Menu

الانتفاضاتُ الفلسطينيةُ بينَ التّضحيةِ والحصاد

عليان عليان

نشر في العدد 28 من مجلة الهدف الرقمية

باحثٌ وكاتبٌ سياسي/ الأردن

(انتفاضةُ الحجارةِ قُبرت باتفاقيات أوسلو وانتفاضةُ الأقصى ذُبحت بخارطةِ الطريقِ والهباتُ الشعبيّةُ أُجهضت بالتنسيقِ الأمني)

المتتبّعُ لتاريخِ النضالِ الفلسطيني منذُ نكسةِ عام 1967؛ يسجّلُ ملاحظتينِ رئيسيتينِ، أوّلُها: أنّ منظمةَ التّحريرِ لم تتمكّنْ من تحقيقِ أهدافِها، سواءً تلك الواردةُ في الميثاقِ أو الواردةُ في البرنامجِ السياسي الذي اصطُلح على تسميتهِ بالمرحلي، ما دفع حكيمُ الثورةِ الدكتور جورج حبش إلى إنشاءِ مركزِ دراساتٍ متخصّصٍ في دمشق، للإجابة على العديدِ من الأسئلة، وعلى رأسِها سؤالٌ مركزي: لماذا لم تتمكّنْ منظمةُ التّحريرِ من تحقيقِ أهدافِها الوطنيّةِ في السياقينِ التكتيكيّ والاستراتيجي؟

أما الملاحظةُ الثانية: فتتمثلُ بحجمِ التضحياتِ التي قدمها الشعبُ الفلسطيني في مسيرةِ الثورةِ الفلسطينيّة، على صعيدِ الشهداءِ والأسرى، وعملياتِ التنكيلِ والاستيطانِ والقهرِ الاقتصادي، إذ إنّ أبسطَ الإحصاءات، تكشف حقيقةَ أنّ الشعبَ الفلسطيني على صعيدِ التّضحياتِ ارتباطًا بعددِ السكّان، يتصدّرُ المشهدَ الكفاحيّ على الصعيدِ العالميّ ضدَّ الصهيونيّةِ والإمبرياليّة، إذا أخذنا – في الحسبان – موضوعَ الأسرى الفلسطينيين كمؤشّر؛ إذ دخل المعتقلاتِ الصهيونيّةَ منذ عام 1967 ما يزيدُ عن مليون مواطنٍ فلسطيني.

وفي إطار معالجةِ مخرجاتِ الانتفاضاتِ الفلسطينيّة قياسًا بالتضحياتِ الجسام التي قدمها شعبُنا من أجلِ التحرير والحريةِ والاستقلال، نكتشفُ أنّ الإنجازاتِ التي تحقّقت رغمَ أهميتِها لم ترقَ لمستوى التضحيات، ارتباطًا بعاملٍ مركزي ألا وهو أن القيادةَ المتنفّذةَ في منظمةِ التحرير لم تكن بمستوى تضحياتِ شعبِنا الفلسطيني، وأنّ هذهِ التضحياتِ لم يجرِ تثميرها، بل على العكس جرى ضربُها في الصميم عبرَ التنازلاتِ في إطار مشاريعِ التسوية ذاتِ الطابعِ التصفويّ للقضيةِ الفلسطينيّة.

وفي هذهِ المقالةِ نتوقف بشكلٍ رئيسي أمامَ انتفاضتيْ الحجارةِ والأقصى، وبشكلٍ ملخّصٍ أمامَ بقيّةِ الهبّاتِ الشعبيّة.

انتفاضةُ الحجارةِ ( 1987- 1993)

شرارةُ هذه الانتفاضة التي أدهشت العالمَ تمثلّت بقيامِ سائقِ شاحنةٍ إسرائيلي بدهس مجموعةٍ من العمّال الفلسطينيّين على حاجز إيريز (بيت حانون) في 8 ديسمبر (كانون أول) 1987 حيث انطلقت من مخيّم جباليا في قطاع غزة، بتاريخ 9 ديسمبر 1987 لتمتدّ بعد ذلك إلى جميع المدنِ والقرى والمخيّماتِ في الضفّةِ الغربيّةِ وقطاعِ غزة.

لكنّ الأسبابَ الحقيقيّةَ للانتفاضة، تمثّلت في رفضِ الشعبِ الفلسطيني للاحتلالِ والاستيطان ورفضهِ لإجراءاتِ ضمِّ القدس ، وللإجراءاتِ القمعية من قتلٍ وإبعادٍ وزجِّ الآلاف من أبناءِ الشعب الفلسطيني وبناتهِ في المعتقلات، ولإجراءاتِ التضييقِ الاقتصادي، بعد وصولِ التناقضِ والصراعِ مع العدو في تلك الفترة إلى ذروتهِ "نقطة التأزيم"، يضاف إلى ذلك أنّ الشعبَ الفلسطيني في الداخلِ وقواه الوطنية سعت إلى تخليصِ منظمةِ التحرير من مأزقها بعد خروجِ فصائلِها من بيروت، إثرَ العدوانِ الصهيوني على لبنان عامَ 1982.

وقد شكّلت فصائلُ منظمةِ التحرير الفلسطينية قيادةً موحدةً للانتفاضة، من شخصياتٍ وطنيّةٍ؛ لبرمجةِ فعالياتِها الكفاحية، من مظاهراتٍ وإضراباتٍ وعصيان مدني، وأيام غضبٍ تخللها إلقاءُ الحجارة وقنابلُ المولوتوف على جنود العدو وقطعان المستوطنين، وتوحّد الشعبُ الفلسطيني حولَ نهجِها وأهدافها؛ إذ انخرط فيها أبناءُ التشعب الفلسطيني من مختلِفِ فئاتهِ الاجتماعية، وتميّزت بشموليّتِها الجغرافيّةِ والديمغرافيّةِ والطبقيّة.

وحدّدت القيادةُ الموحّدةُ أهدافًا عدّةً للانتفاضة، أبرزها: دحر الاحتلالِ وحق تقريرِ المصير وإقامة الدولةِ الفلسطينية، إلى جانبِ أهدافٍ عديدةٍ أخرى، مثل تفكيكِ المستوطنات، وعودةِ اللاجئين الفلسطينيين دون قيدٍ أو شرط، وتقويةِ الاقتصاد الفلسطيني؛ تمهيدًا لفكِّ تبعيّتهِ للاقتصاد الإسرائيلي وتحرير الأسرى الفلسطينيين.

لقد حقّقت انتفاضةُ الحجارة إنجازاتٍ هائلةً على الصعيدين الميداني والسياسي نذكر منها ما يلي:

1- ضربت هذه الانتفاضةُ معنوياتِ جيشِ الاحتلال في الصميم، بعد أن تم جرُّهُ من قبل أطفالِ الانتفاضة إلى حواري المدنِ والقرى وأزقّتِها في معاركَ لا تتوقف بين كرٍّ وفرّ، على مدى ست سنوات. وقد ضاق العدو ذرعًا بالانتفاضة بعد أن فشلت إجراءاتُهُ القمعيّةُ كافةً في وقفها، وأهمُّها: سياسةُ تكسيرِ العظام التي اتبعها رئيسُ وزراء الكيانِ الصهيوني آنذاك "إسحق رابين" الذي أعلن إفلاسَهُ آنذاك بقوله: "فليبلع غزّةَ البحرُ".

2- حقّقت وحدةً ميدانيّةَ غيرَ مسبوقةٍ بين أبناءِ الشعب الفلسطيني وفصائلِهِ وقواه الاجتماعيةِ في إطارِ الانتظام بفعالياتٍ نضاليّةٍ جرت برمجتُها من قبل القيادةِ الموحّدة للانتفاضة.

3- حققت أكبرَ عزلةٍ دوليّةٍ للكيان الصهيوني، وأكبرَ التفافٍ شعبي عربي ودولي عالمي حولَ أهدافِها منذ نكبة 1948.

لقد كان من المقدّرِ أن تنجزَ الانتفاضةُ غيرُ المسبوقةِ منذ نكبة عام 1948، الأهدافَ سالفةَ الذكر، والتي سبق أن أشارَ إليها الدكتور حبش: "بأنها نقلت الحقوقَ الوطنيةَ الفلسطينية من دائرةِ الإمكانيةِ التاريخية إلى حيّز الإمكانيةِ الواقعية" (1).

لكنّ هذهِ الانتفاضةَ لم تحقق أيًّا من الأهداف سالفةِ الذكر، جرّاء ( أولاً) لهاثِ القيادةِ المتنفذة وراء هدفٍ رئيسي، ألا وهو أن تقبلَ الإدارةُ الأمريكية الحوارَ معها، حيث قدمت كلَّ التنازلات المطلوبةِ عبرَ المبادرةِ السياسية وعبرَ وثيقةِ ستوكهولم وغيرهما، من أجل تحقيقِ هذا الهدف، ضاربةً عرضَ الحائط بتضحياتِ شعبنا، حيث بلغ عددُ الشهداء 1,162 شهيدًا، بينهم نحو 241 طفلًا، وأصيب خلالها نحو 90 ألف جريح، واعتقل ما يزيدُ عن 60 ألف فلسطيني، فضلًا عن نسف 1228 منزلاً، واقتلاع 140 ألف شجرة ٍمن الحقول والمزارع الفلسطينية (2).

وثانيًا: جرّاءَ توقيعِ هذه القيادةِ اتّفاقاتِ أوسلو 1993 التي وضعت حدًّا للانتفاضة وشكلت عنوانًا رئيسيًّا؛ لتصفيّةِ القضيّةِ الفلسطينيّة.

المبادرةُ السياسيّةُ الفلسطينيّة - التفافٌ على الانتفاضةِ وأهدافها

ماذا حصل قبل إقرارِ المبادرةِ السياسية المنبثقةِ عن دورة المجلسِ الوطني رقم (19) في تشرين الثاني (نوفمبر) 1988؟ ماذا حصل بعد إقرار المبادرةِ السياسيةِ في الدورةِ نفسِها التي استندت في الجوهرِ إلى الاعترافِ بالقرار 242 مضافًا إليه عبارةَ تقريرِ المصير، وتحفُّظ الجبهةِ الشعبيّةِ على هذا القرار.

عشيّةَ انعقادِ الدورة (19) للمجلسِ الوطني الفلسطيني في نهايةِ شهر سبتمبر (أيلول) 1988، طلب رئيسُ اللجنةِ التنفيذية ياسر عرفات استشارةً من عدد من المفكرين الفلسطينيين والعرب وهم محمد حسنين هيكل وإدوارد سعيد وأحمد بهاء الدين الذين التقوا في جنيف، وأوصوا بما يلي (3):

1- كان المطلوبُ من منظمة التحرير، الآن – وهو صحيح- أن تتعاملَ مباشرةً وعلانيّة مع إسرائيل، على أساس الاعترافِ بها، فإن الأساسَ الذي يمكن اعتمادُهُ هو قرارُ التقسيمِ الصادر عن الجمعيةِ العامة للأممِ المتحدة، تحت رقم 181، والخاص بإقامةِ دولتينِ في فلسطين: دولةٍ يهودية ودولةٍ عربية... وهكذا فإن الاعترافَ المطلوبَ من المنظمةِ بإسرائيل الآن، يستحسن أن يجريَ تحت مظلةِ قرارِ التقسيم قبل أيّ مبدإٍ دوليٍّ آخر.

2-إنّ مطالبةَ المنظمةِ بالاعترافِ بالقرار (242) تزيد غير مطلوب، فهذا القرارُ لا يشير إلى قضيّةِ فلسطين، أو حقوقِ الشعب الفلسطيني؛ لأنه صدر بعد حرب 1967 لإزالةِ آثارِ العدوان على دولٍ عربيّةٍ بذاتها هي مصر وسورية والأردن.

3-وترتيبًا على الاعتراف بقرارِ الجمعيةِ العامة للأمم المتحدة رقم 181، لسنة 1947، فإنّ منظمةَ التحرير يمكن لها إعلانُ دولةٍ فلسطينيّة مستقلّة، تعترف بها الدولُ العربيةُ كما تعترف بها بعضُ الدولِ الصديقة، وتكون هذه الدولةُ هي التي تتولى بنفسِها وبصفتِها مسؤوليّةَ التفاوض، من أجل حلٍّ نهائيٍّ للقضية الفلسطينية.

وقد حمل هؤلاءِ – المفكرون – هذهِ الاقتراحاتِ إلى رئيس اللجنةِ التنفيذية للمنظمة "ياسر عرفات" الذي تباحث معَهم بشأنِها، قبل أن يكشف عن موقفهِ من ضرورة الاعتراف بالقرار 242، وطلب منهم أن يقنعوا الدكتور جورج حبش بالمقترحات المطروحة، وبهذا الصدد يقول الكاتب والمفكر محمد حسنين هيكل: "وقبل عقد الاجتماع العام للقيادةِ الفلسطينية لوضعِها في صورة هذه الاقتراحات، طلب عدد من قادة "فتح" إلى "بهاء" و "هيكل" أن يساعدا بكل استطاعتهما على تليين موقف "الدكتور جورج حبش"... وكان ظن قادة "فتح" أنه إذا مشى "الحكيم" (وهو اللقب الذي كان ينادى به جورج حبش) معهم على الخط الجديد، فلن يكون في مقدور أحدٍ أن يزايد عليهم؛ لأنّ "الحكيم" معروفٌ بصلابته، وهو الوحيدُ خارج "فتح" الذي يملك نصيبًا لا يستهان به من الشرعية والاحترام العام بين الفصائل ووسط الجماهير".

وبهذا الصدد يقول هيكل بشأن لقائه مع الدكتور جورج حبش(4): "وفي لقاء مع الدكتور جورج حبش كان "الحكيم" مهمومًا بما يجري في الاتحاد السوفياتي، والتغييراتِ المخيفة التي تحدث فيه تحت حكم "جورباتشوف"، وكان رأي "الحكيم" أنّ ضعفَ هيبةِ الاتّحاد السوفياتي سوف يكشف كلَّ الحركات الثوريّة في العالم ، ثمّ، فإن "الحكيم" بتحليلاتهِ الخاصة كان على استعداد لأن يكون أكثرَ مرونة في الحركة، طالما أن الثوابت الفلسطينية- على حد تعبيره- قائمة".

وقد كشفت وثائقُ وزارةِ الخارجيّة الأمريكيّة، وكذلك مذكرات "جورج شولتز" – وزير الخارجية الأمريكية آنذاك- بأن "ياسر عرفات" كان طوال شهر سبتمبر (أيلول) 1988م على اتّصالٍ بالإدارة الأمريكيّة، عن طريق "وليام كوانت" الذي عمل مستشارًا في مجلسِ الأمن القومي، وأبدى استعدادَه للموافقةِ على الشروط الأمريكية الثلاثة كافةً، وهي الاعترافُ بالقرار 242، ونبذُ الإرهاب والاعترافُ بحقِّ إسرائيل بالوجود، كل ذلك مقابل أن تقبلَ الإدارةُ الأمريكيّةُ بالحوار مع منظمةِ التحرير وليس مقابلَ الحصولِ على دولة فلسطينية.

وبعد تمرير المبادرةِ السياسية الفلسطينية في الدورة (19) للمجلس الوطني الفلسطيني، التقى وفدٌ من منظمةِ التحرير في ستوكهولم برئاسة خالد الحسن، بوساطة وزيرِ خارجية السويد "ستيف أندرسون" مع وفدٍ من كبارِ القيادات الصهيونية في تشرين الثاني (نوفمبر) 1988، جرى الاتفاقُ على نصٍّ مشترك لخطاب عرفات المرتقب في الجمعيةِ العامة للأمم المتحدة يتضمّن ما يلي "الدعوة لعقد مؤتمر دولي، وأن المجلسَ الوطني الفلسطيني يقبلُ بوجود إسرائيل بما هي دولة في المنطقة، ويرفض الإرهاب ويندد به في جميع أشكاله" (5).

ليتلوه بعد ذلك لقاءُ عرفات مع الوفد ذاته، أكّد خلالَه الموافقةَ على الشروطِ الأمريكية كافةً من جديد، وهي: أن قيادةَ المنظمة على استعدادٍ للتفاوض مع إسرائيل، في إطارِ مؤتمرٍ دولي لتسويةٍ شاملةٍ للصراع العربي- الإسرائيلي، على أساسِ قراري الأمم المتحدة 242 و338 / إنها تتعهد أن تعيشَ في سلامٍ مع إسرائيل ومع كل جيرانها، وأن تحترمَ حقَّهم في العيش بسلامٍ ضمنَ حدودٍ آمنة معترف بها/ إنها تدين أعمال العنف الفردي والجماعي وإرهاب الدولة في كل صورها ولن تلجأ إلى شيء من ذلك (6).

وبعد ذلك ألقى خطابه في جنيف في 13 ديسمبر (كانون أول) 1988، مستعرضًا المبادرةَ الفلسطينيّة، وعقد مؤتمرًا صحفيًّا بعد ذلك بناءً على طلب الخارجية الأمريكية لتظهير التنازلات الفلسطينية، ليسافر بعدها إلى باريس ويلتقي الرئيسَ الفرنسي ميتران معلنًا إلغاءَ الميثاق الوطني مستخدمًا المفردة الفرنسية (كادوك).

وقد أغرت هذه التنازلاتُ الفلسطينية كلًّا من شامير ومبارك؛ ليطرحا مبادرتين تتجاهلا منظمة التحرير الفلسطينية، وتطرحا الحكم الذاتي كسقفٍ لحلِّ القضية الفلسطينية، ولتتلوهما مباردةُ وزير الخارجية الأمريكي جيمس بيكر التي أكدت هي الأخرى على سقفِ الحكم الذاتي وتجاهل منظمة التحرير.

انتفاضةُ الأقصى (28 سبتمبر 2000- 2005)

حصلت هذه الانتفاضةُ إثرَ قيامِ شارون مع عددٍ من حرّاسه باقتحامِ المسجد الأقصى والتجول في ساحاته، معلنًا أنّ الحرمَ القدسي سيبقى منطقة إسرائيلية، مما أثار استفزازَ المصلين الفلسطينيين، فاندلعت المواجهاتُ بين المصليين وجنود الاحتلال في ساحات المسجد الأقصى فسقط 7 شهداء وجُرح 250 وأُصيب 13 جندي إسرائيلي وكانت هذه بداية أعمال الانتفاضة.

وجاءت عمليةُ اقتحامِ المسجد الأقصى، بعد فشل مفاوضاتِ كامب ديفيد بين عرفات ورئيس الوزراء الصهيوني آنذاك يهودا باراك، التي طرح فيها تقسيم الأقصى بين الكيان الصهيوني والسلطة الفلسطينية، بحيث يكون للكيان الصهيوني السيادة تحت الأرض وللسلطة السيادة فوق الأرض، الأمر الذي رفضه أبو عمار.

وإذا كان اقتحام شارون للمسجد الأقصى قد شكّل شرارةَ الانتفاضة، فإن سببَها الجوهري يعود إلى سخطِ الشارع الفلسطيني على اتفاقيات أوسلو، وتوظيفها من قبل العدو لتصفيةِ الحقوقِ الوطنية للشعب الفلسطيني، بعد أن مضى عامَ 1999 دون الإعلانِ عن الدولةِ الفلسطينية، وبعد أن أصبحت قضايا الحل النهائي (اللاجئين و القدس والمستوطنات وغيرها) التي لم يتمَّ إسنادُها بقراراتِ الشرعيةِ الدولية ذات الصلة، وراءَ ظهرِ الكيان الصهيوني.

لقد حقّقت انتفاضةُ الأقصى إنجازاتٍ هائلةً بجمعها بين الشكلِ الجماهيري للمقاومة، والمقاومة المسلحة، مع ضرورة الإشارةِ هنا إلى أن العدو الإسرائيلي هو من استخدم النارَ بشكلٍ مفرطٍ ضدَّ الجماهير الفلسطينية، ما دفع المقاومة لاستخدام السلاحِ لحمايةِ الجماهير المنتفضة... وأبرز إنجازاتها:

1- حققت أكبرَ عزلة للكيان الصهيوني على الصعيدِ الدولي منذ قيامه عام 1948 ، وحصول أوسع تضامن شعبي عالمي مع القضية الفلسطينية ومع الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني.

2- حقّقت أكبرَ التفاف شعبي عربي حول القضية الفلسطينية، باعتبارها القضية المركزية للأمة العربية، من خلال كمٍّ مهولٍ من المظاهرات في مختلِفِ العواصم والمدن العربية لدرجة أن دولًا لم تعرف المظاهرات في تاريخها مثل دول الخليج خرجت فيها مظاهراتٌ داعمة لانتفاضة الأقصى، وهو ما أحرج الأنظمة العربية التي عقدت بعد ما يقرب من شهر على اندلاع الانتفاضة القمة العربية الطارئة في القاهرة، وخرجت ببيان لم تصل فيه إلى مستوى آمال الشارع العربي، وإن كان فيه دعم وإعطاء صبغة شرعية أعمق لانتفاضة الأقصى.

3- حققت أكبر التفاف شعبي في الدول الإسلامية حول القضية الفلسطينية، إذ عمت عواصمَ هذه الدول مظاهراتٌ صاخبة داعمة لانتفاضة الأقصى وأهدافها، ما أحرج حكام هذه الدول ودفعها لعقد مؤتمر الدوحة الإسلامي، والخروج ببيان داعم نسبياً للانتفاضة وأهدافها، ومنتقداً موقف الإدارة الأمريكية المتسامح مع القمع الإسرائيلي.

4- نجحت في خلقِ توازن نسبي للردع وجر العدو إلى ما جرى الاصطلاح عليه "بالتوتر المنخفض"، حيث قُتل خلال سنواتها الخمس ١٠٦٩ جنديًّا إسرائيليًّا ومستوطنًا وأصيب ٤٥٠٠ آخرين، في حين ارتقى خلالها ٤٤١٢ شهيداً وأصيب أكثر من ٥٠ ألف مواطن فلسطيني.

5- نزوحٌ مهولٌ للمستوطنين من الضفة الغربية والقدس للمناطقِ الأكثر أمنًا في مدن الساحل.

6- هجرةٌ مضادةٌ لليهود من الكيان الصهيوني إلى الخارج، وتوقف الهجرة اليهودية بشكلٍ شبه كامل من الخارج إلى (إسرائيل).

7-انعدامُ الأمن في الشارع الإسرائيلي بسببِ تصاعدِ العملياتِ الاستشهاديّةِ وتحطيم مقولة الجيش الذي لا يُقهر في معركة مخيم جنين، الذي قتل فيها 58 جندي إسرائيلي وجرح 142 وقتل فيها قائد وحدة الهبوط المظلي الإسرائيلي (الكوماندوز)، والعملية العسكرية الأولى من نوعها في تاريخ الصراع مع العدو الصهيوني، والتي تمثلت باغتيال وزير السياحة الإسرائيلي (رحبعام زئيفي) من قبل فدائيين من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ردًا على اغتيالِ الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين " أبو علي مصطفى ".

8- إلحاقُ خسائر اقتصادية كبيرة بالكيان الصهيوني، خاصةً في قطاع السياحة وضرب اقتصاد المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية.

9- طُرح على قيادات الكيان الصهيوني بمختلف مستوياته ووسائل إعلامه ولأول مرة "سؤال شرعية الوجود"(7).

خطة خارطة الطريق تجهض انتفاضة الأقصى

هذه الانتفاضةُ بإنجازاتها ومفاعيلها، لم تحقّق الهدفَ المركزي منها ممثلًا بدحرِ الاحتلال، وإلغاءِ الاستيطان، وإفشالِ تهويدِ القدس، إذ جرى التآمر عليها وإجهاضها (أولًا) بخطةِ خارطة الطريق 2002 وبتفاهمات ميتشيل – تينيت مع قيادة السلطة الفلسطينية عام 2003، إذ أنه بموجب خطة الطريق، تعهدت قيادة السلطة بوقف العنف مقابلَ أن يتوقف العدو الصهيوني عن بناء المستوطنات في إطار خطة تقود إلى قيام دولة فلسطينية عام 2005 (8).

ثانيًا: وبتوقيع رئيس السلطة الفلسطينية في 8 فبراير 2005 اتفاق الهدنة في قمة شرم الشيخ مع رئيس وزراء الكيان الصهيوني أرئيل شارون، والذي على إثره عملت أجهزةُ الأمن على وقف الانتفاضةِ بشكليْها: الجماهيري والمسلح.

لقد التزمت السلطة منذ تلك الفترة بوقفِ المقاومة وتجريدِ الفصائل من السلاح، واللجوء إلى التنسيق الأمني مع الاحتلال، في حين لم يلتزم العدو بوقف الاستيطان، ولم تقف الأمور عند هذا الحد، إذ أنه في ضوءِ تفاهمات تينيت- مدير المخابرات الأمريكي- وجورج ميتشيل – عضو مجلس الشيوخ الأمريكي- مع السلطة تم إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية الفلسطينية من قبل الجنرال الأمريكي "كيت دايتون" وفق عقيدة جديدة تخدم أمن الاحتلال وليس أمن الشعب الفلسطيني، حيث تم تشكيل كتائب قمع متخصصة جرى تدريبها في أريحا وفي الأردن من قبل مدربين أمريكيين

الهبّات الشعبيّة الفلسطينية

ورغم إعلان رئيس السلطة الواضح والصريح "بأنه لن يسمح باندلاع انتفاضة جديدة وأن التنسيق الأمني مقدس" لم يتوقف الشعب الفلسطيني عن مفاجأة العدو والسلطة معًا بهبّاتٍ جماهيريّةٍ جديدة على النحو التالي:

1- هبة الدعس (الدهس) والسكاكين في تشرين أول عام 2015 التي عملت قيادة السلطة على إجهاضها، وفي الذاكرة قيام الأجهزة الأمنية بالتصدي لعملياتِ المقاومة والتفتيش في حقائبِ الطلبةِ لمصادرةِ السكاكين، وإعلان مدير مخابرات السلطة الفلسطينية آنذاك عن تمكّن جهازه من إفشالِ ما يزيد عن 200 عملية فدائية قبل وقوعها (9).

2- هبة القدس عام 2017 التي تمكن أبناء شعبنا في القدس وعموم فلسطين من إفشال البوابات الإلكترونية، وكاميرات المراقبة عند مداخل المسجد الأقصى التي كانت تستهدف في المحصّلة السيطرةَ على الحرم القدسي.

3- هبّةُ بابِ الرحمة المقدسية في فبراير (شباط) 2019 رفضًا لإغلاقِ بابِ الرحمة من قبل قواتِ الاحتلال، الذي تمكّن المنتفضون بتاريخ 22-2-2019 من فتحهِ لأوّلِ مرّةٍ وأداءِ الصلاة فيه منذ أن أغلقته سلطاتُ الاحتلال عام 2003.

لكن هذه الهبات لم يجرِ تطويرُها، جرّاءَ إجهاض السلطةِ لبعضها عبرَ نهجِ التنسيق الأمني، فضلًا أن قياداتِ فصائلِ المقاومة لم تقم بما هو مطلوبٌ لتطويرها، وتهيئة المستلزمات الضرورية لتحويلها إلى انتفاضاتٍ شاملة.

هبّةُ القدسِ الرمضانيّة ومعركةُ سيف القدس التاريخية

وأخيرًا وليس آخرًا، جاءت هبة القدس الرمضانية منذ مطلع مايو (أيار) 2021 التي شارك فيها بشكلٍ نوعي أبناءُ شعبِنا في مناطقَ عامَ 1948، ردًا على خططِ تهجيرِ الفلسطينيين من حي الشيخ جراح ومن سلوان، وردًا على مسيرة الأعلام الصهيونية، والتي جرى إسنادها بمعركة سيف القدس التاريخية؛ لتخلقَ واقعًا جديدًا جرّاءَ هزيمةِ الكيانِ الصهيون أمنيًّا وعسكريًّا وسياسيًّا وإعلاميًّا.

وهبّةُ القدسِ مقترنةٌ بمعركة سيف القدس، تعاملت معها قيادةُ السلطة من منظورٍ مختلف، إذ أنها بدلًا من أن تبني على مخرجاتِهما لصالحِ المشروع الوطني الفلسطيني، راحت تعيد الاعتبارَ لخيار المفاوضاتِ الأوسلوي البائسِ بدعمٍ من الإدارة الأمريكية، ومن الرجعيات العربية، ولم تكتفِ بذلك بل دخلت في منافسةٍ مع سلطات الاحتلالِ في اعتقالِ فعالياتِ الهبة الشعبية والزج بها في المعتقلات، ووصلت الأمور بأجهزتها الأمنية لأن تفتك بالمتظاهرين من رجالٍ ونساء قمعًا وسحلًا بالشوارع، الذين تظاهروا ولا يزالون يتظاهرون احتجاجًا على جريمةِ اغتيالِ الناشط الوطني المعارض نزار بنات بطريقةٍ بشعةٍ وغير مسبوقة.

المصادر:

1-عليان عليان: دراسة بعنوان تطورات الانتفاضة وآفاقها، جريدة صوت الشعب الأردنية، 8 تموز (يوليو) 1990.

2- إحصائيات الانتفاضة الفلسطينية الأولى (بتسلم) نسخة محفوظة 4 يونيو 2011 على موقع واي باك مشين/الأسرى للدراسات: في ذكرى انتفاضة الحجارة، مركز الأخبار أمان -نسخة محفوظة 12 نوفمبر 2017 على موقع واي باك مشين (ويكيبيديا).

3- محمد حسنين هيكل: المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل (سلام الأوهام) أوسلو ما قبلها وما بعدها، دار الشروق، القاهرة، ط 9، 2010، ص 209-210.

4- هيكل: مصدر سابق، ص 210.

5-. جريدة السفير اللبنانية: 22- 12- 1988، ص 12.

6- هيكل: مصدر سابق، ص 211.

7- كلمة الكاتب والباحث عليان عليان في "مهرجان الوفاء لفلسطين من النهر إلى البحر وعاصمتها القدس" في جمعية مناهضة الصهيونية والعنصرية" بتاريخ 6-1-2018.

8- انظر خطة خارطة الطريق الصادرة عن اللجنة الرباعية الدولية عام 2002 -مركز المعلومات الوطني الفلسطيني، 7 مايو 2003.

9- محاضرة الكاتب والباحث عليان عليان في الذكرى (15) لاستشهاد أبو علي مصطفى وبمناسبة دخول الانتفاضة الثالثة شهرها الثاني عشر (2016) في قاعة الرشيد بمجمع النقابات المهنية/انتفاضة السكاكين Euronews 27-10-2017