Menu

أوهام القوة الإقليمية العظمى

د. محمد السعيد إدريس

الأسابيع القليلة الماضية التى كانت حافلة بتصعيد ساخن فى الأزمة الأمريكية- الإيرانية حول الاتفاق النووى الإيرانى الموقع عام 2015 مع إيران بمشاركة الولايات المتحدة والقوى الدولية الكبرى (مجموعة 5+1) والاستنفار الإسرائيلى الشديد لمنع تورط الإدارة الأمريكية الجديدة بالعودة إلى هذا الاتفاق شهدت تردد أسئلة استنكارية كثيرة، معظمها بكل أسف، كان مصدرها دوائر سياسية وثقافية وإعلامية عربية وليس فقط إسرائيلية من نوع: كيف يمكن أن تكون إيران تهديداً وجودياً لإسرائيل؟ وهل يصدق أحد أن إسرائيل تخشى فعلاً عدواناً إيرانياً؟ وهل يعقل أن تعتدى إيران على إسرائيل؟ هذا النوع من الأسئلة يؤكد أمرين كليهما شديد المرارة.

الأمر الأول أن دولة الاحتلال الإسرائيلى، كسبت بتفوق، معركة "كسر الإرادة العربية" وحققت "الردع المعنوى" ضد العرب بتفوق كبير، على الرغم من أن آخر معارك إسرائيل مع العرب كانت فى أكتوبر 1973، ثم فى يوليو 2006 وفى هاتين المعركتين كان العرب هم المنتصرون وكان الإسرائيليون منهزمون، وأن صمود الإسرائيليين في هاتين المعركتين كان بسبب الدعم العسكري والاقتصادي والسياسي الأمريكي غير المسبوق الذي لولاه لكانت هزائمهم فادحة.

هذه الحال المأساوية العربية تفرض علينا أن نسأل لماذا وكيف حدث هذا الانهزام المعنوي العربي؟

أما الأمر الثانى فهو أن العرب وقعوا فى فخ الترويج الإسرائيلى الدعائى لأكذوبة أن إسرائيل أضحت هى "القوة الإقليمية العظمى" فى إقليم الشرق الأوسط، وهذا يدفعنا أن نسأل أيضاً ما هى مصداقية هذه الأكذوبة، لأن التغاضى عن دحضها يفاقم من مخاطر السقوط العربى فى شرك الردع المعنوى وانكسار الإرادة، وما يمكن أن يؤدى إليه ذلك من عواقب خطيرة على مستقبل النظام العربى كله، وفرص النهوض العربى المتجدد وإعادة بعث الطموحات التى مازالت كامنة، على الأقل، فى الوجدان العربى.

لم يعد العالم كله يتحدث بجدية عن وجود قوة عالمية عظمى لوجود ثقة بأنه لا توجد دولة فى العالم كله الآن، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية أو أى من القوى العالمية المنافسة خاصة الصين وروسيا تملك المقومات الحقيقية لفرض نفسها قوة عظمى عالمية، وفى مقدمتها أن تكون قادرة على فعل ما تريد فى أى وقت تريد وبالكيفية التى تريدها وأيضاً بالوسائل التى تفضلها. فقد أسقط العالم فرضية أن الولايات المتحدة أضحت قوة عالمية عظمى فى أوج الترويج الأمريكى للانتصار التاريخى على الاتحاد السوفيتى عقب تفككه وانهيار حلف وارسو وانتهاء الحرب الباردة عام 1991 وخروج الولايات المتحدة منتصرة فى هذه الحرب، ما دفع عالم السياسة الأمريكى (يابانى الأصل) فرانسيس فوكوياما إلى التسرع وقتها فى إصدار مؤلفه بعنوان "نهاية التاريخ"، الذى تراجع عن معظم مقولاته فيما بعد، وهو المؤلف الذى تحدث فيه فوكوياما عن أن الانتصار الأمريكى على الاتحاد السوفيتى هو انتصار نهائى للرأسمالية على الشيوعية، وأن الولايات المتحدة ستحكم العالم انطلاقاً من هذا الانتصار. هذه الأفكار كانت خلفية وحافزاً لظهور تيار "الإمبراطورية" الذى تزعمته جماعة "المحافظين الجدد"، التى دعت إلى ضرورة أن تتحول الولايات المتحدة إلى "إمبراطورية" تحكم العالم على النحو الذى تريده، انطلاقاً من قناعة مؤداها أن العالم لم يشهد طيلة عصوره الماضية قوة إمبراطورية بالقوة التى تتمتع بها الولايات المتحدة. رغم ذلك ظهرت اجتهادات مهمة رافضة لهذه الاستنتاجات مستنكرة فرضية أن الولايات المتحدة أضحت، من الناحية الفعلية قوة عظمى.

من أبرز من تصدوا لدعوة أن الولايات المتحدة الأمريكية باتت تشكل قوة عالمية عظمى كان عالم السياسة الأمريكى "إدوارد لوتواك" الذى نشر مقالاً نقدياً ساخراً تحت عنوان: "أين القوة العظمى.. فى البيت ترعى الأطفال". فكرته الأساسية أن الولايات المتحدة لأسباب كثيرة لا تمتلك مقومات القوة العظمى المشار إليها، لوجود كوابح شديدة الأهمية تحول دون ذلك بعضها خارجى لكن أهمها داخلى كامن فى خصوصية المجتمع الأمريكى نفسه، وأشار بهذا الخصوص إلى تفشى "ظاهرة الطفل الواحد فى الأسر الأمريكية"، واستنتج أن انتشار هذه الظاهرة أخذ يحفز الأسر الأمريكية إلى عدم الزج بالابن الوحيد للانضمام إلى الجيش خوفاً عليه من الموت، وهذا التطور زاد من كراهية الأمريكيين ورفضهم للتورط فى الحروب خارج الولايات المتحدة، ومن ثم رفض سياسات التدخل الأمريكى عسكرياً فى الخارج ، عكس افتراضات القوة العظمى.

وإذا كانت العقود الأخيرة قد شهدت انحسار القوة الأمريكية وعودة روسيا إلى المنافسة ، وظهور الصين كقوة عالمية طامحة لاحتلال الصدارة فى النظام العالمى فإن ما يخوضه الآن الرئيس الأمريكى الجديد جو بايدن ضد الصين وروسيا هو صراع من أجل استعادة المكانة العالمية وطموح لأن تصبح الولايات المتحدة قوة عالمية عظمى، الأمر الذى يدفع إلى ضرورة مواجهة الترويج الإسرائيلى لأكذوبة أن "إسرائيل قوة إقليمية عظمى" أى قوة عظمى على  مستوى نظام الشرق الأوسط كله، وأنها هى من يجب أن يقود تفاعلاته ويرسم سياساته ويحدد توجهاته، لذلك من الواجب علينا أن نتساءل بجدية: هل إسرائيل أضحت فعلاً قوة إقليمية عظمى؟

توازن القوى بمفهومه الشامل، أى القوة العسكرية والقوة الاقتصادية والقوة السكانية والقوة الجغرافية ينفى ذلك تماماً مقارنة بالقوى الإقليمية الكبرى المنافسة: إيران و تركيا والعرب وفى القلب من العرب مصر، ويؤكد أنه لولا الدعم الأمريكى الكامل والتعامل الأمريكى مع إسرائيل باعتبارها "الولاية الأمريكية الـ 51" أو "حاملة الطائرات الأمريكية التى لا تغرق" لتحولت إسرائيل إلى "قوة متوسطة" وما استطاعت أن تخوض معركة "فرض وجودها" و"اغتصاب حقوق الشعب الفلسطينى". هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإن عمق الإدراك الإسرائيلى لمخاطر التهديد التى يعيشها هذا الكيان الإسرائيلى يؤكد أنه كيان مفعم بالتهديدات من الخارج ومن الداخل، لدرجة إدراكه لعدم قدرته على الدفاع عن نفسه بالاعتماد على النفس دون مساندة أمريكية وهذا بدوره ينفى بالمطلق كون أن هذا الكيان أضحى قوة إقليمية عظمى يصعب تهديدها.

يمكننا هنا أن نستعرض فقط بعض المؤشرات المهمة التى تؤكد ذلك فى مقدمتها التوافق الراهن فى أوساط القيادة الإسرائيلية السياسية والعسكرية على ضخامة ما تعانيه إسرائيل من تهديدات "وجودية" خارجية وأخرى داخلية من أبرزها على المستوى الخارجى ما أكده يتسحاق ليفانون السفير الإسرائيلى السابق بالقاهرة بأن "إسرائيل يتعين عليها أن تركز على ثلاثة تحديات ثقيلة الوزن هى: النووى الإيرانى بتداعياته الإقليمية والدولية، وتطوير الصواريخ الدقيقة لدى حزب الله، والتحقيق الذى ستجريه محكمة الجنايات الدولية فى (الجرائم) الإسرائيلية".

ليفانون تحدث عن هذه التحديات فى مقال نشره بصحيفة معاريف الأسبوع الماضى في الوقت الذي كان يستعد فيه الرئيس الإسرائيلى رؤوفين ريفلين للقيام بجولة أوروبية برفقة الجنرال أفيف كوخافى رئيس أركان الجيش الإسرائيلى تشمل ثلاثة دول أوروبية: ألمانيا والنمسا وفرنسا للبحث مع قادة هذه الدول فى المخاطر التى تتعاظم ضد إسرائيل من جراء تعاظم قوة حزب الله فى لبنان والبرنامج النووى الإيرانى وقضية فتح محكمة الجنايات الدولية فى لاهاى تحقيقات ضد إسرائيل.

هذا التوافق على فداحة تلك المخاطر والتهديدات التى تواجه إسرائيل وتفرض عليها طلب المساعدة من الحلفاء والأصدقاء يؤكد جديتها بقدر ما يؤكد جدية عجز إسرائيل عن مواجهتها منفردة ما ينفى كون كيان الاحتلال قوة عظمى، لكن كل هذه التهديدات الخارجية لا تقارن بعمق التهديدات الداخلية التى تنهش فى جسد هذا الكيان وتهدد مستقبل استمرار وجوده.

فقد سبق للجنرال (احتياط) عاموس جلعاد رئيس معهد "هرتسيليا" الذى يعد بمثابة "مؤسسة تصنيع الفكر الإستراتيجى الإسرائيلى" أن شبه حال كيان الاحتلال الإسرائيلى فى مداخلة مهمة له أمام مؤتمر هرتسيليا (يونيو 2019) بأنه "منزل محمى بجدران قوية، بينما يأكله النمل الأبيض من الداخل". هذا التشبيه الذى كان بمثابة شهادة من متخصص ومسئول أمنى كبير بأن الكيان الإسرائيلى أضحى مهدداً بـ "افتقاد المناعة" أى تداعى التماسك السياسى والاجتماعى والنفسى لدرجة باتت تهدد بقاءه، والآن يجئ الجنرال "يوفال ديسكين" الرئيس السابق لجهاز الأمن العام (الشاباك) نشر مقالا مهما فى صحيفة "يديعوت احرونوت" منذ أقل من شهر قال فيها أن "هناك سؤالاً وجودياً إستراتيجياً أوضحت أزمة كورونا مدى خطورته : هل تتمتع إسرائيل بالتماسك الاجتماعى والمرونة الاقتصادية والقوة العسكرية والأمنية التى سيضمن وجودها الجيل القادم" .

سؤال خطير يطرح مجدداً سؤال مستقبل الوجود الإسرائيلى، فهل يعقل أن كياناً لا يثق فى مستقبل وجوده وبقائه من داخله يمكن أن يكون بذاته قوة عظمى إقليمية مهيمنة؟ سؤال آن أوانه لدحض أوهام وزيف تلك القوة العظمى لوقف تدنى الإدراك العربي للذات وتداعياته السياسية.