Menu

الأم.. إكـــرام

د. أحمد الخميسي

للوطن عينان: شمس وقمر، وأنفاس ريح ونسيم، أما قلب الوطن فإنه الأمهات. في روايته ”الأم” قال مكسيم جوركي: ”لدى الأمهات دائمًا ما يكفى من الدموع كل شيء” ولعله يقصد أن لدي الأم من الحب ما يكفي البشرية كافة.

تكرمنا أمهاتنا بعشر سنوات على الأقل في طفولتنا إلى أن نصبح من بني آدم، كل يوم وكل دقيقة في تلك السنوات لا يرفعن أعينهن عنا لكي لا ندس بالخطأ إصبعًا في مقبس كهرباء، لكي لا نشرب بالسهو زجاجة خل على أنها مياه، ونحرك منضدة فتقع على رؤوسنا. لهذا كتب نجيب محفوظ يقول: ”المستهين بقدرات النساء أتمنى أن تعاد طفولته من غير أم”.

والأمهات يتمايزن، منهن الطيبة التي لا تتدخل في حياة أبنائها، ومنهن التي تقوم بالتعليم والتوجيه، ومنهن التي تحب أبناءها وتذرف دموعها في صمت، لكن أنبل الأمهات، أكثرهن إكرامًا لنا، تلك التي لا تكتفي بحنانها، بل وتمضي إلى جوار ابنها، تقاتل معه كتفًا بكتف، وتفتح صدرها للخطر معه لحظة بلحظة.

 أم إبراهيم الورداني الذي أعدم في الرابعة والعشرين من عمره في 28 يونيو 1910 لأنه أطلق النار على رئيس الوزراء المصري، وفسر ذلك في المحاكمة بقوله: ”قمت بذلك لأنه خائن للوطن”، أي دموع أجرتها أمه عند توديع الشعب له يوم إعدامه بغنوة: ”قولوا لعين الشمس ما تحماشي.. أحسن غزال البر صابح ماشي”.

وفي أيامنا هذه إذا دخلت ”فيس بوك” ستجد يوميًا لافتة ملونة تخاطب بها الأم إكرام الأصدقاء: ”صباح الأمل يا عشاق الأمل وحراسه.. ربنا يحميكم ويثبتكم ويقويكم وينجيكم وينصركم، وترجعوا تنوروا بيوتكم وسط أحبابكم”. إنها لا تبكي ابنها المحبوس إحتياطيًا من يونيو 2019 بتهمة نشر أخبار كاذبة، إنها تدوس على أشواقها الجارحة، وعلى أوجاعها، وتبث الأمل والقوة بإصرار، يوميًا، بنفس العبارة، ونفس الثبات. إنها لا ترفع عينيها عن ابنها زياد، حتى بعد أن كبر وأصبح رجلًا، إنها ما زالت تتبعه بصرها لحظة بلحظة، ويومًا بيوم.

أتذكر جدتي خديجة حين كان ابنها إسماعيل مطاردًا من الشرطة السياسية، ولا يظهر إلا ليلًا، يقف قرب الشرفة المطلة على الشارع ويصفر، فتخرج جدتي إلى الشرفة في الظلام، وتعطيه بقجة بها طعام وملابس وفلوس، ثم ترجع تبكي حتى الفجر، لكن جدتي الطيبة ليست إكرام، لم يكن بوسعها أن تقدم أكثر مما قدمته لابنها عام 1955 حين كانت المرأة محاصرة.

تفكر إكرام كل لحظة في زياد خلف الأسوار وتكتب: ”اليوم الحر صعب جدًا على اللي عنده سكر أو ضغط أو حساسية صدر.. وزياد ابني عنده التلاتة! ربنا يكون في عون سكان الزنازين”. تفكر فيه، وتكتب، لكنها لا تبكي، ولا تستعطف، وليس زياد وحده من يثير حزنها، لكن ”سكان الزنازين” كافة.

أتذكر أمهات من زمن آخر، والدة أول شهداء ثورة 19 الطالب محمد عزت بيومي الذي استشهد في 11 مارس بعد صدام بين المتظاهرين والجنود البريطانيين بالقرب من كوبري شبرا. أتخيل دموع الأم العاجزة وهي تتسلم جثمان ابنها شابًا مضرجًا بالدماء. عن أولئك الطلاب كتب عنهم عبد الرحمن الرافعي: ”لم يكن هناك أروع من أن الطلبة يقابلون رصاص البنادق بصدورهم”. وليس حتمًا أن يقابل الناس الرصاص بصدورهم، إذ أنهم قد يقابلون الكذب والخديعة بآرائهم، بكلماتهم، بمواقفهم.

تنشغل إكرام بابنها كل لحظة وتكتب: ”ما عرفتش أتنفس من الرطوبة قلت زياد ابني أكيد محتاج بخاخة تنفس. نزلت ورحت السجن سلمتها هناك. يا رب يوصلوها له، ويا رب ما يحتاجها أصلًا”. وأرى أمامي والدة أخرى من باب الشعرية، في 7 أبريل ارتقى ابنها رجب ابراهيم شهيدًا وهو طفل في الثانية عشرة خلال ثورة 1919، أي دموع ظلت تجرى ولا تجف في قلبها حتى نهاية العمر؟

يحل العيد، ويفرح الجميع، لكن قلب إكرام مشغول بابنها وتكتب: ”أعتذر عن تقبل أي تهاني.. عيدنا مؤجل!! المعايدة في هذه اللحظة بتوجع… حاولوا تضعوا أنفسكم مكاني. عارفين يعني ايه إجازة العيد أسبوع من السبت السبت؟ يعني أن أولادنا مقفول عليهم الزنازين من الجمعة ١٦ يوليو لغاية السبت ٢٤، تسعة أيام لا يشمون الهواء، ولو أحدهم تعب لا قدر الله أو عانى من ضيق تنفس أو هبوط سكر أو ارتفاع ضغط بسبب الحر، يا عالم هل يلحقون بإسعافه أم لا؟!! ربنا يستر على الجميع في الزنازين المقفولة تسعة أيام!! افرحوا بالعيد مع أولادكم وربنا يهنيكم، لكن لا ترسلوا إلى التهاني، لا تضعوا الملح على الجرح”.

أتذكر شهداء 25 يناير 2011، الأمهات، أم الشهيد ولاء الدين حسين التي قالت: ”كان أول فرحتي، وكان عائلنا الوحيد رغم صغر سنة”، وأم جابر صلاح الشهير بجيكا وأم سالي، وغيرهم كثيرين.

تقف إكرام عند باب السجن وتكتب: ”عدد كبير من الأهالي غير متأكدين -لغاية دلوقت- إذا كان فيه إمكانية لإدخال الأكل والأدوية لأولادنا بكره واللا لأ!! أنا وأمهات أخريات حضرنا الأكل بالفعل، وما زلنا منتظرين لنعرف: هل سيسمحون بدخول الطعام أم أن علينا أن نرجع به فيبقى أولادنا من غير أكل البيت مدة أسبوعين؟”. ومع تلك المشاق تكتب إكرام في اليوم التالي: “صباح الأمل يا عشاق الأمل وحراسه.. ربنا يحميكم ويثبتكم ويقويكم وينجيكم وينصركم، وترجعوا تنوروا بيوتكم وسط أحبابكم”. إنها لا تستعطف، لا تطلب، إنها تقاوم، وتقف كتفًا بكتف مع ابنها، بل مع كل المحبوسين، دفاعًا عن حرية زياد وحرية الآخرين كافة، لهذا تكتب قائلة: ”أم أحمد بدوي كل جريمته أنه رفع لافتة ”لا للتعديلات الدستورية” ووقف بها وحده في الشارع من غير حتى مظاهرة، ومحبوس سنتين بحجة التحقيق”.

أتذكر أمي حينما تم اعتقالي عام 1968، ونظرة عينيها التي بدا فيها كأن أحدًا قتل شخصًا بداخلها. كم من الأمهات قطعن الطريق إلى السجون بحثًا عن أبنائهن؟ تظل إكرام رافعة رأسها، وقلبها يخفق في قبضتها، وفي عينيها مئات المقاتلين ممن يفتحون صدروهم للخطر والسجن والمعاناة، ليس زياد وحده، وإن كان زياد في صميم القلب الذي تابعه من الصغر حتى الآن.

عام 1905 فشلت الثورة الروسية في روسيا، وعام 1906 نشر مكسيم جوركي روايته الشهيرة ”الأم”، وقصد بها إلى تبديد التشاؤم والاحباط السياسي، واتخذ من الأم ”بيلاجيا فلاسوفا” بطلة لعمله الأدبي، وكما قدمها فإنها امرأة فقيرة في الأربعينيات، انخرط ابنها بافل في الثورة على القيصر، فأخذت تتفهم دوافعه، إلى أن بدأت تمضي معه كتفًا بكتف توزع المنشورات وتحض على الثورة. يصفها جوركي قائلًا: ”ضربوها، لطموها على كتفيها ورأسها فمادت الأرض تحت قدميها، لكن عينيها لم تفقدا بريقهما، بل التقيتا بعيون أخرى كثيرة تلتهب بنار براقة جريئة أصبحت عزيزة على قلب الأم”.

تمشي إكرام إلى محبس نجلها تحمل الطعام لزياد وزملائه، وتكتب: ”صباح الأمل، يسقط أعداء الأمل”، تمشي بدون توقف منذ أكثر من عامين، وتبث الأمل والثقة لتبدد التشاؤم والاحباط، تمشي في قدميها أقدام كل الأمهات اللواتي لم يرفعن أعينهن لحظة عن الأبناء، تمشي في قدميها أقدام أمهات ثورة 19، وأمهات شهداء سجون الملك فاروق، وأمهات 25 يناير، كلهن يقطعن معها الطريق نفسه، كل يوم، وحتى حين تنام إكرام فإن قلبها يسير إلى هناك ليلًا، على طريق طويل ممتد شقته أمهات سابقات.

لمثل إكرام تقام التماثيل، وعن مثلها يقال ”الأم” حين تكون الأم وطنًا وحرية، وحينما تخفي دموعها لتنشر الأمل والشعور بأن الأحلام ليست مستحيلة. كان الشاعر بابلو نيرودا محقًا حين كتب: ”أحب قدميك لأنها مشت على الأرض، وفوق الريح، وعلى المياه، لكي تعثرا علي”.