلية في وطنه، وبدأت حالات التيه والضياع وتغير معالم المدن والمناطق لتتشح بسلوكيات وعادات وتقاليد أبناء تلك العمالة ونحو مائتي جنسية أجنبية جاءت للمنطقة؛ باحثة عن لقمة العيش وتغيير واقعها المعيشي الصعب، بهدف مغادرة الفقر المدقع الذي تعيشه في بلدانها، دافعة ما تملك في بلادها مقابل مجيئها إلى منطقة بلغ صيتها في الغنى ما جعل تلك الشعوب تحلم بالهجرة للخليج، حتى وإن عُلقَت في رقابها ديونًا لا قدرة لمداخيلها الزهيدة على تسديدها. لكن هذا المشهد يشكل زاوية من الصورة الكلية، فيما يشكل التغيير الديمغرافي الجزء الأكبر والأخطر من الصورة، حيث بدأت مجتمعات الخليج تتحسسه بألم شديد، بعد أن تكشف أكثر مع انتشار جائحة كورونا منذ مطلع العام الجاري، وانكشاف صورة تجارة الرقيق الجديدة أكثر من ذي قبل، من خلال الحالة المعيشية المزرية التي تعيشها العمالة الوافدة وعدم قدرتها على منع انتشار الوباء بين أفرادها؛ بسبب تكدسها في سكن يشبه علب السردين الذي يحد من التباعد الاجتماعي المطلوب لتفادي الإصابة بالوباء.

يشكل التغيير الديمغرافي في دول مجلس التعاون الخليجي خللًا كبيرًا تحول إلى كارثة، تفاقمت عبر عدة عقود؛ بسبب تواجد نحو مائتي جنسية في بلدان الخليج تشكل أكثرية، لكن العمالة العربية تشكل أقلية بينها.

يبلغ عدد سكان مجلس التعاون الخليجي  في الوقت الراهن نحو 57.5 مليون نسمة، منهم 27.3 مليون مواطن، وأكثر من 30 مليون وافد يشكلون أكثر من 52 بالمئة من إجمالي السكان، وتأتي السعودية في المركز الأول من حيث عدد السكان  ب34.2 مليون نسمة، منهم 21 مليون مواطن يشكلون 61 بالمئة  و13.1 مليون وافد، يشكلون 39 بالمئة من السكان؛ فالإمارات ب9.7 مليون نسمة، لا يتجاوز عدد المواطنين فيها 1.1 مليون نسمة  بنسبة 11 بالمئة و8.6 مليون وافد بنسبة 89 بالمئة من السكان، ثم الكويت 4.7 مليون نسمة، منهم 1.4 مليون مواطن يشكلون 29 بالمئة من السكان و3.3 مليون وافد، يشكلون 71 بالمئة من السكان؛ فسلطنة عمان بعدد 4.6 مليون منهم 2.7 مليون مواطن بنسبة 58 بالمئة، و1.9 مليون وافد يشكلون 42 بالمئة، ثم قطر التي يبلغ تعداد سكانها 2.8 مليون نسمة منهم 308 آلاف مواطن يشكلون 11 بالمئة من السكان و2.5 مليون وافد، يشكلون 89 بالمئة من عدد السكان، وأخيرًا البحرين ب 1.48 مليون نسمة، منهم 702 الف مواطن بنسبة 47 بالمئة، و782 ألف وافد بنسبة 53 بالمئة. وتشكل العمالة الوافدة نحو ثلاثة أرباع إجمالي العمالة في الدول الست، وتعتبر الجالية الهندية الأكبر من بين الجاليات الأجنبية في دول المجلس، ومع إضافة الجالية الباكستانية البنغلادشية والأندونيسية، تكون نسبة هؤلاء أكثر من 50 بالمئة من إجمالي العمالة الوافدة، بينما تشكل الجاليات العربية أقليات.

ماذا تعني هذه الأرقام بالنسبة لمواطني دول مجلس التعاون الخليجي؟

لم يكن عدد سكان دول الخليج العربية يتجاوز خمسة ملايين نسمة في خمسينيات القرن الماضي، وكانت الزيادة السكانية طبيعية وتقاس بمعدل الخصوبة بين المواطنين، لكن زيادة عقود إنتاج النفط، وبدء الطفرات في أسعاره التي بدأت أولها بعد حرب أكتوبر، وتلتها طفرة كبرى بعد الثورة الإيرانية في شباط/فبراير 1979، حدا بدول المنطقة الشروع في بناء وتطوير البنى التحتية التي كانت بحاجة للكثير من العمالة هي غير موجودة فيها لقلة عدد السكان، فاتجهت الى سياسة جلب العمالة الوافدة في العديد من القطاعات، وخصوصًا قطاع الانشاءات، وقد بدأ الأمر مع جلب العمالة العربية والهندية، لكنها تحولت إلى نهج ثابت؛ أفرز مصالح كبرى استفادت منه الطبقة العليا في المجتمع، وامتدت الاستفادة إلى فئات اجتماعية أخرى، بعضها تشكلت على الهامش؛ طفيلية تتكسب من هذه العملية بطرق شتى.

بحلول ثمانينيات القرن الماضي كان عدد سكان دول الخليج العربي يصل إلى 13 مليون نسمة، وبالمقابل كانت أعداد العمالة الوافدة تتكاثر بسرعة شديدة، دون أن تتخذ حكومات المنطقة الخطوات اللازمة لوقف هذا التدفق، حتى أصبح الاقتصاد الخليجي مبني على العمالة الرخيصة القادمة من جنوب شرق آسيا، فشكلت جزءًا أساسيًا من هيكليتها التي ترسخت، وبدأت الصعوبات تتزايد وخطوات إصلاح هذا الوضع تتعثر رغم تحذيرات المختصين من مغبة الاستمرار في هذه السياسة وخطورتها على الاستقرار الاجتماعي والسلم الأهلي، لكن مصلحة بعض الفئات تكمن في استمرار تدفق العمالة مُشكّلة ما يشبه تجارة رقيق جديدة، خصوصًا مع استفحال البطالة بين أبناء المنطقة أنفسهم، في وقت بلغت فيه اعداد العمالة حالة من التخمة، بل إن البطالة بدأت تنمو في أوساطها، وبرزت ظاهرة العمالة السائبة، وهي العمالة التي جلبها المتنفذين وألقوا بأفرادها في سوق العمل لتدبر أمرها، ما زاد من الجرائم بمختلف أنواعها؛ من السرقة والغش التجاري وغير ذلك، حيث كثرت في السنوات الأخيرة إعلان بعض دول الخليج عن وجود مصانع تزور المنتجات، وبعضها يعيد كتابة تاريخ الصلاحية بعد أن يُسحب من الأرفف، فضلًا عن تجارة النساء، وأغلبهن عاملات منزليات هربن من كفيلهن، ولا يتوقف الأمر عند تحويل زيت السيارات المنتهية صلاحيته إلى عسل يباع في الأسواق المحلية!

ومع انهيار أسعار النفط في النصف الأول من ثمانينيات القرن الماضي تزامنًا مع انهيار سوق المناخ في الكويت (البورصة)، زادت مشكلة البطالة بين مواطني دول المجلس وأعلنت أغلبها الشروع في برامج لإحلال العمالة المواطنة مكان العمالة الوافدة، لكنها كانت برامج وهمية ولا صلة لها بالتوطين، بل كانت إدارات العلاقات العامة في وزارات العمل تقدم أرقامًا خادعة، تفيد بأنها وطنت هنا وهناك، ليكتشف الأمر أنه ليس إلا كلامًا مرسلًا لا صحة له.

تضخم عدد السكان يطرب أصحاب العقارات الذين أرادوا أن تشغر عماراتهم، وهذا يتطلب مستوى أجور أعلى من أجور العمالة الرخيصة، لتتمكن من دفع الإيجارات، لذلك فُتح باب التوظيف بشكل أكبر لتغزو العمالة الوافدة المؤسسات الكبرى والدوائر الحكومية، بعد أن وصل التعداد السكاني لدول مجلس التعاون الخليجي إلى 44 مليون نسمة في 2010، وضغط أصحاب المصالح لشطب شروط التوطين التي استخدمتها دول المجلس لتوظيف أبناء المنطقة. وقد تمكنت اللوبيات من إلغاء هذا الشرط فغرقت المؤسسات الكبرى وشركات المقاولات بالباطن، بينما كان جبل جليد البطالة بين أبناء الخليج يرتفع بسرعة ومعدلات الفقر تنتشر بين مواطنيها والتدهور في مختلف القطاعات يتحول إلى سمة في أكثر من بلد خليجي. ففي بعض هذه الدول هناك مئات الأطباء والممرضين والمهندسين الذين يعانون من البطالة، بينما يشغر منصبهم وافدون من جنوب شرق آسيا في الأغلب، ولا يجد ابن الوطن وظيفة له في مصرف أو شركة كبرى؛ لأن الرئيس التنفيذي أو مسؤول التوظيف هو وافد آسيوي يدافع عن مصالح بني جلدته!!

هذا يثير تساؤلًا عن حجم التحويلات التي تقوم بها العمالة الوافدة في دول المجلس إلى بلدانها، حيث وفق العديد من المصادر الإحصائية، حولت العمالة الوافدة من بلدان الخليج العربية 113 مليار دولار في العام  2019 إلى بلدانها، متراجعة عن العام الذي سبقه 2018 التي حولت فيه 117.9 مليار دولار، وهو رقم أقل من العام الذي سبقه عندما حولت العمالة الوافدة 118.7 مليار دولار في 2017، بينما بلغت التحويلات 120.2 مليار دولار في العام 2016. تكمن أسباب تراجع التحويلات المالية إلى فرض المزيد من الضرائب ورفع أسعار المحروقات والكهرباء والماء ورفع الدعم عن المواد الغذائية الرئيسية.

بعض دول المجلس تحذلقت بابتداع الفيزا المرنة للتغطية على المتنفذين الذين أغرقوا بلدانهم بالعمالة السائبة وبالعمالة المخالفة ورموها في سوق العمل، فتشكلت كرة ثلج كبرى ألقاها الفساد في وجه المجتمع الخليجي، دون أن يجد حلًا لها، ما زاد من تهديد الاستقرار الاجتماعي والجريمة.

الواقع الديمغرافي الفسيفسائي في دول الخليج، يُسهّل من عملية الاختراق وتشكيل الطابور الخامس لأي دولة تتربص شرًا بالخليج، وهذا يُصّعب من تقصي أثر كل هذه الجاليات؛ إلا بأجهزة أمن ترصد لها مليارات الدولارات على حساب القطاعات الحيوية في الموازنات العامة، مثل: التعليم والصحة والطرق والمرافق العامة، وهو الأمر الذي حصل في السنوات الماضية، حيث تراجعت مستويات هذه القطاعات وبات قطاع حيوي مثل: التعليم يعاني من تدني مخرجاته، للدرجة التي قررت فيه أجهزة الدولة الرسمية تصنيف أغلب المدارس بدون المستوى المُرضي، أي أنها فاشلة في التقييم الحكومي، بينما يعاني مواطنو مجلس التعاون من تدني مستويات التطبيب والحد من العلاج في الخارج؛ بسبب العجوزات التي منيت بها الموازنات العامة في السنوات القليلة الماضية والتوجه نحو الاقتراض من الخارج، حتى باتت بعض الدول تعاني من تجاوز الدين العام لناتجها المحلي الإجمالي، بما يؤشر على أداء اقتصادي ومالي مرتبك ومتردي تراكم طوال السنوات الماضية؛ بسبب تفشي الفساد والمحسوبية وتخصيص جزءًا كبيرًا، من الموازنات لصالح الأمن والدفاع وصفقات التسلح المنهكة لاقتصاديات المنطقة.

من الواضح أن استمرار الحال على ما هو عليه؛ يؤدي إلى مزيد من تفكيك النسيج المجتمعي لهذه الدول، بما يهدد أمنها السياسي والاجتماعي والاقتصادي