Menu

عودة اللاجئ الفلسطيني: حقٌ ينتحب

قلم.jpeg

نُشر هذا المقال في العدد 23 من مجلة الهدف الرقمية - أنور الخطيب / شاعر وروائي فلسطيني/ لبنان

التأقلم مع الكارثة عملٌ يتآمر فيه الوقتُ والضحيةُ والمتسبّب، حين يتحول الزمن إلى كائنٍ ماكرٍ يجمّل النتيجة، وحين تعتاد الضحيةُ على واقعها وتستمرئ تفاصيله، وحين لا يكترث أحدٌ لاستراتيجيات المتسبب الناعمة، وعند نجاح العناصر يكون الضحية قد اجتاز درب الآلام وهو غافل، وينشغل في تحسين الأمكنة فتضمحل وتتلاشى.

النكبة الفلسطينية كارثةٌ، مرّ عليها ثلاثةٌ وسبعون عاماً، ومرّت فيها ثلاثةُ أجيال، الجيل الأول قضى نحبه أو يكاد، والجيل الثاني انتفض على واقعه بأدواتٍ من نار، وهواءٍ وهوى وأصيب بنكبةٍ من نوعٍ آخر، أشد وأنكى من النكبة وفعل الاقتلاع من الأرض، والجيل الثالث يجتاز درب الوجع وهو محمّل بإرثٍ لا يصلح للمحافظة على جوهر المصيبة، إرثِ الهزيمة المحمولة على فساد القيمة الثورية، وإرثِ اللامبالاة نتيجة انسداد الأفق، وإرثٍ في طريقه للتشكل يراقب مآلاتِ فساد القيمة، ومنها وهْمُ حكومةٍ وأوهام، وطن حائر بين تحقيق السيادة وبين التماهي مع الأمر الواقع/ الاحتلال، وهذا الأخير نكبةٌ مكتملة الأوصاف والعناصر.

اللاجئ الفلسطيني اليوم، جيلٌ أولٌ مصابٌ بداء الذكريات الملعونة، وجيلٌ ثانٍ مصابٌ بالنكبة السياسية والوطنية، وجيلٌ ثالثٌ يسعى لبناء مستقبله انطلاقاً من إحباطه، ورغم ذلك، جزءٌ من هذا اللاجئ ما يزال يهتف للرمز، لأنه لو أحجم سيفقد أسباب العيش والإمكانيات، وجزءٌ يتهكّم على الشعارات والأمل، والنتيجة تأقلمٌ غير موجعٍ مع الكارثة/ النكبة، حتى أنها فقدت قيمتها وجوهرها، وتحوّلت أمكنتها/ مخيماتها/ إلى أوطان، يمارس فيه السكانُ كلَ شيء إلا فعل المقاومة، ووجودهم في المكان لم يعد يحتمل التنظير بالقول إنه فعل مقاومة؛ يقيمون في ظل أوضاعٍ اقتصاديةٍ مهترئة، وواقعٌ تعليميٌ بائسٌ ومتخلّف، ووظروفٌ تنمويةٌ بشريةٌ متردّية، حيث تتراجع الأخلاق الوطنية والإنسانية، ويضعف الانتماء والالتزام، وغالبيتهم ينتظرون فرصةً للهجرة إلى أوروبا للتخلّص من وباء البطالة وضيق الحال والفساد، والأمر الكارثي الأكثر إيلاماً أن قسماً لا بأس به من الشباب الحالي لا يستطيع المنافسة إذا ما انتقل إلى مجتمعاتٍ تعتمد فرصُ العمل فيها على الشهادة والخبرة والمهارات.

الحديث السابق عن المخيمات الفلسطينية في الشتات، فمعلوماتي قليلةٌ عن سكان المخيمات داخل الأرض المحتلة، سوى أن عددهم في الضفة الغربية وقطاع غزة/ يقارب المليوني لاجئ، وهناك ثلاثة ملايين لاجئ في لبنان و سوريا والأردن، وتقول إحصائيات الأونروا إن عدد اللاجئين المسجلين لديها حتى العام 2015 حوالي ستة ملايين لاجئ.

اللاجئون الفلسطينيون منسيون، فلسطينياً وعربياً وعالميا، لا أحد يكترث لأمرهم رغم وجود قرار صدر بالأغلبية عن الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 11/12/ 1948 ورقمه 194 جاء فيه: "تقرر وجوب السماح بالعودة، في أقرب وقتٍ ممكنٍ للاجئين الراغبين في العودة إلى ديارهم والعيش بسلامٍ مع جيرانهم، ووجوب دفع تعويضاتٍ عن ممتلكات الذين يقررون عدم العودة إلى ديارهم، وكذلك عن كل فقدانٍ أو خسارةٍ أو ضررٍ للممتلكات، بحيث يعود الشيء إلى أصله وفقاً لمبادئ القانون الدولي والعدالة، وبحيث يعوّض عن ذلك الفقدان أو الخسارة أو الضرر من قبل الحكومات أو السلطات المسؤولة"، وقد وافقت الأمم المتحدة على عضوية "إسرائيل" بشرط تسهيل عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، ووفقا للمنطق، فإن "إسرائيل" تكون قد خسرت عضويتها.  

إن محصلة الفعل الكارثي اليوم تتجلى في التجاهل التام لقضية اللاجئين، وتَضاعف التجاهل مع توقيع اتفاقياتٍ فلسطينيةٍ وعربيةٍ مع العدو الإسرائيلي، ما شكّل تراكماً سلبياً محبطاً لدى اللاجئين، فبدلاً من النحت فيه ولفت الأنظار إليه من قبل اللاجئين وقياداتهم الفاشلة، بات اللاجئُ يبحث عن ممرٍ آمنٍ للخروج من المخيمات؛ الهجرة إلى أوروبا أو أي بلدٍ يحترم إنسانيتهم، وليس وطنيتهم.

اللاجئ الفلسطيني اليوم لا يتابع الانتخابات التشريعية أو الرئاسية، ليس لأنها لا تهمه، بل لأن موضوعه كلاجئٍ غيرُ مدرجٍ في البرامج الانتخابية، ولأن الانتخابات ستعيد إنتاج الشخوص ذاتهم، ولأنه أيضاً لا يشارك في الانتخابات، الأمر الذي يشعر اللاجئ بالتقزّز، واللاجئ الفلسطيني اليوم لا يتابع تلفزيون فلسطين لأنه غير معنيٍ باللاجئ الفلسطيني، خارج أو داخل الأرض المحتلة، هكذا لعبت السياسات المراهقة للقيادة الفلسطينية دوراً في إحداث شقٍ نفسيٍ بين الخارج والداخل.

اللاجئ الفلسطيني يشعر منذ حدوث الكارثة/ النكبة/ بأنه عبءٌ على الدول التي لجأ إليها، ولا علاقة لهذا بالعامل النفسي، وإنما بالممارسات المترجمة على أرض الواقع، فأعضاء جامعة الدول العربية لم يتفقوا على قانونٍ يحمي اللاجئ في غربته ولجوئه، ونعني بالحماية الاقتصادية والاجتماعية، وحرية العمل الوطني لضمان بقاء القضية الفلسطينية حيّةً في النفوس، فبعد سبعة عشر عاماً من النكبة/ الكارثة، اجتمع أعضاء جامعة الدول العربية لبحث تسهيل إقامة اللاجئين الفلسطينيين في ديارهم، وكانت المحاولة الأولى للتعامل مع قضية اللجوء بكليتها، وتوصلوا إلى قرارٍ سُمي وقتذاك بـ(بروتوكول الدار البيضاء)، تبنّته قمةٌ خاصةٌ لرؤساء وملوك الدول العربية، عقدت في الدار البيضاء في المملكة المغربية في العام 1965، ويقضي البروتوكولُ بمعاملة اللاجئين الفلسطينيين كمواطني الدول العربية التي يعيشون فيها فيما يتعلق بالتوظيف/التشغيل، والحق في مغادرة إقليم الدولة التي يقيمون فيها والرجوع إليه، والحرية في التنقل ما بين الدول العربية، وإصدار وثائق السفر وتجديدها، وحرية الإقامة والعمل والحركة. إلا أن معظم الدول العربية لم تصادق عليه باستثناء سوريا و الأردن والجزائر، وقدّمت كل دولة تعديلاتٍ فرّغت البروتوكول من محتواه، ومنذ ذلك الحين، لا قوانين تنظم إقامة اللاجئين، ولا نوايا للتعامل مع حق العودة، بل لم يرد أحدٌ على نتنياهو وهو يتبجّح بأن اللجوء لا يُورّث، ووفق قناعته المستحدثة مؤخراً، فإن عدد اللاجئين قد لا يتجاوز المئات.

إذا كان اللاجئ الفلسطيني هو رمز القضية وسبب بقائها، وإذا كانت القيادات الفلسطينية مهتمةً بالإبقاء على توهّج القضية، عليهم أن يعيدوا التفكير في كل استراتيجياتهم وأولها: اعتبار اللاجئين مواطنين من الدرجة الأولى يحق لهم ممارسة حق الانتخاب، وثانيها: أن تتحمل السفارات الفلسطينية مسؤولياتها نحو اللاجئين بصفتهم مواطنين مُبعدين عن أرضهم، وثالثها: وهذا يتبع سابقه: أن تصدر السلطة الفلسطينية جوازات سفرٍ فلسطينيةٍ للاجئين، وبذلك يتحولون إلى جالياتٍ فلسطينيةٍ مقيمةٍ في الشتات، فيحق لهم العمل والاستقرار المؤقت، ورابعها: أن يصار إلى إعادة تعبئة اللاجئين من خلال البرامج التوعوية الوطنية والثقافية والإنسانية. وخامسها: وضع استراتيجيةٍ تعليميةٍ وتربويةٍ تعتمد مجانية التعليم وإلزاميته حتى الانتهاء من الثانوية العامة، وتوفير ما يلزم لرعاية الجيل الثالث فكرياً وثقافياً وتربوياً وأخلاقياً، وممارسة الضبط الحقيقي ليوميات اللاجئ من خلال المؤسسات المختلفة.

على قيادة الشعب الفلسطيني أن تعيدَ للاجئ كرامتَه وإنسانيتَه ووطنيتَه، من خلال إعادة الثقة بها، وفي هذا المقام، لو فتحت القيادة صدور اللاجئين لشاهدت صورتهم الحقيقية، وأنها حولت كثيرين منهم إلى منافقين ومرتزقة، لا تربطهم بالتنظيم، أي تنظيم، سوى الدولار والمكانة الاجتماعية، وهذه مأساةٌ أخرى، أن تتحول المكانة التنظيمية إلى قيمةٍ اجتماعيةٍ للمباهاة، وهذا مبحثٌ آخر.

سأقولها مباشرة: أمل الفلسطيني في العودة آخذٌ في التآكل، وثقة اللاجئ بصاحب القرار الفلسطيني في الداخل وفي الشتات متدنّية، والبحث في الأسباب يقود إلى المزيد من اللعنات، لهذا، فإن حق العودة ينتحب يا سادة، لأنكم تذكرتم الدولة ونسيتم الشعب، تنشغلون بالشكليات وتنسون الجوهر، وقد آن الأوانُ لمصارحة اللاجئن في المقام الأول، فهل أنتم مستعدون؟!