Menu

سلسلةُ مقالاتٍ سينمائيّة 3: سينما فلسطينيّة- سينما "إسرائيليّة"!!

وليد عبد الرحيم

نُشر هذا المقال في العدد 28 من مجلة الهدف الإلكترونية

..إذن، لم تشكّل بداياتُ السينما العربيّة – على الرغمِ من ريادةِ الأخوينِ لاما – في صناعةِ الفيلم سينما فلسطينيّة، بل بدأت بتشكيلِ سينما عربيّة، لنقل بتعبيرٍ آخرَ: كان فيلمًا بُكوريًا عربيًّا، وذلك بفعلِ الحالةِ الواقعيّة، ولم يكن قد نضج أو ترسّخ التقسيمُ القُطري بعد. ولأنّ الهم "القُطري – الفلسطيني" لم يكن واضحًا في أفلامِ الأخوينِ لاما "الأعمى"، على الرغم من ولائِهما الوطني – العاطفي، الذي يتجلّى بإصرارِهما على عرضِ أفلامِهما في دورِ العرضِ الفلسطينيّةِ في القدس ويافا وحيفا وغيرها، وبتسهيلاتٍ ماليّةٍ للمستثمرين ودورِ العرض.

لم تكن النكبةُ قد وضعتْ أوزارَها بعد، وعندما حلتْ؛ اختلفت المعاني والتقييماتُ والسّماتُ والغايات، فأضحت الهُويّةُ المحليّة – وهي حتى الآن كذلك – جزءًا من أولويّاتِ الصّراع. وأكثرُ ما تجلّى ذلك في صراعِ الثقافةِ والفنِّ والتاريخ، وهنا وُلدت الهُويّةُ المحلية، وولدت الثقافةُ الهُوياتيّة مع القضية تزامنًا، وبمعناها الصراعي الوطني الواعي. أما كلّ ما كان قبلَ ذلك؛ فقد كان نوعًا من المواجهةِ والثبات، وهو ما انعكس تلقائيًّا على السينما، كما الأدبِ والفنونِ والمجتمع.

ربما ينبغي القولُ: إنه ليس هناك قضيّةٌ إشكاليّةٌ من حيث: الوصفُ والتصنيفُ النقديُّ لظاهرةٍ وطنيّةٍ وسياسيّةٍ كتلك التي تكتنفُ التعريفَ بالهُويّة الفلسطينيّةِ وتوابعها، ليس كتحديدٍ تاريخيٍّ أو وطنيّ، بل بحسبِ ما آلت إليهِ مفاصلُ الواقع، وما تجلَّى عن النكبة، حيث ساد في العالمِ جنونٌ حامٍ لمحوِ اسم فلسطين واستبداله بـ"إسرائيل"، وهو ما انسحب على متلقي مفرداتِ الثقافةِ العالميّة، مترافقًا مع محاولةِ تغييرِ اسمِ البلادِ والمدنِ بأسماء لا تمت لتاريخها، ولدوافعَ سياسيّةٍ كولونيالية، دُمغت المعالم بدمغةِ تزييفٍ نُقشت بنشاطٍ على الحجارة والشوارع والمطارات والمدن بنقشٍ عبريٍّ مفتعل، وهذا ما جعل التعريفَ بالهُويّة ملتبسًا داخلَ المناطقِ المنكوبة عام 1948، وهو ما انسحب بدورهِ ضرورةً على تصنيفِ الأدبِ والفنّ، ومن ذلك السينما ودورُها بكلِّ تأكيد.

وكما وقع الفلسطينيون المتبقون تحت حرابِ الاحتلال، وتحت فرض الهوية "الإسرائيلية" التي غيّبت لسنوات – في البداية – الهُويةَ الحقيقيّةَ للبلاد، واضطر المواطنون لحملِ هوية – صفة ليست لهم أو منهم. وبلغةٍ قديمةٍ أصلُها فلسطينيّةٌ منقرضةٌ أيقظتها العنصريّةُ الدينيّةُ الكولونيالية، المدعومة عالميًّا، وهو ما تمّم الهزيمة الآنية وقتها. انعكس ذلك على السينما، وصارت تُوصف بالسينما "الإسرائيلية" حتى وإن كان كل منجزوها من الفلسطينيين، فقد صار الفلسطينيون في مناطق 48 يوصفون عنوةً  بـ "عرب إسرائيل"، ورضخت الغالبيةُ لذلك خوفًا من التهجيرِ والقتلِ والإرهابِ والمجهول، وهو ما جعل السينما والسينمائيين الفلسطينيين في واقعٍ ملتبسٍ من حيث التعريفُ لفترةٍ طويلةٍ استمرّ نحو ربعِ قرن، وتواطأ العالمُ في هذا التصنيف - التعريف، حتى كان المخرج الفلسطيني، مثلًا، يعرّف نفسَه بالعربي الفلسطيني، بينما يصرّ العالم على تصنيفهِ بالإسرائيلي، لكن ذلك لم يستمرَّ طويلًا، فقد ظهرت الهُويّةُ الوطنيّة مجددًا بعد تأسيسِ منظمةِ التحرير، التي أعادت تعريفَ هذه الهُويّة، ومن ضمنِها الهُويّةُ الفنيّةُ والثقافيّةُ والتاريخيّة.

مجددًا، ما هي السينما الفلسطينيّة؟ من هو السينمائيّ؟ وهل يتمُّ التصنيفُ بحسبِ الهُويّةِ التي يحملُها أم الانتماء، أم الجغرافيا؟

تلك الأسئلةُ الشائكة، لا يمكن سؤالُها إلا في بلدٍ معيّن، ولشعبٍ وحيدٍ هو الشعبُ الفلسطيني، وينسحبُ ذلك على منجزاتِهِ المعرفيّةِ والثقافيّةِ وغيرِها، فهل يكونُ هناكَ مخرجٌ لمجرّدِ بقائِهِ في مناطق 48 إسرائيليًّا، وأخوه الذي في لبنان يسمى فلسطينيًّا؟!

في الواقع، فإنّ الفلسطينيين في البدايةِ لم يجيبوا على هذه الأسئلةِ بالشجاعةِ المطلوبة، وإن كانوا قد حدّدوا ملامحَ الشعبِ وسماته، والهُوية خاصةً في بنودِ الميثاقِ الوطني الذي أطلقته منظمةُ التحريرِ منتصفَ الستينات، وتبع ذلك هبَّة الكفاح المسلح.

عقبَ انطلاقِ الثورةِ المسلّحة، فعلت أفلامُها فعلَها في إعادةِ وصفِ السينما والسينمائي بالتزامنِ مع الوطني – الهوياتي، فأعادت – دون درايةٍ كافيّة – وبلا برنامجِ وعيٍ عميقِ التصنيفِ السينمائيّ الوطنيّ إلى أصله، وأنجزت أفلامًا، ودعمت سينمائيّين عربًا وفلسطينيّين، على الرغمِ من أن غالبيةَ الأعمالِ التي أنجزت كانت ساذجةً، وتندرج ضمنَ تصنيفِ "المجهود الحربي الثوري" مع بعضِ النوادرِ الناضجة المضيئةِ، وهي قليلة، وبغالبيّتِها وثائقيّةٌ لا روائيّة. كما تخاطب الذات لا العالم، وكان من السهلِ أن تمزجَ بين الرؤيتينِ والنوعين، فتنتج مثلًا، أفلام "ديكو دراما"، أو روائيّة طويلة، وهذه الأخيرة لم تتحقّق إلا في السبعينات.

على أية حالٍ فقد قدّمت هذهِ الأفلامُ صورةً حقيقيّةً ما، والأهمُّ من ذلك أنّها قدّمت أفلامًا أعادت التعريفَ لصيغتهِ الهُوياتية، كما دعمت صورةَ المقاتلِ إعلاميًّا، وإن كانت بتمويلٍ بسيطٍ وتقنيّاتٍ غيرِ متقدمةٍ على الرغمِ من ظهورِ أفلام، وسطوعِ أسماء أضحت مهمةً في تاريخِ السينما الفلسطينيّة والعربيّة، لا سيما منذ الستينات حتى ثمانينات القرن الماضي.

قامت كل من الجبهة الشعبية وفتح وبقية الفصائل بدورٍ وجهدٍ في مجالِ الصناعةِ السينمائيّة، لكن ذلك كان محكومًا بالفصائليّة، وبإظهارِ الدور المقاتل المسلح المباشر، ولم يكن ضمنَ منظومةٍ ذكيّة –للأسف ما زال الأمرُ كذلك – ولذلك لم يرتقِ الفيلم بمستواه الفنيّ، على الرغمِ من مساهماتٍ كثيرةٍ من قبلِ سينمائيّين مهمّين من فلسطينيّين وعرب، ومنهم من العراق ولبنان وسوريا و مصر وغيرها، لكنّ انعدامَ الاهتمامِ بالنظريّةِ الفنيّةِ المختصّة لدى المؤسّساتِ وعدمِ الاهتمامِ بالتمويلِ الجيّد جعل هؤلاء السينمائيين ينفرون من الواقعِ المتخلف للرؤيةِ والواقع، إلا أن ذلك بدورهِ حطّم أو ساعد مع الزمنِ مخطط الأسرلة داخلَ الوطن.

.. أتت الثمانينات فأعادت الوصفَ للسينما الفلسطينيّةِ باعتبارِها تضمّ كلَّ الجغرافيا الفلسطينيّة وذلك إثرَ نهوضِ السينما في المناطقِ المحتلّةِ عامَ 1948 وانتشارِها، وهو كذلك حتّى اليوم، على الرغمِ من إشاراتٍ تمويليّةٍ لمؤسساتٍ توصف بـ"الإسرائيلية"، وهو ما تزامن، بل تصاعد بدورهِ مع فشل الصهيونيّةِ في مشروعِ الأسرلة برمته، لكن السينمائيين كانوا داخل قفص الأسرلة وتحت ضغطٍ كبيرٍ جدًّا، أمني وسياسي، وتمَّ عزلُهم بعنايةٍ من قبل الكيانِ والأنظمةِ العربيّة، كي يفقدوا التواصلَ مع بقيّةِ أبناءِ شعبِهم، واستخدمت الأنظمةُ قصّةَ حملِهم للهُويّةِ الإسرائيليّةِ حجّةً لذلك، بل كانوا يوصفون بالخونةِ من قبلِ الأنظمةِ ذاتِ الاتّصالاتِ السريّةِ مع الكيان، وذلك ضمنَ مخططٍ تقاسمي صهيونيٍّ بامتياز. هؤلاء السينمائيون أسقطوا بجهودٍ فرديّةٍ وبراعةٍ محاولةَ أسرلة السينما، على الرغم من تعاونهم مع العديد من المؤسسات والسينمائيين اليهود ممن استوطنوا فلسطين، بل وحصلوا على تمويلاتٍ عدّةٍ من خلالِهم، لكنّهم نجحوا بذكاءٍ في إعادةِ تعريفِ فحوى السينما الفلسطينيّة وهُويّتها وسكتها الطبيعيّة، وهم ما زالوا سائرين بشجاعةٍ وحكمةٍ في هذا الاتجاهِ نحو سكّةِ المستقبل.

من ناحيةٍ أخرى، فشلت الصهيونيّةُ في خلقِ ظاهرةٍ سينمائيّة "إسرائيلية" ذات خصوصيّة "قوميّة" مميّزة، على الرغمِ من ضخامةِ الاهتمامِ وتمويلِ الأفلامِ العبريّة، واستجلابِ سينمائيين وفنيين يهود من شتى البلدان والأمم، ومن مستوطنين لأرضِ فلسطين يحملون "هُويّتها"، وذلك عائد إلى تفكّكِ الهُويّة، وهو محكومٌ بشرذمةِ الأصولِ والثقافةِ والتاريخ، هذه الميزاتُ التي لا يمكنُ تصنيعُها، والتي أثّرت وما تزال، وبرأينا سوف تستمرُّ حتى زوالِ الكيانِ عن فلسطين، على الرغمِ من أننا نرى أعمالًا جيّدةً وبحرفيّةٍ صناعيّةٍ عالية، لكن لا يمكن تسميتها بسينما "إسرائيلية"؛ فاللغةُ المنطوقة لا تكفي لصناعةِ هُويّةٍ سينمائيّة، مع كل هذا الاختلاف بالملامحِ والأصولِ الثقافية، وما زال البولوني يولد بولنديًّا، والمغربي مغربيًّا وكذا الروسي والفالاشا وووو، وهنا يكمن استعصاء، بل استحالةُ صناعةِ هُويّةٍ حقيقيّة، ومنها الهُويّة السينمائيّة.

من ناحيةٍ أخرى، فإنّ الفلسطيني – حتى وإن لم يشأ ذلك – فإنه يظهر تلقائيًّا باعتباره جزءًا من رحمِ الأرضِ والتاريخ، هكذا ببساطةٍ فشلت الأسرلة، فالسينمائيُّ المستوطنُ اليهودي لا يمكن أن يرى شجرةَ الزيتون من الزاوية نفسِها التي يراها صاحبُ أرضها، ولا أن يشتمَّ رائحةَ الزعتر كما يشتمّ عبقَها أيُّ فلسطيني. يتضمّن ذلك أننا إن تتبعنا المسيرةَ من خلال صفاتها المرحليّة منذ عام 1948 حتى الساعة، نجد خطًّا بيانيًّا تصاعديًّا يذهب نحو عمق الهُوية مبتعدًا عن التسميةِ المزيفة، نحو الهُويّة الحقيقيّة التي كانت تعاني طمسًا مركزًا في مناطقِ الاحتلال عام 1948، ثم في مناطق 1967 التي قيّدت بالحكم العسكري والاضطرابات المسلّحة، ولكن العمق الانتمائي ظلَّ ينمو تدريجيًّا من تحت طاولةِ المونيتور، حتى عادت الأمور اليوم إلىٍ موقعِها وتسميتِها الحقيقية "سينما فلسطينية" تعني وتضمُّ أماكن وجود الفلسطينيين كافةً، وتتقدمها من حيث القدرةُ الفنيّةُ العالية، الفئة التي كان يراهن عليها بالذوبان، حيث يبدو اليوم في المهرجاناتِ السينمائيّة أبناءُ مناطقِ النكبة الأولى في المقدمة.

بالمقابل هناك تراجعٌ مستمرٌّ لدى ما يسمى بالسينما "الإسرائيلية" لسببين، أولهما ما ذكرناه عن مؤثراتِ الأصول والقوميّة والهُوية، وكذلك فشل أوهام وعود أرض الميعاد، ووعد الربّ واللبن والعسل ونفي وجود الآخر، ولهذا يعود العديد من المستوطنين اليوم إلى أوطانِهم، ومنهم مثقفون وسينمائيّون ولدوا في فلسطين حتى، فقد سقط وهمُ المجتمعِ الواحد القائم على الأسطورةِ والأوهام، ولم يقدر على حفظهِ لا دينٌ ولا أسطورة، بل قوّةٌ عسكريّةٌ تدميرية، ودعم محلي وعالمي. كما عاد الفلسطيني إلى روحِ ثقافتهِ، حتى وإن لم يشأ ذلك، وعلى الرغم من طريقةِ أوسلو فقد نهضت ببطءٍ أسماءٌ وأفلامٌ في مناطقِ الضفة وغزة، وفي الشتات عشرات المهمين سينمائيًّا يعبرون عن استمراريّةِ البقاء.

قد يصنعُ السينمائيّ فيلمًا عن "سبارتاكوس" مثلًا أو عن سقراط، لكنّ إنجازَهُ لا بد أن يحتويَ بيئتهِ المحليّة، فيضفي على الصورةِ شيئًا من رائحةِ ثقافتِه، وقد لاحظتُ أن حجمَ الكادر، بل زاوية الكاميرا والإضاءة وعشرات المناحي والتقنيّات الفنيّة، تختلف بخصائصها بحسبِ الثقافةِ والانتماءِ والإيديولوجيا والمكان – الوطن، هكذا يتمُّ تشكّل خصوصيّةِ هُويّةٍ فنيّةٍ ما.