Menu

حسابات المكسب والخسارة فى أفغانستان

د. محمد السعيد إدريس

بوابة الهدف الإخبارية

الإشارات المهمة التى عبرت عنها إدارة الرئيس الأمريكى جو بايدن بالحرص على الحفاظ على الزعامة الأمريكية المتفردة على العالم، والحيلولة دون تمكين الصين من امتلاك القدرة على منافسة الولايات المتحدة فى هذه الزعامة، على النحو الذى كشفت عنه بوضوح الجولة الأوروبية الأولى للرئيس الأمريكى جو بايدن فى يونيو الماضى والقمم الثلاث التى عقدها فى بروكسل خلال تلك الجولة (قمة الدول السبع الكبرى، القمة الأمريكية- الأوروبية، وقمة حلف شمال الأطلسى) ثم القمة الأمريكية – الروسية فى جنيف (16 يونيو 2021) كانت ومازالت كلها إشارات تؤكد هذا العزم الأمريكى على الاستمرار فى التفرد بالزعامة العالمية الأمر الذى فاقم من ارتباك رؤى وتفسيرات المراقبين فى معظم دول العالم لأسباب وخلفيات الاندفاع الأمريكى فى الانسحاب من أفغانستان.

فريق مهم من هؤلاء المراقبين مازال مقتنعاً بأن الولايات المتحدة التى تجمع كل قواها لاحتواء القوة الصينية وإحباطها للتفرد بالزعامة العالمية لا يمكن أن تكون قد انسحبت من أفغانستان انسحاباً اعتباطياً، ولكنه حتماً انسحاب مدروس بتنسيق مع الشركاء الجدد، أى حركة "طالبان" وبرعاية من الوسيط ال قطر ى الذى رعى جولات التفاوض المتعددة بين الأمريكيين وزعماء حركة "طالبان" فى العاصمة القطرية الدوحة، ووصل فى النهاية إلى توقيع اتفاق الانسحاب الأمريكى فى 29 فبراير 2020، وقضى بانسحاب الأمريكيين من أفغانستان خلال 14 شهراً من ذلك التاريخ. هذا الاتفاق تم من جانب الإدارة الأمريكية السابقة للرئيس دونالد ترامب، أى الإدارة الجمهورية، وكان من المقرر أن يكون يوم 11 سبتمبر المقبل (ذكرى تدمير أبراج التجارة العالمية فى نيويورك عام 2001) هو يوم خروج آخر ما تبقى من القوات الأمريكية.

وعندما جاءت الإدارة الجديدة للرئيس جو بايدن لم تغير شيئاً فى ذلك الاتفاق، وأبقت على رئيس المفاوضين الأمريكيين السفير زلماى خليل زاد (أفغانى الأصل)، ليواصل الإشراف على تفاصيل تنفيذ الاتفاق ومن بينها ترتيبات الانسحاب الأمريكى، وما بعد هذا الانسحاب. كل ما فعله الرئيس جو بايدن هو التعجيل ثلاثة أسابيع فقط لإكمال الانسحاب الأمريكى ليكون نهاية أغسطس الجارى لتفادى الأبعاد الرمزية الأليمة ليوم 11 سبتمبر لدى الأمريكيين.

هذا يعنى أن قرار الانسحاب الأمريكى معروف للعالم كله، على الأقل منذ توقيع الاتفاق مع حركة "طالبان" لكن الجديد هو الانهيار السريع والدرامى لنظام كابول الحليف لواشنطن وهروب الرئيس أشرف غنى، واستسلام القوات الأفغانية، باستثناء ذلك ليس هناك ما يقدم دلائل على أى مفاجأة فى أمر الانسحاب الذى دافع عنه بضراوة الرئيس الأمريكى جو بايدن ابتداءً من مؤتمره الصحفى الذى عقده لتوضيح خلفيات الانسحاب يوم الخميس (8/7/2021) وما تلاه من مؤتمرات وحوارات ، كان العامل المشترك فيها أن الانسحاب الأمريكى من أفغانستان انسحاب مدروس وله أسبابه المعلنة، لكن ربما تكون له أسباب أخرى غير معلنة وهى الأهم من منظور إدارة الصراع الأمريكى مع الصين وحلفاءها.

وهنا يقول أصحاب هذا الفهم أن هذا الانسحاب الأمريكى يرمى إلى تحقيق مكسبين مهمين؛ أولهما وقف الاستنزاف للقدرات الأمريكية فى أفغانستان لتجنب المصير السوفيتى السابق والأليم فى أفغانستان، أى الخروج الإرادى من أفغانستان قبل أن يتحول الاستنزاف المريكى فى أفغانستان إلى سبب لانهيار وتفكك الولايات المتحدة على نحو ما حدث للاتحاد السوفيتى الذى لم ينسحب من أفغانستان إلا تحت هول ضغوط التفكك والانهيار. أما المكسب الثانى فهو تصدير المستنقع الأفغانى لأعداء واشنطن وبالذات للصين ول إيران ولروسيا، وجعل الحليف الأفغانى الجديد "حركة طالبان" شوكة فى حلق الصينيين والإيرانيين والروس، بهدف إشغالهم بالصراعات فى أفغانستان وجعل أفغانستان مستنقع استنزاف وإشغال للصين وإيران وروسيا.

على العكس من هذا الاتجاه يرى الفريق الآخر من المراقبين أن الولايات المتحدة لم تنسحب إرادياً بل انسحبت اضطرارياً، وأنها بالفعل لم تعد قادرة على مواصلة القتال على الأراضى الأفغانية. ويشبهون هذا الانسحاب الأمريكى الاضطرارى بأنه انهزام بالنقاط أمام حركة "طالبان" تجنباً لهزيمة أشد بالضربة القاضية كانت ستكون بمثابة إعلان مدوى لسقوط الولايات المتحدة .

تفاصيل كثيرة عن الانسحاب الأمريكى وعن مفاوضات الأمريكيين فى الدوحة مع حركة "طالبان" مازالت محجوبة، لكن ما وصل منها إلى حلفاء الولايات المتحدة جعلهم شديدى الاستياء من القرار الأمريكى المنفرد على حد وصف تونى بلير رئيس الحكومة البريطانية الأسبق شريك جورج دبليو بوش فى غزوه لأفغانستان عام 2002 . هؤلاء الحلفاء يتحدثون عن أمر واقع جديد كسبت فيه حركة "طالبان" وانهزم فيه الأمريكيون ، لذلك بدأوا فى إعداد مشاريع التفاهم المستقبلى مع حركة "طالبان".

ففى مقاله الذى كتبه على الموقع الإلكترونى لمؤسسته وصف تونى بلير التخلى الأمريكى عن أفغانستان وشعبها بأنه "أمر مأساوى وخطير وغير ضرورى وليس فى مصلحتهم (الأمريكيين) ولا مصلحتنا (الحلفاء الأوربيين)". وقال أن الانسحاب "جاء امتثالاً لشعار سياسى غبى حول (إنهاء الحرب الأبدية التى ليست لها نهاية)"، ويقصد الشعار الذى ظل يردده الرئيس جو بايدن طيلة حملته الانتخابية. واعتبر بلير أن قرار الانسحاب "لم يكن مدفوعاً باعتبارات استراتيجية ولكنه جاء لاعتبارات سياسة". أى أنه استجابة لصراعات سياسية أمريكية داخلية بحتة.

يدعم هذا الفهم ما جاء على لسان وزير الخارجية الفرنسى جان إيفل ودريان من إظهار الاستعداد للتعامل مع الواقع الأفغانى الجديد والاعتراف بشرعية حكم حركة "طالبان" ولكن بشروط خمسة حددها هى: أن تسمح "طالبان" بخروج الأفغان الراغبين فى مغادرة بلادهم، وأن يحولوا دون تحويل بلادهم إلى ملاذ آمن للإرهابيين بالأفعال وليس بالأقوال، وأن يسمحوا بوصول المساعدات الإنسانية إلى الأراضى الأفغانية، وأن يحترموا الحقوق الإنسانية وفى مقدمتها حقوق المرأة، أما الشرط الخامس فهو تشكيل حكومة انتقالية .

اعتراف الغرب بالهزيمة أحد مؤشرات ما يريد هذا الفريق تأكيده من أن الانسحاب الأمريكى من أفغانستان اضطرارى ومؤشر فعلى لإفول العصر الأمريكى ، لكن يبقى الأهم هو إدراك المنافسين الكبار : الصين وروسيا وإيران بأن هذا الانسحاب فرصة لإجهاض ترتيبات أمريكا العدوانية فى جنوب شرق آسيا وتطور مهم فى معركة كسب الحلفاء فى مواجهة الولايات المتحد. ما هى فرص ذلك؟ سؤال مازال فى حاجة إلى المزيد من التحليل .