Menu

حقيقة الهوية العربية ونماذج الطائفية والعرقية

د. المحجوب حبيبي

نُشر هذا المقال في العدد 29 من مجلة الهدف الإلكترونية

أكيد أن هناك عوامل وشروط أدت بالضرورة إلى فشل حركاتنا وأحزابنا السياسية وتياراتنا الفكرية: (الليبرالية والقومية واليسارية...) في تحقيق أياً من تلك البرامج والشعارات وكل ما وعدت به من وعود، قيل إنها تعبر عن تطلعات الشعوب العربية في التحرر والتقدم والتنمية، ولماذا لم تلتف تلك الشعوب حول ما قدم لها من مشاريع وشعارات؟ وعلى طول الساحة وعرضها لم تستطع القوى (القومية واليسارية) التي وصلت للحكم من تحقيق أي مما وعدت به من برامج، وحتى التجارب التي قيل عنها ناجحة عرفت نكسات مُرة... وتحالفت ضدها القوى الإمبريالية والرجعية لكي تعرقل تطورها...  حتى لا تكمل دورة نموها، وحتى لا تجدر حضورها...! وعرفت الأنظمة ذات التوجهات القومية الممانعة استهدافات مختلفة دعائية تضليلية قل نظيرها إلا في الحرب الباردة، بفعل العوامل الاستعمارية والتدخلات والمؤامرات التي شارك فيها أكثر من طرف وصلت حدود التدخل السافر بكل اشكال العدوان من مخططات واستقطابات على قاعدة التجزئة الطائفية والعرقية وتبدو النماذج صارخة بالشرق بكل من العراق وسوريا و مصر واليمن وليبيا... حماية لمصالح الوجود الصهيوني بالمنطقة. ولم تنجو القوى المناضلة والأحزاب والجبهات الشعبية من التفتيت حيث انبثقت عنها عدة تنظيمات وجبهات قزمية، ولم يستمر منها إلا القوى المناضلة التي تتبنى الكفاح المسلح رغم العدوان الإمبريالي الصهيوني الرجعي في محاولة اجتثاثها والقضاء عليها، وذلك لأهداف استراتيجية تعرفها قوى العدوان.

وتعيش بلدان المغرب العربي هجوما استعماريا وصهيونيا ورجعيا وبأدوات ووسائط مغاربية تستهدف الثقافة العربية وتحقر وتبخس اللغة العربية والفكر القومي في محاولة لتنشئة جيل منفصل عن كينونته وممزق الشخصية ومستلب، وغارق بعض منه في العرقية التي يروج لها غلاة الأمازيغ الذين يمجدون الصهيونية ويفخرون بالعلاقة معها... ومع الحضور القوي للحركات الإسلامية تشكلت تيارات طائفية مستندة للمرجعية الدينية وما تروجه من أحكام وأراء. ودون كبير جهد استطاعت أن تستقطب بسهولة على قاعدة الإيمان والمشاعر الطائفية؛ جماعات من المواطنين الذين يتصفون بالامتثال والاستجابة لأوامر الفقهاء الشيوخ الذين حضروهم للانخراط في التنظيمات الإرهابية بمختلف مسمياتها (القاعدة أو طلبان أو داعش أو النصرة...). وهكذا انخرط العديد من الشباب المغربي تحت تأثيرات خطب شيوخ السلفية ليكونوا في خدمة استراتيجية الإمبريالية والصهيونية والرجعية العربية دون وعي منهم في الجهاد الأفغاني مع القاعدة وبعدها مع التنظيمات صنيعة أمريكا والغرب الاستعماريين لتدمير سوريا وطنا وجيشا وشعبا وتقسيم وإضعاف محور المقاومة وتحقيق مخطط الشرق الأوسط الجديد وإنهاء أي أمل في الوحدة.

لكن الذي يؤسف له كون جل حركات اليسار مع استثناءات قليلة؛ وقعت في شراك التضليل الاستعماري واستمرت تصر على اجترار الأفكار الخاطئة صنيعة دوائر الاستعمار الجديد وما ترومه من تسفيه للفكر القومي وتحقيق الوحدة العربية، علما أنها من الممرات التاريخية الإجبارية، بل وتعمد إلى ترويج دعايات إعلام العدوان الإمبريالي الصهيوني الرجعي، وتكرار مقولاته في راهن عربي ملتبس وشائك بات يتطلب إعادة طرح الأسئلة الأساسية، ونقد قواعد التفكير ومراجعة المسلمات والبديهيات، وتفكيك المقولات والشعارات الكبرى لإعادة مقاربتها بصورة مغايرة بما يتناسب مع متطلبات المرحلة التي أدركها تطور تشكيلتنا الاجتماعية.

وأمام مباهاة البعض بعرقيته حد العنصرية؛ طارحا التفوق العرقي وسؤال الفارق بين الإثنيات؛ علما أن الجواب "العرقي" فقد قيمته شيئاً فشيئاً مع تطور علم الوراثة البشري؛ إذ أن الإنسان بالأساس كائن ثقافي، وعملية التطور الطويلة من حيوان إلى إنسان والتي بدأت قبل عشرة ملايين سنة؛ انطوت في جوهرها على الانتقال من التكيّف الوراثي مع البيئة الطبيعية إلى التكيّف الثقافي. وعبر مسيرة ذلك التطور الذي أدى إلى نشوء الإنسان العاقل أي الإنسان الأول؛ تراجعت الغرائز تراجعاً كبيراً، وحلّت الثقافة تدريجياً محلها وهو التكيف الذي تمكن الإنسان من السيطرة عليه. وقد تبين أن هذا التكيّف أكثر فاعلية من التكيف الوراثي لأنه أكثر مرونة وأسهل وأسرع قابلية للانتقال، والثقافة لا تتيح للإنسان التكيف مع بيئته فحسب، بل تتيح له إمكانية تكييف هذه البيئة لحاجاته ومشروعاته.

بمعنى آخر؛ الثقافة تجعل تغيير الطبيعة أمراً ممكناً، وتقدم الإنسان على أساس المساواة وصون الكرامة الإنسانية والعدل والتشارك والتبادل والتعاون؛ أصبح مطلبا ملحا.

وينبغي أن يعرف دعاة العرقية والتميز العرقي أن البشر؛ جميع البشر يمتلكون المخزون الوراثي نفسه مع اختلافات طفيفة بفعل عوامل التأثير البيئية، لكنهم يختلفون عن بعضهم في المقومات والمعطيات الثقافية، حيث يستطيع كل شعب من إيجاد الحلول الملائمة لمشكلاته الفكرية ورؤاه ومعتقداته التي تمثل تطبيقا للمبادئ الثقافية العامة والخاصة، وبفعل تأثير عوامل الوحدة الثقافية التي أصبحت تجمع البشرية، خصوصا في زمن العولمة، حيث أصبح الكثير من التطبيقات الموروثة من طائفية وعرقية عرضة للتطور، بل وللتغيّر. وبالتالي يبدو أن مفهوم الثقافة يعد أداة مناسبة لوضع حد للتفسيرات الطبيعية، للتصرفات البشرية. وطبيعة الإنسان يمكن تفسيرها كلها من خلال الثقافة، والاختلافات التي تبدو شديدة الارتباط بالخصائص البيولوجية الخاصة مثل اختلاف الأجناس، على سبيل المثال، لا يمكن ملاحظتها أبداً في حد ذاتها "في الحالة الأصلية" (الطبيعية)، لأن الثقافة تستولي مباشرة على: التقسيم الجنسي للأدوار وللمهام في المجتمعات البشرية كل ذلك ينتج أساساً عن الثقافة، ولهذا نراها تتنوع من مجتمع لآخر.

فهناك تجليات مختلفة؛ فاختلاف هذه التجليات يأتي من خصوصيات الوضعيات التي نشأت فيها هذه الثقافة، لكننا سنحاول أن نخص العام والمشترك بين الثقافات العربية المشرقية والمغاربية على حد سواء. خصوصا فيما يتعلق بعوامل وأسس التعصب والتطرف والإرهاب... كما سنبين لاحقا.

إن ما ينبغي تسجيله هو أننا كنا نتحدث في القرن العشرين عن إشكالات للثقافة العربية ملخصة بمسألتي التقدم والحرية، فإذا بنا الآن نتحدث عن مشكلات جديدة، في مقدمتها مشكلات تتعلق بالوجود والتاريخ؛ برزت معها مشكلات ثقافية شديدة الحدة طائفية وعرقية وعنصرية، كل منها تريد أن تجد موقع قدم على الخريطة الثقافية / السياسية، ومفتوحة على كل الاحتمالات... فالعولمة كنظام عالمي جديد يشيع ثقافة البضاعة والاستهلاك والقوة والسيطرة، ويذكي النعرات العرقية بين الشعوب المتخلفة ويكبح التطورات المطلوبة، وهذا النهج أثر على ثقافات التقليدية في العالم ومن ضمنها الثقافة العربية الإسلامية، حيث تم إحياء كل النعرات والنزعات لأجل تمزيق الشعوب العربية الإسلامية وتأبيد تخلفها، وهذا التأثير عميق لا يفهم إلا بعد أن نستوعب ما هو هذا النظام العالمي الجديد ومقاصده ولِمَ أثر بهذه الكيفية الهائلة على الثقافات العربية الإسلامية وجعلها تستسلم للتوجهات والمقاصد العدوانية المخربة.., (وهذا يطول شرحه).

وتنبغي الإشارة إلى أن المغرب لم يعرف الطائفية على شاكلة بلدان الشرق العربي وبخاصة بلاد الشام وذلك راجع في اعتقادنا لتبني حكام المغرب الوحدة المذهبية (المذهب المالكي) وهو مذهب سني، وذلك بعد سقوط الدولة الفاطمية كدولة شيعية، حيث تم اجتثاث مظاهر التشيع. ولكن ليس معنى هذا أن المغرب لم يعرف الطائفية تماما، بل وعلى العكس من ذلك حلت الزوايا محل الطوائف وصار لكل زاوية مورديها وطقوسها وقواعدها ومواسمها وهناك زوايا مرتبطة بالشرق كالزاوية القادرية وأخرى كثيرة ومحلية صرفة ومنها ما هو ممتد إلى إفريقيا وكلها تستفيد من الريع والعطاءات والهيبات التي يمنحها لها النظام ومن ثمة فهي تابعة للنظام ومناصرة له، إلى جانب أدوارها في تأطير مورديها الذين يقدسون الزاوية التي يتبعون سننها وقواعدها المرعية، وهذا التقديس يشكل منهجا فكريا لفك الرموز والطلاسم الطبيعية، وكان أيضا خطة استراتيجية فعالة من أجل خلق اللحمة الخاصة والضرورية لاستمرار تكتل الموردين حول زاويتهم وتمتعهم بالإشباع الوجداني الذي تحققه لهم الطقوس والأوراد التي يتداولونها.

ما يمكن استنتاجه من الملاحظات؟

أول استنتاج يؤكد أنه حين يغيب الحراك الثقافي والسياسي والاجتماعي في بلد ما تحل محله قوة بديلة. فحين أخفقت المشاريع النهضوية العربية الاشتراكية والعلمانية والديمقراطية... برز الخيال الديني الأصولي الذي يرفض التعددية ويؤسس على وحدانية الوجود وبالتالي على الجميع أن يصبحوا ممتثلين وخاضعين. كما يريد أصحاب هذه النظرية أن تمر العلوم الاجتماعية والطبيعية والاقتصادية والفلسفة عبر بوابة هذه الأسلمة، ويطبع الناس بطابعها لتسيطر على إرادتهم وعلى هيئاتهم، وبذلك وتدريجيا تهيمن بشمولية على المجتمع وتجعل كل شيء تابعاً لحركة واحدة وإيقاع واحد، وهذا يؤسس للخراب وللموت السريري.

ثاني استنتاج وهو أن الثقافات التاريخية والمزهوة بانتصاراتها وماضيها الممجد؛ تحاول في فترات الهزائم العودة إلى الماضي مستنجدة بالأمجاد الغابرة وما تشربته أجيالها من أيديولوجيا مصرة على أن تعيد التاريخ إلى الوراء أو أن توقف صيرورته بأي شكل من الأشكال... والشكل المرشح عندنا هو طلبنة المجتمعات الإسلامية والعربية وكل الطرق مبررة ومسموح باجتيازها؛ تجد سندها فيما وفرته الثقافة الوهابية من أسانيد وحجج ومعتقدات... لأجل أسلمة المجتمع حتى ولو بتدميره، لذلك يجب مواجهة نظرية أسلمة المجتمعات عبر البدائل العلمية والمعرفية والوطنية الديمقراطية، بكل جرأة وبنفس طويل وثقة وممارسة يومية في أوساط الجماهير.

الاستنتاج الثالث يتمثل في ضرورة أن نتخلص من نظرية المؤامرة وأن نفهم ونستوعب جيدا أن كل الآفات والمشكلات تأتي أولا من داخلنا من عمقنا الثقافي وما يحمله من استبداد؛ فالمشكلات العظمى في الداخل كمشكلة العدل والحرية والثقافة لم تحل بعد. نلاحظ الملايين من الشباب يعجزون عن تلبية احتياجاتهم اليومية، ما يجعلهم يبحثون عن بديل، وقد يكون ذلك البديل نزوعا عرقيا يهدم ويفكك المخالف والمغاير ولو بالتحالف مع الصهيونية قصد تدمير العروبة.

الاستنتاج الرابع هو أن البديل الذي توفره الثقافة إياها يتلخص بثلاث رحلات أولها رحلة إلى السماء، حيث يجد المؤمن نفسه أصبح داعية من دعاة السماء؛ بمعنى أن الإسلام هو الذي يقدم الحل، وبذلك يكون قد رفع في وجه الآخر تحدي الهوية والتميز وحقق انتصارا وهميا على الثقافة الكافرة التي هي الحداثة.

رحلة النبش في العرق وتميزه وسموه ورسم ملامح تمجيده واصطناع تاريخا مميزا وتليدا؛ رحلة نحو أفق مظلم قد يؤدي إلى تمزيق الوطن وضرب وحدته وتخريب مقومات وجوده... تنفيذا لمخطط التجزئة الذي تم إفشاله..!