Menu

الاتّحادُ الأوروبي وأمريكا وتوازناتُ القوّة بين الدور والنفوذ

حمدان الضميري

نُشر هذا المقال في العدد 29 من مجلة الهدف الإلكترونية

مع نهايةِ مجرياتِ الحرب العالميّة الثانيّة، وخروجِ دول أوروبا واقتصادها مدمرةً ومقسّمةً في ولائها لقوتينِ عالميتين، خرجتا منتصرتين، وفارضتينِ واقعًا دوليًّا جديدًا من التحالفات، أو التبعيات لهما، هذا الواقع الجديد اختصر نفسه بواقع الحرب الباردة؛ عملت الولاياتُ المتّحدةُ الأمريكيّة على الاستثمار فيه، وفرض نفسها زعيمةً، لما أطلقت عليه بالعالم الحر، وكانت الساحةُ الأوروبية الساحةَ الرئيسية لهذه الحرب اللاعسكرية. لذلك سعت أمريكا لربط دول أوروبا الغربية بعلاقةٍ تبعيةٍ على الصعيدين الاقتصادي والعسكري؛ وهنا نذكر مشروع مارشال الأمريكي الهادف لإعادة بناء الاقتصاديات في دول أوروبا الغربية؛ لتكون جزءًا من اقتصادٍ عالميٍّ تحت مظلة الاقتصاد الأمريكي، الذي خرج قويًّا مع نهاية الحرب العالمية الثانية، لدرجة أن حصة هذا الاقتصاد من الإنتاج العالمي آنذاك زاد عن نسبة 50٪ في الوقت الذي كان اقتصاد دول أوروبا الغربية الحليفة لأمريكا لعشراتِ السنوات لإعادة بناء ما دمرته هذه الحرب.

على الصعيد العسكري؛ قامت الولايات المتّحدة الأمريكية بإنشاء حلف شمال الأطلسي؛ ليكون الذراع الضاربة لها في حالة نشوء نزاعات عسكرية سواءً في أوروبا أو في مناطقَ جغرافيةٍ أخرى. هذه المعطيات الاقتصادية والعسكرية بنت علاقة من التبعية شبه الكاملة لدول أوروبا الغربية، للسياسة والاستراتيجية السياسية الأمريكية على الصعيد العالمي.

طبعًا، من المفيد التذكير بأن القوة العالمية المقابلة قامت بإنشاء تحالفٍ اقتصاديٍّ وعسكريّ (حلف وارسو) للرد على الخطوة الأمريكية. بعد هذه المرحلة من علاقة التبعية من دول أوروبا الغربية للسياسة العالمية للولايات المتحدة اقتصاديًّا وعسكريًّا؛ قامت قياداتُ كلٍّ من: فرنسا وألمانيا، بالتوافق بينها على تقديم اقتراحٍ مشتركٍ لدولٍ أوروبيةٍ أخرى؛ لإنشاء مجموعةٍ اقتصاديةٍ مشتركةٍ لبناء سياساتٍ موحّدةٍ في مجالات: الحديد، والصلب، والفحم الحجري...؛ وهذا لأهمية هذه القطاعات الاقتصادية في مسار إعادة بناء الاقتصاد الذي دمرته الحرب العالمية الثانية، هذه الدول التي شاركت ببناء المنظمة الأوروبية للحديد والصلب، هي: فرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، وبلجيكا، وهولندا، ولكسمبورغ، وكان ذلك عام 1952، وهذه بدايةُ مشروعٍ اقتصاديٍّ وسياسيٍّ أوروبيٍّ تطوّر مؤسساتيًّا إلى أن وصل عام 1992 بإنشاء الاتحاد الأوروبي، هذا الواقع أسس لميلاد قوّةٍ اقتصاديةٍ عالميةٍ بدأت تبحث عن طريقها في عالم تسوده الصراعات والحروب والتنافس الشديد على كسب الأسواق العالمية؛ حتى لو اقتضت الحاجة لإشعال حروبٍ بالوكالة أو بمشاركةٍ مباشرة، كما جرى في حالة الحرب الأمريكية على العراق سنة 2003.

إنشاء الاتحاد الأوروبي خلق واقعًا جديدًا من العلاقات الأمريكية الأوروبية؛ إنه واقعُ الشراكة والتكامل في إطار استراتيجيات متفق عليها بين الطرفين، حاول كل من جورج بوش الابن وترامب الابتعاد عن هذه المعادلة، لكن سياسة كلٍّ منهما اصطدمت بواقعٍ عالميٍّ أوصل كليهما لطريقٍ مسدود، والآن تعود إدارة بايدن الجديدة في الولايات المتحدة لفتح حوارٍ مع الاتحاد الأوروبي؛ لإعادة صياغة علاقة بينهما؛ تقوم على قراءةٍ مشتركةٍ لتحديد قواسهما المشتركة لعالمٍ متعددِ الأقطاب، حيث يسعى الاتحاد الأوروبي؛ ليكونَ أحدهما على صعيد السياسة العالمية.

هنا قراءتي لهذا الحوار الثنائي بين أهم قوتين اقتصاديتين عالميتين في بنية الاقتصاد الحر، القائم على فكرة الليبرالية المعولمة؛ سيوصلهما لبناء تفاهمٍ جديدٍ مبنيٍّ على تكامل المصالح والشراكة عند الضرورة، لمواجهة أقطابٍ اقتصاديةٍ أخرى فاعلةٍ على الصعيد العالمي، مثل: الصين، وروسيا، والهند، والبرازيل، وقوى أخرى اقتصاديةٍ صاعدة.. يبقى أن للولايات المتحدة امتلاكَها القوةَ العسكريةَ التي يفتقدها الاتحادُ الأوروبي؛ لأنه لم يطوّر سياسةً دفاعيةً مشتركةً بين مكوناته، وهذه النقطة تجعل علاقات المصالح والتكامل تميل للاعب الأمريكي.. ما من أدنى شك أن العالم في السنوات والعقود القادمة هو عالم تعدّد الأقطاب، وعالم فيه تقاطع المصالح المشتركة بين القوى الاقتصادية العالمية، التي تعرف بروز قوى اقتصادية صاعدة؛ لم تكن سابقًا في الحسبان.

الاتحاد الأوروبي مقبلٌ على تعزيز علاقاته الاقتصاديّة مع الصين، في الوقت الذي بدأت فيه ألمانيا، وهي قوته الاقتصادية الأولى دون منازع؛ ببناء مشاريعَ ضخمةٍ لجلب الغاز الروسي لدول أوروبا الغربيّة والوسطى؛ إنّها لغة المصالح المشتركة، وهي التي ستسود في العقود القادمة، وهذه العقود نفسها سوف تشهد تراجعًا حادًّا في الأيديولوجيا.