Menu

عن اليسار والجبهة الشعبية

كاظم الموسوي

نُشر هذا المقال في العدد 21 من مجلة الهدف الإلكترونية

يأتي احتفال الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بذكرى تأسيسها الثالثة والخمسين، هذا العام، كفصيل وحزب يتبنى الفكر اليساري الإنساني، بمنهج علمي تقدمي؛ مناسبة مهمة لإلقاء ضوء على مسيرتها وطبيعة العمل السياسي الفلسطيني وتطوراته، وما اختارت الجبهة، وباقي التنظيمات والفصائل الفلسطينية التي تتقارب معها في الفكر والمواقف العملية جانب اليسار مقابل قوى وفصائل انضمت إلى جانب اليمين، في المصطلح والمفهوم السياسي، بمعناه ودلالته الطبقية والاجتماعية. وتوفرت لمن ارتبط بجانب اليمين ظروف قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية، والسلطة في أجزاء من فلسطين المحتلة، واضعا القوى والفصائل في الجانب الآخر؛ اليسار، في مأزق وأزمة نظرية وعملية تتعمق مع تداخل الصراع الداخلي والخارجي؛ الذاتي والموضوعي. رغم أن طبيعة المرحلة التي تعيشها كل هذه الفصائل والقوى تتسم بأنها مرحلة تحرر وطني، مع تمايز المهام والمتطلبات المتوجبة فيها. لعل التجارب التاريخية التي مرت بها تعطي دروسًا كثيرة وتكشف عن مستويات وعي وإدراك لها ولما ينبغي أن تتحمله في كفاحها الوطني وصراعها السياسي، سواء الداخلي أو الخارجي.

وطبيعي أن تكون مجلة الهدف التي أسسها المبدع القائد غسان كنفاني ووضع أسس عملها كمجلة ناطقة عن الجبهة ومنطلقاتها الفكرية والسياسية بمتغيراتها ومنعطفاتها الحاسمة، هي التي تدعو للاحتفال والكتابة والمساهمة فيه، وبالتالي يهمها أن يكون احتفالها تقديرًا لدورها وقراءة موضوعية لتجربتها وتقييمًا شجاعًا لاستمرارها؛ راهنًا ومستقبلًا. وقد تكون استجابتي نظرية من خارجها ومشاركة لمعالجة متقاربة مع تجارب مماثلة لها في وطننا العربي الكبير، ومستفيدة من كل ما يطرح بجدية واخلاص لتطور أعمالها وتعظيم بنائها وديمومة فعاليتها على الصعد المختلفة.

وكلما تمر السنوات على القضية الفلسطينية كلما تتراكم الاستقطابات والرهانات والتدخلات والضغوط ومعها تتصعب الظروف وتتعقد القضايا والمهام التي تتأثر بالزمن والدور والفعل والمبادرة والإصرار على الإنجاز والتمكن. وهذا يعيدنا إلى المرحلة التاريخية والمهمات المطلوبة، والخصوصية فيها، لقضية كالقضية الفلسطينية، في ظروف ذاتية وموضوعية، داخلية وخارجية، محلية وإقليمية ودولية، معا وسوية. تبدأ من تداخل بين جانبي المصطلحين، اليسار واليمين، ولا تنتهي عند تركيبتهما الطبقية والاجتماعية وتعاون قواعدهما، والتي دعت الضرورة للتعبير عنها؛ نظريًا وعمليًا. وإذ تختلط هذه كلها في فترات الصراع التحرري وتجتمع عند الأهداف المرحلية أو الاستراتيجية الكلية، تظل في الوقت نفسه مسائل مهمة وأساسية في اتخاذ القرار والقيادة ووضع البرامج والخطوات المرحلية التي تبنى عليها استراتيجية التحرر الوطني والانتصار التاريخي.

الصراع الرئيسي في القضية الفلسطينية هو نفسه لكل القوى والفصائل الفلسطينية منذ نشوء القضية ومنذ انطلاق الفصائل، كحركات وأحزاب سياسية واجنحتها العسكرية، وهذا ما هو مطروح في وثائقها الأساسية، وفي هذا البعد تلتقي أو تتحالف، ولكن عمليًا تبدأ الاختلافات والصراعات، ولعل في تعددها المتكاثر على مساحتها المحدودة؛ سبب آخر في تفسير التدخلات الخارجية، وفي أضعاف الكل الموحد على حساب المصالح الذاتية لكل فلسطين، وتناقض الرهانات والجهات أو الجهة التي يواليها، أي فصيل وتدعمه بشتى السبل أو بمختلف الاشكال. وهذا الأمر أضاف إلى ما حصل من انشطارات وانشقاقات داخلية واختراقات خارجية معضلات لكل القوى والفصائل، ولكن كان أشد على اليسار، أو بمعنى آخر أضعف من موقع اليسار عمومًا وهمش دوره عمليًا على الساحة الفلسطينية وحتى خارجها، والأهم طبعًا في ارتباطها بقاعدتها الاجتماعية الفلسطينية، داخل فلسطين وفي الشتات الذي انتشر كثيرًا مع مرور الزمن وتشابك المخططات المعادية والعاملة على التصفية للقضية برمتها، وليس لقضايا اللجوء والعودة والتمثيل الفعلي.

إذا كانت الفصائل والقوى المحسوبة على اليمين الفلسطيني، وأغلب قياداتها من الرأسمالية الكبيرة والطفيلية التابعة، قد توفرت لها عوامل كثيرة، اقتصادية وثقافية وسياسية واجتماعية، ودعم أو اسناد خارجي، ومن خلال تبنيها بشكل ما أو ممارستها للفكر الليبرالي النفعي (القطروي- القوماني- الاسلاموي) الذي يضع شعارات ومطالب صحيحة، ويعمل على نقيضها أو يقوم بتسويقها إعلاميًا مع تحجيمها أو تأجيلها عمليًا، لما يوفر له مصالحه أولًا دون أن يقدم للقضية دفعًا أو حلًا يرضي الشعب ويحقق مهمات التحرر الوطني، في الحرية والاستقلال والعودة وبناء الدولة المستقلة على التراب الوطني و القدس الشريف عاصمتها، ولا ترعوي هذه الفصائل من استخدام أساليب التضليل أو الإغراء أو الإلهاء أو التجويع لاستمرار وجودها واظهارها لموقع القيادة للمشروع السياسي، حتى ولو رفعت إيديولوجيا "دينية أو قومية"، بمنظور ليبرالي، وأحيانًا بلا حدود أو قيود، لا تخرج قياداتها منها أمام واقعها العملي، فلا تناقض بين القيادة والتعاون الأمني مع المحتل، ولا بين التدين والتهادن المرحلي أو القبول بالمزاوجة بين الدعوات العالية الكلية (تحرير كامل التراب الفلسطيني، من البحر إلى البحر...) والتطبيقات النازلة الجزئية (برامج أو أساليب التفاوض، الهدن، المصالح الاقتصادية والشخصية...)، بين التعاملات الإيجابية علنًا والسلبية خفيةً (ويجيزها لنفسه وينتقد أو يدين غيره بها)! مما يحول الكفاح والانتفاضات إلى هزات مؤقتة تنتهي زمنيًا أو تصلح لإثبات مواقف القيادة لها على حساب تأثيراتها التي لا تمنع القوى المتربصة لها، من العدو المحتل والقوى الدولية المتحالفة معه، من طرح مخططاتها، التي تضعها أمام الشعب بموقف أضعف مما هي تتصوره أو تريده، كصفقة ترامب مثلًا، وخطواتها التي كشفت العلاقات السرية بين أطراف اليمين وأصحاب تلك المخططات التصفوية الخطيرة.

هذه التطورات حولت القضية الفلسطينية وكفاح الشعب الفلسطيني والتضامن العربي والدولي إلى مجرد خلافات بين فصيلي اليمين الفلسطيني البارزين؛ حركتي فتح وحماس، والمصالحة بينهما. وطرحت كل فصائل اليسار والقوى الأخرى على هامش الصراع الوطني والنضالي؛ وتلك أبرز أزمة حقيقية يعيشها اليسار الفلسطيني بكل قواه، ومنها طبعًا الجبهة الشعبية. وتتحمل هذه الفصائل الفلسطينية مسؤولية كبيرة من بداية مشاركتها اللعبة السياسية مع اليمين، ودخولها خيمته المعلبة والمشبوهة الأوتاد والأعمدة، وفتحت على اليسار وضعًا مربكًا ضيّع فيه مواقفه الأساسية ومنهج عمله، والنقطة الرئيسية في تعاملاته الداخلية. ولعل صمته أو تورطه في الدخول في تحالف مع القوى الأخرى دون الإصرار على دور مؤثر أو قيادي لأي برنامج مرحلي ومهمات التحرر الوطني، هو عمل سلبي عرضه إلى ما وصل إليه؛ من خلال دفعه إلى التفرج الميداني وترك القيادة لقوى اليمين والرضوخ لمسيرتها ورهاناتها ومصالحها التي أضرت بالتوجهات والمواقف السليمة المنشودة.

كما أن ترك قيادة التحالفات التي انتظمت باسم منظمة التحرر أو بالمجلس الوطني أو بالتمثيل الشعبي في النقابات والاتحادات لقوى اليمين شجعها على البروز إلى الواجهة واضعاف اليسار عمومًا، وتهميشه؛ دورًا وموقفًا ومكانةً عمليةً، في الحل والقرار والإدارة والقيادة، وعلى جميع الأصعدة، سواء في بناء الدولة أو في مراحل النهوض الشعبي وإدارة الصراع مع العدو المحتل الاستيطاني العنصري أو القوى الحليفة له، وهذه ليست مسألة نظرية وحسب، بل هي درس تاريخي مهم، قدمته تجارب تاريخية عديدة. وهنا يقع على اليسار ليس فهمه وإدراكه ووعيه وحسب، وإنما العمل من حيث انتهى الأمر إليه؛ في عودة واضحة للمتطلبات الضرورية التي تؤكد على ضرورة الدور القيادي له، من خلال تمثيله الفعلي للطبقات والفئات الشعبية الأكثر مصلحة بالتطورات التقدمية والتغيرات السليمة لأهداف التحرر الوطني، وعدم الركون للوعود أو الجزرة وهز الحبل أمامها، والعمل على محاصرة اليمين بالضغط الشعبي ورفض التساوم الاستراتيجي بأي شكل من الأشكال.

بالنتيجة يحاول العدو الصهيوني وحلفاؤه دائمًا وضع الفصائل أمام خيارين صعبين، الاستسلام أو القتل؛ (بعنوانه وأشكاله)، وللأسف تسرع قوى اليمين المتنفذة، على الأقل في التجربة العملية الجارية، إلى التسارع في تفضيل الأول والسير عليه و"النضال" من أجله، دون اعتبار لخطورة الخيارين ولما يؤلان إليه من بعد. وكأن الخيارين قدرًا مفروغًا منه، لا توجد إمكانيات أخرى والنجاح فيها، وهذا ما يتطلب وعيه الآن من اليسار أساسًا. علمًا أو بالضرورة الانتباه إلى أن القوى والفصائل في جانب اليمين، ليست كتلة صلبة واحدة، فقد تتمايز داخليًا بين أجنحتها العسكرية والسياسية وحتى بين رموزها القيادية؛ فبعض منهم أقرب وطنيًا إلى اليسار منه إلى انتمائه السياسي، والحزبي، كما هو العكس في بعض أطراف اليسار. ويبقى العمل الرئيس والرهان على قدرات أغلبية الشعب وطاقاتها التي لا تعد ولا تحصى، والصمود أمام الضغوط التعجيزية والاقتناع بأن وعي الشعب بمصالحه وبقدراته وبإرادته يحقق المعجزات ويختار أساليب كفاحه التي تقود إلى النصر، وهذه مهمة أساسية لليسار عمومًا والجبهة الشعبية بالمناسبة.

ويحسب رغم هذه المسيرة العامة للعمل السياسي الفلسطيني للجبهة الشعبية أمور لصالحها، يتوجب ترسيخ خطها والتأثير فيها عند مكونات جانب اليسار وصولًا إلى مرحلة متطورة من التنسيق والعمل المشترك ليكون البديل القيادي والمؤثر الفاعل في الصراع السياسي القائم. من هذه الأمور تجدد القيادات وقبول قيادات شابة؛ فكرًا وروحًا ونشاطًا عمليًا ميدانيًا مشتبكًا، ومأسسة العمل التنظيمي والسياسي والشعبي وقبول التغيير في تركيبه وتعبيره عن المصالح الحقيقية للقطاعات التي يمثلها ويعمل لها، والتواصل الفكري والسياسي مع المتغيرات والتطورات الفكرية والسياسية في كل الميادين المتاحة؛ عربيًا ودوليًا، ووضع البرامج التقدمية التي تؤكد على مصداقية التحليل للواقع والتغيير المنشود، هذه الأمور تتطلب الوعي بها وتطويره في صفوف التنظيم من القيادة إلى القواعد، وحتى إلى محيطه، وتوضيح منهجه البناء في صيرورته العملية واستراتيجية برنامجه المقاوم.