Menu

البترودولار وسياسة التسلح في دول الخليج العربية

رضي الموسوي

نُشر هذا المقال في العدد 21 من مجلة الهدف الرقمية

بدأت ملامح الحقبة الجديدة في دول مجلس التعاون الخليجي، تتشكل، ولوببطئ، مع تزاحم الأزمات واشتدادها في هذا الإقليم الملتهب منذ أربعة عقود مرت واندلعت خلالها عدة حروب وأحداث كبرى في الخليج وفي الدول المحيطة بهذه المنطقة الغنية بالنفط الذي يشكل مخزونه في باطن الأرض ما يقارب 60 بالمئة من الاحتياطي العالمي و40 بالمئة من احتياطيات الغاز، في وقت تعصف بالإقليم تطورات ومنعطفات مفصلية؛ تعمقت منذ النصف الثاني من العام 2014 مع بروز تنظيم (داعش) واحتلاله مناطق شاسعة في العراق وسوريا، وتنظيم القاعدة بمسمياتها وتفريعاتها، والحرب في اليمن التي اندلعت في 2015، وتآكل الدولة العراقية وانهاكها بأزمات تتناسل من بعضها البعض، ومقاطعة ثلاث دول أعضاء بمجلس التعاون الخليجي و مصر لدولة قطر في 2017، ما أسهم في عرقلة وتعثر مسيرة مجلس التعاون الخليجي الذي يعتبر التجمع العربي الوحيد الذي لايزال قادرًا على التنفس ولو بصعوبة، لكن دوره تآكل بفعل الخلاف الخليجي،  وانسحاب  الولايات المتحدة الأمريكية من الاتفاق النووي مع إيران (5+1) بعد مجيء دونالد ترامب للبيت الأبيض، وبداية الحديث عن عودة واشنطن للاتفاق بعد فوز مرشح الحزب الديمقراطي جو بايدن في الانتخابات الرئاسية الأمريكية على مرشح الحزب الجمهوري والرئيس الحالي دونالد ترامب، ما يعيد ترتيب الأوراق في المنطقة بطريقة أخرى، غير تلك التي فرضها سيد البيت الأبيض على دول الخليج ومارس عليها ابتزازات وإهانات قل نظيرها، وتمكنه من استنزاف ثرواتها في فترة زمنية قياسية؛ طّير خلالها أكثر من نصف تريليون دولار، فضلًا عن العقود الثانوية الأخرى التي تشبه المصروفات النثرية.

فما مدى قدرة دول النفط على الاستمرار في عقد الصفقات الأسطورية ذات المبالغ الفلكية، بينما تعاني أسواق النفط من تراجع سعر برميل النفط إلى ما لا يتجاوز ال50 دولار منذ عدة أشهر؛ الأمر الذي وضع الموازنات الخليجية في دائرة العجوزات الهيكلية الكبيرة، فيما تتراوح نقطة التعادل في الموازنات مابين 80 إلى 95 دولار للبرميل، ما يعتبر تجاوز العجز؛أمرًا بعيد المنال، في الوقت الراهن على الأقل، حيث تعاني اقتصاديات العالم من تراجعات كبرى، باستثناء الصين؛ بسبب جائحة كورونا التي تفتك بالبشر كما الاقتصاد.   

وفي الوقت الذي يستعد فيه ترامب مغادرة البيت الأبيض، رغم إصراره على عدم الاعتراف بهزيمته أمام بايدن، يواصل سيد البيت الأبيض سياسة استنزاف المنطقة وفرض المزيد من العقود عليها؛ خصوصًا عقود التسلح، وممارسة عمليات ابتزاز كبرى، تدفع من خلالها هذه الدول مليارات الدولارات؛ نظير وجود القواعد العسكرية الأمريكية المنتشرة في بلدان المنطقة، وذلك بذريعة أنها تحمي العواصم النفطية من "الخطر الإيراني"، وفق ما تردده الأوساط السياسية الصهيونية والأمريكية وبعض عواصم المنطقة.

إن دول الخليج وشعوبها تواجه المزيد من الصعوبات المالية والاقتصادية والمعيشية؛ خصوصًا وأنها تعتمد على النفط كمصدر رئيسي لعوائدها المالية، وهذا الأخير تدهورت أسعاره، فلجأت الحكومات لفرض المزيد من الضرائب؛ مثل: ضريبة القيمة المضافة، وإلغاء الدعم عن المحروقات والكهرباء والماء والخبز واللحوم وغيرها من المواد الغذائية، بعد أن استمرت أسعار النفط في تراجعها.. في هذا الوقت كانت صفقات السلاح، تعقد رغم أن لا طائل منها، وهي في المخازن، في مفارقة قل نظيرها: شراء مستمر للسلاح وقت شح المال.

تشير العديد من الاحصائيات إلى أن الدول العربية؛أنفقت نحو تريليون دولار على التسلح في السنوات الخمسة عشر الماضية، هذا الرقم الفلكي بحاجة إلى وقفة جدية لمعرفة الأسباب والدوافع التي تقود دول المنطقة إلى الإمعان في التسلح، بينما القواعد الأجنبية، وخصوصًا الأمريكية تغطي أراضي المنطقة وبحارها بكل أنواع السلاح المتطور؛ حصة الأسد من صفقات التسلح، ذهبت كالعادة إلى دول مجلس التعاون الخليجي، كل دولة حسب حجمها، رغم أن أزمات البطالة والتعليم والصحة والمرافق العامة، قد بدأت تشكل قلقًا كبيرًا في المجتمعات الخليجية التي تعاني أصلًا من خلل ديمغرافي كبير، يحتاج لرافعة عملاقة مزودة برؤية استراتيجية تعالج وضع خاطئ دام عدة عقود دون التفاتة جادة من قبل صناع القرار؛ الأمر الذي ضاعف من عدد السكان عدة مرات في ثلاثة عقود، ما خلق ضغوطات كبيرة على الدولة الريعية في الخليج لتبدأ بالتحرر من التزاماتها تجاه مجتمعاتها، كانت الضحية الأولى تقليص مخصصات الدعم في الموازنات العامة كالمواد الغذائية والمحروقات والكهرباء والماء، وامتد التأثير السلبي إلى الخدمات والمرافق العامة التي تعاني من تراجعات في مستويات الخدمة وبدء التخلي التدريجي من الدولة عن هذه القطاعات الحيوية. يُصدقُ هذا على التعليم الذي تدهور مستواه بشهادة هيئات تقييم جودة التعليم الرسمية، ونزوح كبير نحو التعليم الخاص، وكذلك الحال مع القطاع الصحي الذي يتعرض لضغوطات مماثلة بتراجع الميزانيات المرصودة له، مما أدى إلى تردي خدمات هذا القطاع وتحول نسبة كبيرة من المواطنين للعلاج؛ من المستشفيات الحكومية إلى المستشفيات الخاصة.

صحيح أن عجز الموازنات الخليجية مستمر منذ انهيار أسعار النفط قبل ست سنوات، إلا أن من الصفات الأساسية للدولة الأمنية، في أي مكان، منح الأولوية لقطاعي الأمن والدفاع، بمفهومه الضيق المقتصر على أجهزة الأمن والمخابرات والجيش، دون النظر إلى التنمية الإنسانية الشاملة التي هي أساس الأمن المجتمعي والسلم الأهلي والاستقرار الاجتماعي؛ فالأمن يتوجب أن يكون أمنًا لكل شرائح المجتمع ،وفي مختلف الحقول الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والمعيشية، ولا ينبغي اقتصاره على الجانب الأمني والدفاعي، كما هو حاصل راهنًا في العديد من الدول التي تعتمد على الخارج في صيانة أمنها ما يجعلها عرضة للابتزاز وتهديد الاستقرار.

ورغم تراجع العائدات النفطية (البترودولار) في السنوات القليلة الماضية واستمرار نزيف الصناديق السيادية والاحتياطيات النقدية؛ إلا أن دول المنطقة لم تتوقف عن عقد صفقات التسلح، بينما تصر الإدارة الأمريكية على استمرار الابتزاز حتى آخر يوم في عهد ترامب وتفريغ ثروات المنطقة لصالح شركات السلاح الأمريكية والغربية على حساب التنمية الإنسانية ومتطلباتها في وقت تعاني فيه المنطقة من توترات متواصلة. وبينما تحوم نسبة الإنفاق العسكري في دول العالم المتقدمة حول 2.5 بالمئة من إجمالي الدخل القومي؛ تصل في العديد من دول الخليج إلى أكثر من 12 بالمئة. وتشير فضائية الحرة الأمريكية إلى أن سباق بين الدول الخليجية للحصول على المقاتلة الشبح أف35 قد بدأ، وقد اقتربت الإمارات من شراء 50 طائرة من هذا الطراز، بما يبلغ 10.4 مليار دولار، فيما تستمر دول المنطقة في السعي لاقتناء الطائرات العسكرية المقاتلة، وخصوصًا الامريكية منها، حيث تفيد نفس القناة الأمريكية إلى أن دول مجلس التعاون الخليجي تمتلك مجتمعة أكثر من 1850 مقاتلة حربية، للسعودية منها حصة الأسد ب848 مقاتلة؛ فالإمارات 540 مقاتلة، ثم عُمان 175 مقاتلة؛ ف البحرين 107 مقاتلة؛ فقطر 100 مقاتلة، والكويت ب85 مقاتلة.

موقع "غلوبال فاير باور" المختص بالشأن العسكري للدول ونقله موقع سي إن إن عربية؛يفيد بأن السعودية هي تتصدر قائمة دول مجلس التعاون للقوة العسكرية؛ فبالإضافة إلى تفوقها في الطائرات المقاتلة، تمتلك السعودية 1062 دبابة وأكثر من 11 ألف عربة عسكرية، وتأتي الإمارات في المركز الثاني ويتألف جيشها من 64 ألف جندي، ولديها 510 دبابة و5900 عربة عسكرية مدرعة، وتأتي عُمان في المرتبة الثالثة، حيث يضم جيشها 42500 جندي، و117 دبابة وأكثر من 730 عربة عسكرية مدرعة، ثم الكويت في المرتبة الرابعة بنحو 40 ألف جندي و567 دبابة، وأكثر من 700عربة عسكرية، وتأتي البحرين في المرتبة الخامسة بجيش يضم 8200 جندي و180 دبابة 850 عربة عسكرية مدرعة، وأخيرًا قطر في المرتبة السادسة بجيش قوامه 12 ألف جندي و95 دبابة و465 عربة عسكرية مدرعة.

لم تتراجع نسبة الإنفاق على السلاح في دول الخليج العربية منذ أكثر من عقدين، ما يؤكد أن التسلح سياسة ومنهج استراتيجي لم تحد عنه دول المنطقة، رغم كل المتغيرات وتراجع امكانية المواطن وقدرته الشرائية وجمود الأجور عند مستويات ما قبل أربعين عامًا وزيادة نسب التضخم وارتفاع الأسعار، وبالتالي زيادة عدد الذين يقعون ضمن الفئات محدودة الدخل وبروز ظاهرة الفقراء الخليجيين بشكل أكثر وضوحًا، ما أثار الكثير من الخوف والتوجس من المستقبل الغامض الذي لا يعرف أحدًا تفاصيله.

الآن، وقد فشل ترامب في التجديد لدورة رئاسية ثانية، سوف تجرى عمليات تدوير كثيرة لزوايا الأزمات في المنطقة، بدءًا من الملف النووي الإيراني الذي بدأ ببيان 4+1 بالتأكيد على العودة إلى نص الاتفاق الذي أُنجز في العام، بأنها خطوة نحو ترطيب الأجواء وفك الحصار عن إيران، مرورًا بإعادة ملفات حقوق الإنسان إلى بعض الواجهات وإثارة صداع لبعض دول المنطقة، وصولاً إلى ممارسة الضغوطات لطي ملف الخلافات مع قطر التي طالت أكثر مما ترغب واشنطن، حيث أن ملف التطبيع مع العدو الصهيوني قد وضع بقوة على طاولات مسؤولي العواصم الخليجية وبعض العربية، وبين هذه الملفات والقضايا الشائكة ستبقى عقود التسلح، وعمولاتها المليارية، هي الأكثر حضورًا واستمرارية رغم تزاحم القضايا الكبرى وتراجع كميات البترودولار في خزائن دول المنطقة.