Menu

الفلسطيني في الأردن: في أسر الأساطير

عرفات الحاج

نُشر هذا المقال في العدد 23 من مجلة الهدف الإلكترونية

لعل أسوأ ما يحدث لأشياءٍ مثل الذاكرة والوعي الجمعي والهوية، هي أن تقع في عمليات تشكيلها تحت تأثير الخصوم والأعداء، وفي حالة مقاربة الوجود الفلسطيني في الأردن، تقف سلسلةٌ هائلةٌ من "أكواد تفجير المخاوف" في هذه المساحة، فيتم محاصرة أي عمليةٍ للتفكير لا بما يصنعه الأعداء بل حتى بالمخاوف الذاتية، وهو ما يصنع نوعاً من السردية الفلسطينية الرسمية وشبه الرسمية، يرددها الجميع في واحدةٍ من أكبر عمليات ردع التفكير.

من مجموع ٢ مليون و٢٧٥ ألف لاجئ، حوالي ٣٩٦ ألف لاجئ فلسطيني في الأردن هم فقط من يعيشون في مخيمات اللاجئين، هؤلاء نسبتهم أقل من ١٨% من مجموع اللاجئين الفلسطينيين في الأردن، وذلك ارتباطاً بجملةٍ العوامل والتعقيدات المحيطة بالوجود الفلسطيني في الأردن منذ بدايته.

 الفلسطيني ضمن التركيبة السكانية للأردن

يشكل الفلسطينيون في الأردن والبالغ عددهم حوالي ٣ مليون نسمة يحملون الجنسية الأردنية، بما فيهم ٢ مليون و٢٧٥ ألف لاجئ، حوالي ٤٣% من مجموع المواطنين الأردنيين، وبحسب الإحصاء العام للسكان في الأردن والذي جرى في العام ٢٠١٥م، فقد مر الأردن بتغيراتٍ سكانيةٍ حادةٍ في العقدين الأخيرين، إذ يبلغ عدد سكان هذا البلد حوالي ٩.٥ مليون نسمة، بينهم فقط ٦.٦ مليون من حملة الجنسية الأردنية، أي أن هناك كتلةً سكانيةً ضخمةً جديدةً من غير الأردنيين أضيفت لمجموع السكان، معظمها من اللاجئين السوريين والعرب، هذه الكتلة تعتبر أقل اتصالاً بهذا البلد من الفلسطيني الأردني، ويمكن القول أنها باتت تحتل موقع "الغريب" في مقابل ابن البلد، وهي السمة التي لطالما طبعت الوجود الفلسطيني في الأردن،

أقل بقليلٍ من ثلث سكان الأردن هم الآن من غير حملة الجنسية الأردنية، فيما يشكل "الغرب الأردني" و "الشرق أردني" الثلثين الباقيين، وهي حقيقة ديموغرافية جديدة وعامل يصنع آثاره الخاصة على نحوٍ يوميٍ في حياة هذا المجموع، وما يفرزه من ظواهرَ سياسيةٍ واجتماعية.

أساطير المواطنة واللجوء 

يحشر الفلسطينيُ في الأردن بين تدافع خانات التصنيف الفلسطينية والأردنية، فمن جانبٍ عليه أن يكونَ فلسطينياً تماماً يهتف للعودة ويطالب بها ويرفض التوطين ومشاريع الوطن البديل، ومن جانبٍ آخر هو أردنيٌ يعيش في هذه البلاد منذ ثلاثة أجيال، يحاول أن يطالبَ بحقوقه ويخوض جدله السياسي والمجتمعي الخاص كأردنيٍ يرفض استثناءه أو تهميشه ضمن المعادلة الأردنية، وهذا كله يتم في بلدٍ تعيش تماساً واحتكاكاً مباشراً وتداخلاً وثيقاً مع الشأن الفلسطيني والصراع العربي الإسرائيلي، لا بحكم وجود هؤلاء الفلسطينيين على أرضها فحسب، بل بحكم هويتها وموقعها، وتاريخها المرتبط بهذا الصراع.

هذا التعقيد لم تصنعه مؤامراتُ ومشاريعُ التوطين فحسب، لكن ذلك الارتباك الهوياتي الذي يعيشه المجموع الفلسطيني، كما يعيشه الأردني كل في سياقه الخاص، ومحاولة تخيل المواطنة في كلِ قطر ٍ عربيٍ بمعزلٍ عن فكرة العروبة التي ما زالت عاملاً ومكوناً هوياتياً أساسياً، يفاقم هذا التعقيد محاولةُ مقاربة القضية الفلسطينية بملفاتها المختلفة بما فيها ملف اللجوء الفلسطيني في الأردن باعتبارها قضية الفلسطينيين، أو مقاربة الشأن السياسي والمجتمعي الأردني باعتباره شأن خاص بالأردنيين الأصليين، أو يعتبر انخراط الفلسطيني بتفاصيله السياسية هو ابتعاد عن فلسطينيته، أو انفكاك عن قضيته كلاجئٍ يسعى للعودة.

الوجود القلق هو السمة الملازمة للفلسطيني في الأردن ليس بمعنى وجود خطرٍ على بقاء الفلسطينيين ومواطنتهم أو معيشتهم في الأردن، ولكن بمعنى تلك الحدود التي تضعها الجماعات "الوطنية" الضيقة بعيداً عن الفكرة القومية، وبعيداً عن إدراك التعدد والتعقيد الهوياتي الملازم لكل إنسانٍ وجماعةٍ بشرية، ناهيك عن حالة جماعةٍ تعرضت للتهجير واللجوء وترتبط بقضيةٍ صراعيةٍ مركزيةٍ كانت عنواناً لمعظم التحولات الداخلية لا في الأردن بلد لجوء هذه الجماعة فحسب، بل على امتداد الوطن العربي.

تعقيدات وتراكيب مجتمع اللجوء الفلسطيني في الأردن

لم ينتج مجتمع اللجوء الفلسطيني في الأردن بين ليلة النكبة وضحاها، بل تراكمت طبقات هذا المجتمع وشرائحه المختلفة كنتاجٍ للمفاعيل المستمرة للصراع مع العدو الصهيوني، كما لا يمكن القول إن هناك شكلاً واحداً للتصنيف قد يمكن من فهم هذا التعقيد، فحسب التقسيم التاريخي لوقائع اللجوء يمكن استظهار التصنيف التالي:

١-   اللاجئون الذين خرجوا من فلسطين عام 1948 ولجأوا إلى الأردن.

٢-  اللاجئون النازحون، أي الفلسطينيون الذين لجأوا إلى الضفة الغربية، وعاشوا في مخيماتها ثم لجأوا إلى الضفة الشرقية بعد حرب 1967.

٣-  النازحون، وهم سكان الضفة الغربية الذين كانوا يقطنون مدنها وقراها ثم لجأوا إلى الأردن بعد حرب 1967.

شريحةٌ أخرى من هذا المجتمع لا يظهرها هذا التصنيف ككتلةٍ متمايزة، وهي اللاجئون الفلسطينيون من أبناء غزة، ويبلغ عددهم حوالي ١٤٠ ألف فلسطيني، ويعيشون ظروفاً مغايرةً بحكم تمايز تصنيفهم القانوني، إذ لا يحمل هؤلاء الجنسية الأردنية ولا يتمتعون بحقوق المواطنة، هؤلاء اتخذت الحكومة الأردنية قرارها بمنحهم جوازاتِ سفرٍ مؤقتةٍ في العام ١٩٨٧، لا تمنحهم صفة المواطنة، بل وبات جزءٌ منهم يفتقد حتى لهذه الأوراق بفعل عدم موافقة السلطات الأردنية على تجديدها للعديد منهم في السنوات الأخيرة.

الوضع الاقتصادي والاجتماعي

من بين مجموع اللاجئين الفلسطينيين في الأردن تعترف "الأونروا" فقط بما مجموعه ٢ مليون و٢٠٠ ألف لاجئ مسجل لديها، يعيشون في عشر مخيمات معترف بها، فيما تتوزع بقيتهم على أكثر من ١٠ مخيمات وتجمعات غير معترف بها، ورغم أن نسبة اللاجئين الفلسطينيين في الأردن والبالغة ٣٩% من مجموع اللاجئين الفلسطينيين، جعلت من الأردن دائرة العمليات الأكبر لدى "الأونروا"، إلا أن طبيعة وحجم الخدمات التي تقدمها لهذا المجموع البشري تبدو ضئيلةً جداً قياساً بالعدد والاحتياجات، صحياً لا يوجد إلا ٢٥ مركزاً صحياً فقط تابعاً للأونروا في الأردن، فيما يلتحق فقط أقل من ١٢٣ ألف طالب في تلك المدارس التابعة للأونروا والبالغ عددها ١٧١ مدرسةً فقط.

يعكس التعداد الذي تقدمه أونروا مدى قصور خدماتها في الجانب الإغاثي، فهنا يمكن فهم أن ضآلة الأعداد المستفيدة وقيمة المساعدات المقدمة لا ترتبط بعدم حاجة اللاجئين ولكن بفشل "الأونروا" في اغاثتهم، حيث تبلغ قيمة المساعدات الإغاثية المخصصة للفرد ضمن الشريحة الأكثر فقراً واحتياجاً ١٢٠ دولار سنوياً، يتلقاها جزئياً حوالي ٥٧ ألفاً من مجموع اللاجئين فقط، ويشمل هذا الرقم شرائح النساء والمعاقين وكبار السن.

وكانت "الأونروا" قد أعلنت قرب نهاية العام الماضي عن وجود عجزٍ ماليٍ لديها بحوالي ١١٥ مليون دولار، من ضمن الموازنة المخصصة لهذه الخدمات، ذلك بعيداً عن تقديم أي خدماتٍ إضافيةٍ أو خططٍ تنمويةٍ مستقبلية، وقع تأثير هذا العجز على اللاجئين الفلسطينيين ومن بينهم موظفي "الأونروا"، حيث قال رئيس اتحاد العاملين "بالأونروا" في الأردن، رياض زيغان: إن رئاسة الوكالة فكرت بحل الأزمة المالية من جيوب الموظفين، وذلك بسحب الزيادات الممنوحة لهم، ووضع 30% من الموظفين في إجازاتٍ بدون راتب لعدة أشهر، وإيقاف الموظفين العاملين على نظام العقود والمياومة.

٣٥% فقط من اللاجئين الفلسطينيين في الأردن هم مشاركون في سوق العمل الأردني، فيما يعمل حوالي ٢٥% من اللاجئين الفلسطينيين خارج سوق العمل الرسمي في أعمال المياومة ودون عقود عملٍ ولفتراتٍ متقطعة، وحوالي ٤٦% من الأسر داخل مخيمات اللاجئين ذات دخلٍ محدود أو معدومة الدخل، وتبلغ نسبةُ البطالة بين اللاجئين الفلسطينيين داخل المخيمات وخارجها أكثر من ٣٢% من بين مجموع القادرين على العمل.

إجاباتٌ غائبة

تغيب العديد من الإجابات الخاصة بواقع اللجوء الفلسطيني في الأردن، ليس بالمعنى الإحصائي فحسب، بل بالمعنى السياسي والهوياتي، وحتى بمعانٍ مجتمعيةٍ واقتصاديةٍ هامة، فلا إمكانية لبحث الواقع الاقتصادي للفلسطينيين في الأردن بمعزلٍ عن الظرف الاقتصادي للبلاد ومحدودية مواردها، كذلك تبدو مقاربة موقف الفلسطيني من قضيته بمعزلٍ عن موقف الأردني من الصراع العربي مع العدو الصهيوني مزحةً سمجة؛ دون بحثٍ في إمكانياتٍ للعمل السياسي تستند لفهم للظروف والوقائع، تبدو كل تلك الكلمات التي ترص وصفاً لواقع مجتمع بهذا الحجم والأهمية، مجرد سطورٍ أخرى تضاف لعمليات التنميط وتصب في القوالب الجاهزة التي ارتضتها السلطات والنخب العربية، وجزءٌ من السرديات المريحة حول اللاجئ الفقير أو المواطن المخلص المنتمي للوطن الذي منحه جنسيته، وكل من الفلسطيني أو الأردني أو الفلسطيني الأردني، لا تسهم هذه القوالب إلا في خنقه.